متلازمة ما بعد الكورونا، أو كورونا طويلة الأمد (Long Covid)، تضرُّ بالجهاز العصبيّ والإدراك، لكن أقلّ ممّا كُنّا نخشى. ولماذا يعتبر هذا الخبر سارًّا لمن يعانون من الأمراض النّادرة؟

تؤثِّر جائحة كورونا على حياة المليارات حول العالم. حتّى يومنا هذا، أُصيب أكثر من نصف مليار شخص بالفيروس، وتُوفّي أكثر من ستّة ملايين. لكن حتّى أولئك الذين مرِضوا وتعافوا ليسوا بالضرورة معفيين من الأعراض: التعافي في كثير من الحالات هو مجرَّد بداية للمرحلة السريريّة التالية - متلازمة ما بعد الكورونا، أو الكورونا طويلة الأمد. هذه المتلازمة ليست مرضًا واحدًا، لكنّها عدّة متلازمات منفصلة ذات خصائص فريدة وأعراض مختلفة.
 

الفيروس في مواجهة حاسّة الشمّ

من أكثر السمات المقلقة لمرحلة ما بعد الكورونا، هو تأثيرها على الجهاز العصبيّ، وعلى وجه الخصوص على الدماغ. كانت إحدى أوائل الأعراض العصبيّة التي تمّ تحديدها، هي حدوث تغيير أو فقدان كامل لحاسّة الشمّ، لمدّة أسابيع وحتّى عدّة أشهر. أثار هذا العارض قدرًا كبيرًا من القلق في بداية الجائحة، كون العصب الشمِّي هو واحد من إثنا عشر عصب مركزي بالجسم، وقد تشير إصابته إلى ضرر في الدماغ، أو تغلغل الفيروس للمخّ.

بفضل الجهد البحثيّ الهائل المخصّص لجائحة كورونا، بعد ثمانية أشهر فقط من تفشّي الجائحة، نُشرت دراسة في المجلّة العلميّة Science Advances توضّح كيف يصيب فيروس كورونا حاسّة الشمّ. قام الباحثون بفحص عيّنات من خزعات (Biopsy) أنف المرضى، وفحصوا التعبير الجينيّ للحمض النوويّ الريبوزيّ (RNA) فيها، للكشف عن نشاط الخلايا الأخير. انتظر الباحثون مفاجأةً سارّةً إلى حدٍّ ما - أظهرت النتائج أنَّ فيروس كورونا غير قادر على اختراق الخلايا العصبيّة، وأنَّ الضرر يستهدف الخلايا التي تدعمها وتثبّتها في مكانها. لأنَّ الخلايا العصبيّة لا تعبر عن الجزيئات التي يستخدمها فيروس كورونا لاختراق الخلايا - ACE2 وTMPRSS2.

كان الاكتشاف مشجِّعًا للغاية، لأنَّ للخلايا الداعمة قدرة تجدّد ممتازة، ويمكنها التعافي من الضرر الذي لحق بها، أو فقدان العديد منها - أي أنَّ الضرر الذي يلحق حاسّة الشمّ ليس دائمًا. على عكس الخلايا العصبيّة، التي تتجدّد ببطء وبطريقة محدودة للغاية، ويمكن أن يتسبّب تضرّرهم إلى تلف طويل الأمد. أشار الباحثون إلى أنَّ الإضرار بالخلايا الداعمة يؤثّر على الخلايا العصبيّة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى التغيّرات في توازن الماء والملح المسؤولة عنه هذه الخلايا، ممّا يضعف قدرة الخلايا العصبيّة على نقل المعلومات.

נגיף קורונה ותאי עצב | Kateryna Kon, Shutterstock
اتّضح أنَّ الفيروس لا يخترق الخلايا العصبيّة، لكنّه يضرّ بالخلايا التي تدعمها. فيروس كورونا والخلايا العصبيّة | Kateryna Kon, Shutterstock 

 

ماذا بعد؟

على الرّغم من أنَّ الإضرار بحاسة الشمّ أمر مزعج للغاية، إلّا أنّه يعتبر من أخفّ الأعراض العصبيّة النموذجيّة لمتلازمة ما بعد الكورونا. في سلسلة من استطلاعات المرضى التي شملت آلاف المشاركين، تمّ توثيق الظواهر التي تشير إلى تأثيرات مباشرة على الدماغ نفسه. في حين أنَّ 80 في المائة من حالات الإصابة بالكورونا تتجلّى فقط بمرض خفيف أو حتّى غياب تامّ للأعراض، وجد مسح شمل 3762 من المتعافيين من كورونا أنَّ أكثر من 50 في المائة منهم، ما زالوا يعانون من أعراض ما بعد كورونا بعد حوالي سبعة أشهر من التعافي.

بالإضافة إلى فقدان حاسّة الشمّ، تضمّنت هذه الأعراض ضعف في العضلات، التعب ومشاكل في الأداء الإدراكيّ. وأظهرت دراسة أخرى فحصت 1733 متعافيًا أنّه بعد حوالي ستّة أشهر من المرض، أفاد حوالي 76 في المائة منهم بأعراض ما بعد كورونا التي شملت، من بين أمور أخرى، التعب، ضعف في العضلات ومشاكل في النوم. كما وثقت دراسات أخرى تقارير عن آلام مزمنة مثل، الصداع وآلام المفاصل، بالإضافة إلى مشاكل في الذاكرة واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه. بشكل عامّ، ظهرت أعراض ما بعد كورونا التي تمّ تعريفها في الدراسة على أنّها أعراض استمرّت لأكثر من أسبوعين، بعد انتهاء المرض بنسبة حدوث حوالي 80 في المائة.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ فيروس كورونا ليس فريدًا من نوعه، بما يتعلّق بالآثار الجانبيّة التي تستمرّ بعد المرض، كما أنّه ليس الفيروس الوحيد المسبّب لتأثيرات عصبيّة. تسبّبت الأوبئة الفيروسيّة السابقة، مثل الأنفلونزا الروسيّة عام 1889، والإنفلونزا الإسبانيّة عام 1918 ووباء الخُنَاق عام 1935، في ظهور أعراض عصبيّة مستمرّة، وخاصّة الإرهاق وآلام العضلات.

תסמינים של פוסט-קורונה | Double Brain, Shutterstock
أبلغ العديد من المرضى عن إرهاق، ضعف في العضلات وصعوبة في النوم، وأعراض أخرى على مدار أشهر بعد الإصابة. أعراض ما بعد كورونا | Double Brain, Shutterstock

سكتة دماغيّة جزئيّة وتشوّش في جهاز المناعة

قدّم تنوّع الأعراض وتواترها أدلّة على كيفيّة تسبّب فيروس كورونا في إحداثها. من أهمّ آثار الكورونا على الدماغ، هو الزيادة في النشاط الالتهابيّ. يسبّب تفاعل الجهاز المناعيّ آثارًا جانبيّة تؤثّر بشكلٍ مباشر على وظيفة الخلايا العصبيّة، ونتيجةً لذلك، على وظيفة الدماغ كلّه. في الظروف العاديّة، يعتبر الدماغ منطقة معزولة عن الاستجابات الالتهابيّة في باقي أجزاء الجسم، وذلك بفضل الحاجز الدمويّ-الدماغيّ (Blood-brain barrier) الذي يحميه. تساهم عوامل كثيرة في النشاط الالتهابيّ في الدماغ نتيجة الإصابة بالكورونا، وسنركّز على اثنتين من أبرزها.

مصدر المسبّب الأوّل ليس في الدماغ اصلًا، بل في الدم. من المعروف أنَّ الكورونا تسبّب تغيّرات في آليّات تجلّط الدم في الجسم. هذه التغييرات، جنبًا إلى جنب مع كثرة الأوعية الدموية الدقيقة في الدماغ، تزيد من فرصة الإصابة بسكتة دماغيّة وزيادة في حالات "السكتة الدماغيّة الجزئيّة"، التي يحدث خلالها نزيف صغير في جميع أنحاء الدماغ. على عكس أحداث السكتة الدماغيّة الكاملة، فإنَّ "السكتة الدماغيّة الجزئيّة" ستكون صغيرة وغير محسوسة، لكنّها ستثير استجابة مناعيّة واسعة النطاق في الدماغ.

يرتبط المسبّب الثاني مباشرةً بتأثير فيروس كورونا على جهاز المناعة. يؤدّي فيروس كورونا إلى اضطرابات كبيرة في عمل جهاز المناعة، والتي يمكن أن تتسبّب في المرحلة الأولى إلى حدوث عاصفة سيتوكينات (cytokines). لكنّ الإخفاقات في نشاط جهاز المناعة لا تنتهي بعد التعافي من الفيروس. أظهرت العديد من الدراسات، أنَّ الجهاز المناعي لمتعافي الكورونا يستمرّ في إنتاج أجسام مضادّة ضدّ البروتينات الموجودة في الجسم، وخاصّة ضدّ البروتينات اللازمة، للتواصل ونقل الإشارات في الجهاز العصبيّ.

وجدت بعض الدراسات أنَّ نسبة المتعافين الذين طوّر جهاز المناعة لديهم أجسامًا مضادّة ذاتيّة متغيّرة، لكنّه يتراوح بين 24 في المائة و57 في المائة. في المقابل، تبلغ نسبتهم العامّة من السكان 0.05 في المائة. يمكن أنّ يؤدّي وجود الأجسام المضادّة إلى قيام الجهاز المناعيّ بمهاجمة الخلايا العصبيّة، وإضعاف قدرتها على نقل الإشارات. قد يفسر هذا الضرر في الخلايا العصبيّة، الأعراض العصبيّة التي تحدث في متلازمة ما بعد الكورونا. يرتبط وجود هذه الأجسام المضادّة في الدم ارتباطًا مباشرًا ببعض الأمراض التي تنطوي على آلام مزمنة، مثل الألم العضليّ الليفيّ المتفشّي (Fibromyalgia) - وهو مرض نادر تشبه أعراضه متلازمة ما بعد الكورونا.

هنا، أيضًا، تتمتّع اللقاحات بأفضليّة واضحة. في دراسة أجرتها مجموعة من الباحثين من كلّيّة الطبّ بجامعة بار إيلان، على عيّنة من أكثر من 3000 متعافٍ، وجد أنَّ الأشخاص الملقحين أكثر عرضةً للإصابة بأعراض ما بعد الكورونا مثل التعب، الصداع وآلام في العضلات، مقارنةً بغير الملقّحين الذين أصيبوا بالكورونا.

אישה עם תסמיני פוסט-קורונה | Dragana Gordic, Shutterstock
قد يتسبّب النشاط المتواصل لجهاز المناعة ضدّ الخلايا العصبيّة، في ظهور أعراض عصبيّة مثل ضعف العضلات، التعب والضعف الإدراكيّ. امرأة تعاني من أعراض ما بعد الكورونا | Dragana Gordic, Shutterstock 
 

رُبَّ ضارةٍ نافعة

إضرار كورونا بالجهاز العصبيّ خبر سيّء لكنّ له جانب إيجابيّ أيضًا. قد يكون فهم الآليّات المسؤولة عن ذلك مفيدًا بشكلٍ مفاجئ، للأشخاص الذين يعانون من أمراض نادرة، الّتي تشبه في خصائصها متلازمة ما بعد كورونا. عادةً ما تحظى مثل هذه الأمراض النادرة باهتمام وموارد محدودة، في حين أنَّ الجهود البحثية الهائلة المستثمرة في تطوير علاج لأعراض ما بعد كورونا، قد تثمر عن علاجات وأدوية جديدة من شأنها أيضًا مساعدة المرضى الذين يعانون من هذه الأمراض.

على وجه الخصوص، أظهرت العديد من الدراسات أنَّ هذه العلاجات أو العلاجات المماثلة يمكنها أن تساعد المرضى الذين يعانون من متلازمة ما بعد الكورونا، والذين يعانون من الألم العضليّ الليفيّ أو التعب المزمن. رُبَّ ضارةٍ نافعة: ربّما تسبّبت الكورونا وفاة الكثيرين ومعاناتهم، لكن الحشد العلميّ والمعرفيّ ضدّه قد يُحسِّن حياة المصابين بأمراض أخرى.

 

0 تعليقات