الآليّات الفيروسيّة (والإنسانيّة) الّتي تمكّن فيروس الكورونا من الإعداء والتّكاثر في الخلايا البشريّة
اِندلع فيروس الكورونا الجديد، SARS-CoV-2، لأوّل مرة في الصّين، وتفشّى في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك إسرائيل. أعلنت منظّمة الصّحّة العالميّة (WHO)، لأوّل مرّة منذ وباء إنفلونزا الخنازير في عام 2009، أنّ المرض النّاجم عن الفيروس Covid-19 بات وباءً عالميًّا. يتزايد عدد المرضى والوفيات كلّ يوم. ما هو هذا الفيروس؟ من أين أتى؟ وما الّذي يمكّنه أن يصيب هذا العدد الهائل من النّاس؟
سمّي فيروس الكورونا الجديد بهذا الاسم لتمييزه عن الفيروسات الأخرى من نفس العائلة. من المعروف أنّ ما لا يقلّ عن ستّة أنواع أخرى من عائلة فيروس كورونا تصيب البشر، بعضها يسبّب نزلات برد خفيفة نسبيًّا، واثنان منهما، السّارس وال- MERS، يسبّبان فاشيات تلوّثيّة خطيرة.
ظهر فيروس السّارس لأوّل مرّة كسلالة بارزة من فصيلة فيروس الكورونا عام 2003، عندما تمّ الكشف عن الإصابات الأولى في مقاطعة غوانغدونغ الصّينيّة. لم يكن مصدر الفيروس واضحًا أبدًا. يبدو أنّه تطوّر بدايةً في الخفافيش، ومن هناك انتشر إلى حيوانات أخرى، وانتقل على ما يبدو إلى البشر في عام 2002 من قطط الزّباد، وهي حيوانات صغيرة تشبه النّمس. تحوّل الفيروس حينها إلى وباء، وأدّى إلى أكثر من 8000 حالة عدوى، شبيهة بالإنفلونزا، في 26 دولة، وإلى ما يقارب 800 حالة وفاة.
تمّ تشخيص متلازمة MERS لأوّل مرّة في السّعوديّة عام 2012. أظهر المرضى أعراض الحمّى ، السّعال، ضيق التّنفّس، وفي بعض الأحيان مشاكل في الجهاز الهضميّ. في هذه الحالة أيضًا، لم يكن مسار انتقال الفيروس من الحيوانات إلى البشر واضحًا، على الرّغم من وجود أدلّة تشير إلى أنّ الجَمَل هو المُضيف الرّئيسيّ (العائل) للفيروس، وبالتّالي قد يكون هو أحد مصادر العدوى المحتملة. كشفت منظّمّة الصّحّة العالميّة عن حوالي 2500 حالة عدوى في 27 دولة قد سبّبت 860 حالة وفاة.
من المحتمل أن تكون الجِمال، في حينها، هي مصدر متلازمة MERS. باحث يأخذ عيّنة دم من الجمل | CDC, SPL
وماذا عن فيروس كورونا الجديد؟ يتطابق التّسلسل الجينيّ لفيروس- SARS-CoV-2 مع فيروس السّارس بنسبة %80، ويتشابه فيروس الكورونا مع فيروس الكورونا BatCoV RaTG13 الموجود في الخفافيش بنسبة %96. قد تكون الخفافيش هي الّتي نقلت الفيروس إلى الإنسان، ولكن توجد اختلافات كبيرة بين الفيروسين في المناطق المسؤولة عن نقل العدوى في الجينوم، ممّا يدلّ على أنّ فيروس الخفافيش هذا لم يصب البشر مباشرةً، وإنّما انتقل إلينا عن طريق مضيف وسيط، على حدّ قول الباحثين.
حتّى الآن، لا يوجد لقاح يوفّر حماية واسعة ومحدّدة من الإصابة بالفيروس. ومع ذلك، هناك عدّة مراحل في دورة حياة الفيروس الّتي يمكن استهدافها ضمن التّدخّل العلاجيّ.
على رأسه تاج
تمّ تسمية فيروس كورونا بهذا الاسم على اسم بروتينات ال- Spike البارزة على سطحه (نتوءات)، الّتي تشبه التّاج (كورونا باللّاتينيّة). هذا البروتين هو أساسيّ لنشاط الفيروس، إذ يستخدمه ليدخل الخليّة الّتي يهاجمها. بسبب تغييرات في مبنى البروتين، يخفي الفيروس، أو يكشف، مناطق فيه ترتبط بالخليّة الّتي يدخل إليها، وبالتّالي هو يلائم نفسه لإصابة خلايا مختلفة. تعزى قدرة فيروس كورونا على التّأقلم مع مخلوقات مختلفة والهروب من جهاز المناعة إلى بروتين ال- spike على سطحه.
سمّي الفيروس "كورونا" نسبةً إلى البروتينات الّتي تمنحه شكله التّاجيّ. صورة توضيحيّة لفيروس الكورونا | KTSDesign، SPL
دخول الفيروس لخليّة ضعيفة
يدخل الفيروس الجسم عن طريق الأنف، الفم والعينين، ويرتبط، بمساعدة بروتين ال-Spike (بروتين S) بخلايا جهاز التّنفّس الّتي تنتج بروتينًا يدعى ACE2. في الأسابيع الأخيرة، قام علماء أمريكيّون لأوّل مرّة بتحليل مبنى البروتين S على المستوى الذّرّيّ. يتكوّن بروتين ال-Spike من مركّبين: S1 الّذي يحوي منطقة تحدّد مستقبلات ال- ACE2 الموجودة على سطح الخليّة المصابة (الخليّة الهدف، العائل)، ثمّ تلتصق بها، و S2 الّذي يحوي منطقة تساعد الفيروس على دخول الخليّة عن طريق دمج الغشاء المحيط به مع غشاء الخليّة المصابة. بعد أن يقوم S1 بعمله ويرتبط بالمستقبِل ACE2، ينقطع بروتين ال-Spike، وبالتّالي تنكشف منطقة S2 الّتي تعمل على اندماج غشاء الفيروس مع غشاء الخليّة المصابة.
إطلاق المادّة الوراثّية للفيروس إلى الخليّة
ينتمي فيروس الكورونا لفيروسات من نوع RNA. جينوم الفيروس يتركّب من جزيئات RNA وليس من DNA كما هو الحال عند الإنسان، الحيوانات، النّباتات والجراثيم. بعد حوالي أسبوع من تشخيص وتوثيق الفيروس لأوّل مرّة، حدّد الباحثون تسلسل ال- RNA الخاصّ به. بينما يتكوّن الجينوم البشريّ من أكثر من ثلاثة مليارات حرف وراثيّ (شيفرة وراثيّة) أو قاعدة DNA، فإنّ الجينوم الفيروسيّ هذا يحتوي على أقلّ من 30،000 حرف وراثيّ وعدد جينات صغير. بمجرد دخول الفيروس إلى الخليّة، فإنّه يطلق جزءًا من مادّته الوراثيّة على شكل RNA.
يرتبط بروتين S بمستقبِلات موجودة على سطح الخليّة المصابة. صورة توضيحيّة لمبنى المستقبِل| Ramon Andrade 3Dciencia, SPL
الاستيلاء العدائيّ على الخليّة
بعد أن يدخل الفيروس إلى الخليّة يستغلّ مواردها كمصنع لاستنساخ ومضاعفة ال- RNA الفيروسيّ. تقرأ الخليّة المصابة ال- RNA الفيروسيّ وتنتج البروتينات وفقًا للتّعليمات بداخله . يتمّ استخدام البروتينات الّتي تُنتَج لتكوين نسخ جديدة من الفيروس لاحقًا.
تكوين نسخ جديدة للفيروس
مع تقدّم الإصابة والالتهاب، تبدأ آليّات الخليّة في إنتاج المزيد من ال- RNA وبروتينات الفيروس بوتيرة أسرع، لتكوين نسخ كاملة منه. يتمّ نقل النّسخ الجديدة إلى الحافّة الخارجيّة للخليّة، للخروج منها لإصابة خلايا جديدة.
اِنتشار العدوى
المرحلة الأخيرة من مضاعفة الفيروس هي إطلاق نسخ جديدة من الفيروس الّتي تمّ إنتاجها في الخليّة المضيفة. يمكن لكلّ خليّة مصابة إطلاق ملايين النّسخ من الفيروسات قبل أن تتحلّل في النّهاية وتموت. يتمّ إطلاق بعض الفيروسات عندما تموت الخليّة المضيفة، بينما يمكن أن تُطلَق فيروسات أخرى عن طريق غشاء الخليّة دون القضاء المباشر عليها. بعد أن يخرج الفيروس من الخليّة المصابة، يمكنه أن يصيب الخلايا المجاورة ليبدأ دورة استنساخه مجدّدًا. يمكن أن يخرج، من خلال السّعال والعطس، بلغم مصحوب بفيروسات من الجهاز التّنفّسيّ ليصيب الأشخاص ويقع على المسطّحات القريبة، ويمكن للفيروس أن يبقى معديًا هناك لساعات معدودة حتّى أيّام.
يمكن أن تنتشر الفيروسات عن طريق السّعال والعطس. صورة توضيحيّة لفيروسات الكورونا الّتي تصحب العطاس| Tim Vernon, SPL
الاستجابة المناعيّة
يسبّب مرض Covid-19 الحمّى وذلك عندما يكافح جهاز المناعة الفيروس للتّخلّص منه.. في الحالات الشّديدة والحادّة، يمكن لجهاز المناعة أن يستجيب بشكل مفرط ويقوم بمهاجمة الخلايا الرّئويّة. تبدأ الرّئتان بالامتلاء بالسّوائل وبالخلايا الّتي تحتضر، ممّا يجعل التّنفّس مهمّة صعبة. يمكن أن تؤدّي نسبة صغيرة من العدوى إلى متلازمة الضّائقة التّنفّسيّة الحادّة، وحتّى الموت.
اللّقاح المحتمل
يمكن أن يساعد اللّقاح المستقبليّ الجسم على إنتاج الأجسام المضادّة الّتي تستهدف فيروس ال- SARS-CoV-2 وتمنعه من إصابة الخلايا البشرية. حاليًّا، يعمل العديد من الباحثين على تطويره. تقتل المضادّات الحيويّة الجراثيم ولكن ليس الفيروسات. يقوم الباحثون الآن بفحص الأدوية المضادّة للفيروسات الّتي يمكنها أن تعيق عمل البروتينات الفيروسيّة وإيقاف العدوى.
تُحيط الفيروس فقاعة من جزيئات دهنيّة تتحلّل عند ملامسة الصّابون. حاليًّا، أفضل طريقة لتجنّب الإصابة بفيروس الكورونا والفيروسات الأخرى هي غسل الأيدي بالصّابون، والامتناع عن لمس الوجه، والابتعاد عن المرضى، وتنظيف المسطّحات الّتي يكثر استخدامها.
التدقيق اللغوي والتحرير: د. عصام عساقلة
التدقيق العلمي: رقيّة صبّاح