اِكتشف باحثون من إسرائيل ودول أخرى أنّ النّهر الأفريقيّ الطّويل بدأ يتدفّق في مجراه الحاليّ منذ حوالي 30 مليون عام. قبل ذلك، يبدو أنّه كان يمرّ في ليبيا.

يعتبر النّيل من أطول الأنهار في العالم، وكان في العصور القديمة أحد أهمّ المراكز الّتي تطوّرت فيها الثّقافة الإنسانيّة. بدأت قصّته قبل قدوم الإنسان بفترة طويلة، لكنّ عمره الدّقيق، أي الوقت الّذي بدأ فيه التّدفّق  في مساره الحاليّ، لا يزال غير معروف حتّى يومنا هذا. يشير بحث جديد أجرته مجموعة من الباحثين من الولايات المتّحدة، إيطاليا واسرائيل، منهم زوهار غفيرتسمان من معهد المسح الجيولوجيّ الإسرائيليّ والجامعة العبريّة، إلى أنّ النّيل يتدفّق دون توقّف منذ عشرات ملايين السّنين.

يستقبل النّيل مياهه من مصدرين رئيسيّين: بحيرة فيكتوريا الّتي تزوّد  نهر النّيل الأبيض، وبحيرة تانا في المرتفعات الأثيوبيّة الّتي  ينبع منها النّيل الأزرق. يتّحد هذان الرّافدان في الخرطوم في السّودان، ويستمرّان في التدفق شمالًا، كنهر واحد، مسافة 2500 كيلومتر حتّى البحر الأبيض المتوسّط. على الرّغم من أنّ النّيل الأزرق أقصر بكثير من النّيل الأبيض، إلّا أنّه مسؤول عن أكثر من %80 من المياه الّتي تجري في النّهر الموحّد.

معظم الأنهار في العالم تبدأ بالتّكوّن في السّلاسل الجبليّة، حيث  تهيّء التّضاريس العالية الظّروف لتكوين رواسب كثيرة، الّتي  تنصرف المياه منها إلى التّيّارات المائيّة والأنهار. تتكوّن سلاسل الجبال خلال عمليّات جيولوجيّة قديمة العهد تحدث في أعماق الكرة الأرضيّة، مثل تنقّل الصّفائح التّكتونيّة والنّشاط البركانيّ. وبالتّالي، فإنّ السّؤال عن متى بدأ نهر معيّن في التّدفّق مرتبط بالوقت الّذي تشكلت فيه الطّبيعة حوله: متى ارتفعت السّلاسل الجبليّة وتكوّنت أحواض التّصريف الّتي تحدّد اتجاه جريان الرّواسب في طريق عودتها  إلى المحيطات؟ 

ספינה בנילוס ליד מקדש פילה | צילום: Shutterstock
النّهر أقدم بكثير من البشر الجالسين على ضفافه. سفينة في النّيل قرب معبد فيلة | تصوير: Shutterstock

 

النّقطة السّاخنة الأثيوبيّة

تعتبر أثيوبيا والدّول المجاورة لها من أكثر المناطق البركانيّة نشاطًا في العالم.  تطوّرت نتيجةً لوجود "نقطة ساخنة (Hot spot)" في هذه المنطقة: لسبب غير معروف، هناك جزء صغير من غشاء (وشاح) الكرة الأرضيّة - الطّبقة الّتي تقع تحت قشرة الكرة الأرضيّة- حارّ جدًا مقارنةً بمناطق أخرى. فوق النّقطة السّاخنة تميل العديد من البراكين إلى التّكوّن،  لكن هناك ظاهرة أخرى تحدث أيضًا: حرارة "النّقطة السّاخنة" العالية نسبيًّا تؤدّي الى انتقاخ الغشاء (الوشاح) ودفع سطح الأرض إلى الأعلى. اِرتفاع المرتفعات الأثيوبيّة العالي، الّذي يصل في بعض  المناطق إلى أكثر من 4000 متر فوق مستوى سطح البحر، يعود جزئيًّا إلى هذا الاحترار في جوف الأرض.

لمعرفة متى تكوّنت المرتفعات الأثيوبيّة وتشكّل حوض التّصريف للنّيل القديم، استخدم الباحثون نموذجًا حاسوبيًّا جديدًا تمّ تطويره  عام 2016. يشمل هذا النّموذج معطيات حول مبنى الغشاء (الوشاح) الحاليّ، كثافته، مبنى الألواح التّكتونيّة فوقه وسرعة حركتها. بواسطته يمكن استعادة تطوّر الوشاح والتّغييرات الّتي مرّ بها في منطقة معيّنة على مدى ملايين السّنين الماضية، بما في ذلك تغييرات في حجمه نتيجة التّغييرات المحلّيّة  في درجة الحرارة.

 في دراسة نشرت في مجلّة Nature Geoscience، تبيّنَ أنّ النّقطة السّاخنة في شرق أفريقيا ظهرت منذ حوالي أربعين مليون سنة، وأنّ المرتفعات الأثيوبيّة بدأت تتكوّن منذ ذلك الحين. إلى جانب هذا الارتفاع في أثيوبيا، في شمال السّودان، تقعّر الوشاح وتمدّد في الاتّجاه الشّمال الغربيّ. هذه العمليّة تطرح الاحتمال أن تكون الأنهار الّتي بدأت بالتّدفقّ في تلك الأيّام من المرتفعات الأثيوبيّة قد جرت في مسار غربيّ أكثر وصبّت في البحر الأبيض المتوسّط ​​بالقرب من خليج سرت (Sidra) في ليبيا. فيما بعد،  قبل 20- 40 مليون سنة ارتفع التّقعّر مجدّدًا في شمال السّودان، وفي الوقت نفسه بدأ تقعّر جديد في الشّمال، حيث تقع منطقة الدّلتا في مصر اليوم. هذا ما أمالَ، كما يبدو، اتّجاه التّصريف الأرضيّ شرقًا، إلى مسار النّيل الحاليّ.

المبنى التّضريسيّ الّذي تطوّر حينئذٍ في شمال شرق أفريقيا، والّذي لم يتغيّر حتّى يومنا هذا، يشير إلى أنّ النّيل يجري في مساره الحاليّ منذ حوالي 30 مليون سنة. يمكن إيجاد دعم لنتائج النّموذج في تركيبة الرّواسب المتبقيّة من هذه الفترة في قاع شرقيّ البحر الأبيض المتوسّط، الّتي تحتوي على الكثير من شظايا صخور  مصدرها  انجراف في المرتفعات الأثيوبيّة.

 توضّح الدّراسة جيّدًا العلاقة الوثيقة بين العمليّات الّتي تحدث في الكرة الأرضيّة، ترابطها وتغييرها ر مع بعضها البعض. بالنّسبة لنا، كمخلوقات قصيرة العمر، تبدو أحيانًا المفاهيم مثل ارتفاع اليابسة ودورة المياه العالميّة منفصلة عن بعضها، لكن في الواقع جميعها جزء من العمليّات الّتي تحدث في كوكب سيّار فعّال. نحن أيضًا، كمخلوقات تطوّرت في أفريقيا واستقرّت لاحقًا في دلتا النّيل، ما نحن إلّا مدماك آخر ضمن   العمليّات الّتي تحدث في الكرة الأرضيّة.

 

الترجمة للعربيّة: د. ريتّا جبران
التدقيق والتحرير اللّغوي: د. عصام عساقلة
الإشراف العلمي: رقيّة صبّاح أبو دعابس

0 تعليقات