لا تلبث الأجسام المضادّة للكورونا بالظّهور عند المتعافين من المرض حتّى تبدأ مستوياتها بالتّراجع بشكل ملحوظ، ممّا لا تُبقي إلّا على فترة زمنيّة قصيرة لجمع الأجسام المضادّة من أجساد المتعافين ولتحضير لقاحات المناعة السّلبيّة لعلاج من يصارع المرض

تكافح أجسادنا الفيروسات وغيرها من مسبّبات للأمراض من خلال جهاز المناعة، والّذي يقوم  بإنتاج أجسام مضادّة تساهم بتحديد مسبّب المرض ومحاربته بفعاليّة. يعتمد الأطباء استخدام الأجسام المضادّة (أو لقاحات المناعة السّلبيّة) كإحدى العلاجات المتوفّرة لمكافحة وباء SARS-CoV-2 المسبّب لمرض COVID-19، إذ تُستخلص الأجسام المضادّة من دماء المتعافين من المرض، وتعطى جرعات منها  للمساهمة في علاج الحالات المرضيّة الصّعبة. ولكن غدا واضحًا أنّ مستويات الأجسام المضادّة عند المتعافين سرعان ما تبدأ بالانخفاض تاركةً نافذة زمنيّة محدّدة لاستحضار جرعات علاجيّة منها. 

تعرف الأجسام المضادّة بأنّها بروتينات متخصّصة ترتبط بمبانٍ محدّدة (مستضدّات) لمسبّبات الأمراض (كملاءَمة القفل والمفتاح) من أجل إحباط مفعولها أو كإشارة تحفّز جهاز المناعة للقضاء عليها. عادة ما ترتفع مستويات الأجسام المضادّة عند تعرّض أجسامنا لهذه المباني المحدّدة (المستضدات)، وتتراجع مستوياتها عند تعافينا من المرض. إلّا أنّ بعض هذه الأجسام المضادّة تبقى في الدّم لوقايتنا من التّعرّض لنفس مسبّب الأمراض مرّة أخرى في المستقبل. كما وتنطبق هذه الآليّة المناعيّة على مرضى الكورونا أيضًا، فترتفع مستويات الأجسام المضادّة للفيروس فور ظهور أعراض المرض وتصل إلى ذروتها في غضون أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، إلّا أنّ تراجعًا شديدًا يطرأ على هذه الأجسام المضادّة في ظرف ستة أسابيع.

يُستخدم لقاح المناعة السّلبيّة لعلاج مرضى الكورونا ذوي الحالات الصّعبة، والّذين لم تستطع أجسادهم إنتاج أجسام مضادّة بعد أو الّذين لا تسمح حالتهم بالانتظار حتّى يتمّ ذلك، آملين في ذلك مساعدة المرضى على مكافحة الفيروس وتحفيز ردّ فعل مناعيّ ضدّه. يُعطى اللّقاح السّلبيّ على شكل جرعات من أجسام مضادّة للفيروس استخلصت من دم أفراد قد سبق أن تعافوا من المرض. بالرغم من أنّ  نّتائج الدراسات العديدة التي اختبرت نجاعة اللّقاح لا زالت بعيدة من أن تجزم في ذلك، يقوم في الوقت الرّاهن العديد من الأطباء، وفقًا لتوصيات إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، بحقن الأجسام المضادّة المستخرجة من بلازما أفراد متعافين كعلاج رحيم للمرضى ذوي الحالات الصّعبة.

​بإمكان مرضى الكورنا ذوي الحالات الحرجة، والّذين لم يطَوِّروا أجسامًا مضادّة بعد، تلقّي لقاح المناعة السّلبيّة المستخلص من المرضى المتعافين. المصدر: MID ESSEX HOSPITAL SERVICES NHS TRUST / SCIENCE PHOTO LIBRARY
بإمكان مرضى الكورنا ذوي الحالات الحرجة، والّذين لم يطَوِّروا أجسامًا مضادّة بعد، تلقّي لقاح المناعة السّلبيّة المستخلص من المرضى المتعافين. المصدر: MID ESSEX HOSPITAL SERVICES NHS TRUST / SCIENCE PHOTO LIBRARY

تراجع تدريجيّ

تشترط نجاعة العلاج استخلاص الأجسام المضادّة من مصل دم (بلازما) المتعافين من المرض عندما تكون في ذروة مستواها وفاعليّتها. ونظرًا لضرورة الانتظار لأسبوعين على الأقلّ من لحظة شفاء المريض للتّأكّد من عدم وجود فيروسات معدية في الدّم، لذلك؛ فإنّه من الضّروريّ تحديد الفترة الزّمنيّة المتاحة الّتي يمكن من خلالها حصاد الأجسام المضادّة بالكفاءة القصوى. وفعلًا، نشر باحثون كنديّون مؤخّرًا نتائجهم حول هذه الإشكاليّة في المجلّة العلميّة mBio.

وفي الدّراسة الّتي شملت 31 فردًا من المتعافين من مرض الكورونا، تتبّع الباحثون مستويات الأجسام المضادّة  في موعدين مختلفين، ستّة أسابيع ومن ثمّ عشرة أسابيع بعد ظهور أوّل أعراض المرض.

تقصّى الباحثون وجود أجسام مضادّة قادرة على الارتباط بمبنى محدّد للبروتين المسماريّ (spike protein) على وجه الخصوص، وهو البروتين الّذي يغزو الفيروس خلايا المضيف من خلاله. وبيّنت الدّراسة انتقاص مستويات نوعين من أصل ثلاثة أنواع من الأجسام المضادّة بشكل كبير في الفترة ما بين موعدي الفحص. حيث انخفض معدّل الأفراد الّذين تمّ رصد أحد هذه الأجسام المضادّة في دمهم من 81% إلى 55%، وكذلك من 71% إلى 58% بالنّسبة للجسم المضادّ الآخر. أمّا بالنّسبة للنّوع الثّالث من الأجسام المضادّة، فلم يطرأ على مستوياته سوى إنخفاض بسيط وكان من الممكن رصده عند كلّ المشتركين.

وأشارت الدّراسة أيضًا إلى أنّ الأجسام المضادّة عند 30 من أصل 31 من المشاركين في الدّراسة كانت قادرة على الارتباط بالبروتين المسماريّ الكامل، لا سيّما إلى نسخته الطّافرة والأكثر عدوى الّتي شُخّصت في أوروبا وأمريكا الشّمالية في الأشهر الأخيرة. أمّا في الأسبوع العاشر، تراجع عدد أنواع الأجسام المضادّة القادرة على الارتباط بالبروتين المسماريّ، ممّا يشير إلى أنّ كمّيّة الأجسام المضادّة القادرة على اكتشافه انخفضت بمرور الوقت.

​وفقًا لهذه الدّراسة ودراسات أخرى مُشابهة، فإنّ مستويات الأجسام المضادّة ونجاعتها بمكافحة الفيروس تصل ذروتها ما بين أسبوعين لثلاثة أسابيع من ظهور عوارض المرض ومن ثمّ تبدأ بالانخفاض.| المصدر:  JUAN GAERTNER / SCIENCE PHOTO LIBRARY
وفقًا لهذه الدّراسة ودراسات أخرى مُشابهة، فإنّ مستويات الأجسام المضادّة ونجاعتها بمكافحة الفيروس تصل ذروتها ما بين أسبوعين لثلاثة أسابيع من ظهور عوارض المرض ومن ثمّ تبدأ بالانخفاض.| المصدر:  JUAN GAERTNER / SCIENCE PHOTO LIBRARY

بهدف اختبار قدرة الأجسام المضادّة على تحييد الفيروس من إحداث العدوى، استخدمَ الباحثون جسيمات غير ضارّة تحمل البروتين المسماريّ لتحاكي نشاط الفيروس الحيّ. فتبّين أنّ قدرة الأجسام المضادّة على تحييد هذه الجسيمات انخفضت بين موعدي الفحص، كما أظهرت الدّراسة تفاوتًا كبيرًا في مستويات الأجسام المضادّة وفاعليّتها بين المشتركين في الدّراسة. فانخفضت نسبة المشاركين الّذين تمكّنت أجسامهم المضادّة من تحييد الجسيمات التّجريبيّة في غضون أربعة أسابيع من 71%  إلى 42%. كما أشارت الدّراسة على وجود علاقة إحصائيّة بين وجود الأجسام المضادّة والقدرة على تحييد الفيروس. 

وخلُصت الدّراسة الكنديّة اإضافةً إلى دراسات أخرى إلى أنّ مستويات وفاعليّة الأجسام المضادّة لفيروس الكورونا تبلغ ذروتها ما بين أسبوعين حتّى ثلاثة أسابيع من ظهور أوّل أعراض المرض، لتأخذ بالتّراجع والتّلاشي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار المدّة الزّمنيّة الّتي يتوجّب علينا انتظارها حتّى يخلو دم المرضى من جسيمات الفيروس المعدية، بالإضافة إلى المدّة الزّمنيّة المحدودة الّتي تتواجد فيها كمّيّة كافية من الأجسام المضادّة الفعّالة، لاستنتجنا أنّه هناك إطار زمنيّ ضيّق لاستخلاص الأجسام المضادّة من مصل دم المتعافين من المرض. 

بالرّغم من وضوح نتائج الدّراسة حيال انخفاض مستويات الأجسام المضادّة مع مرور الوقت، إلّا أنّها موضع جدل بسبب إجرائها على عيّنة صغيرة وغير متجانسة من المشتركين. فإذا ألقينا نظرةً فاحصة على النّتائج لظهر لنا  تنوّع هائل في أعمار المشاركين في التّجربة، وأنّ الدّراسة تخلّلت 9 مشاركات نساء فقط من أصل 31. وعند الإمعان بالنّظر إلى ردود الفعل المناعيّة لكلّ من المتعافين بشكل فرديّ، نلاحظ أنّ الانخفاض الحادّ في مستويات وفاعليّة الأجسام المضادّة بمرور الوقت لا ينطبق على جميع المشتركين، بل إنّ مستويات الأجسام المضادّة لدى بعض المشتركين كانت مستقرّة حتّى بعد مرور عشرة أسابيع على ظهور الأعراض.

وفقًا لذلك، سيكون من البديهيّ إجراء دراسات شبيهة على عيّنات أكبر من المتعافين ليُصنّفوا إلى مجموعات بحسب الجيل والجنس ومقاييس طبّيّة أخرى؛ حتّى نستطيع استقصاء وتشخيص ما إذا كانت هناك فئة تبقي على مستويات ثابتة للأجسام المضادّة الفعّالة لعلهم يشكّلون مصدرًا طويلَ المدى لاستخلاص الأجسام المضادّة الضّروريّة لعلاج الحالات الصّعبة من مرضى الكورونا، حتّى بعد 10 أسابيع أو أكثر من لحظة ظهور الأعراض. 

تسعى شركات الأدوية لصنع كوكتيلات متجانسة من الأجسام المضادّة الّتي ثبتت أنّها فعّالة ضدّ الفيروس. وبالتّالي لن يكون العلاج متجانسًا فحسب، بل سيعتمد أيضًا على مستويات المعروفة من الأجسام المضادّة الّتي دُرِسَ نشاطها. وقد قُدّم هذا العلاج على سبيل المثال إلى الرّئيس الأمريكيّ دونالد ترامب عندما نُقِلَ إلى المستشفى بسبب إصابته بالفيروس.

 

0 تعليقات