أدوات البحث العلمي المتطوّرة تؤكّد صحةَ فرضيّةٍ تشبه كثيرًا فرضيةً طرحها ليوناردو دافنشي منذ مئات السنين بشأن شكل الأشجار

يحدثُ أحيانًا أن يُبصر إنسان عبقريٌّ ظواهر وقوانين طبيعيّة، على الرغم من استحالة إثبات صحتها في عصره. لم يتمّ، مثلًا، إثبات صحّة آخر نظريات فيرما، وهو عالم الرياضيات ابن القرن السابع عشر بيير دي فيرما (de Fermat)، إلّا بعد مرور ثلاث مائة عام، وتمّ اكتشاف الجُسيم المسمّى بوزون هيجس فعليًّا بعد حوالي خمسين عامًا، منذ خمّنَ عالم الفيزياء البريطاني بيتر هيجس (Higgs) وجوده. 

طرحَ ليوناردو دافنشي، في عصر النهضة، قبل هذه النظريات المُعقّدة بوقتٍ طويل، فرضيّةً بسيطةً حول بُنية جميع الأشجار في الطبيعة. تدّعي هذه الفرضيّة أنّ سُمك غصن الشّجرة (مساحة مقطعه) يساوي مجموع سُموك الأغصان المتفرعة منه. تحوّلَ هذا الادّعاء البسيط، والصحيح في حالاتٍ كثيرة في الطبيعة، إلى أمرٍ مُتفق عليه، بمثابة قاعدة عامّة يستند عليها العلماء في وصفهم الأشجار، ذلك على الرغم من صعوبة تفسير سبب صِحّتها. قرّرَ بعض علماء الفيزياء من مركز الفيزياء النوويّة في سان بطرسبورغ مؤخرًا فحص قاعدة ليوناردو استعانةً بأدوات علميّة متطوّرة. أظهرت دراستهم التي نشروها في المجلّة العلميّة (Physical Review E) أنّ ثمةَ قاعدة شبيهة بقاعدة ليوناردو صحيحةٌ فعلًا وأنها تنطبق على أنواع كثيرة من الأشجار! تنصّ القاعدة الجديدة على أنّ إجمالي مساحة السطح الخارجيّ لِغصن الشجرة، من نقطة التفرّع التي تَكوّنَ منها حتّى النقطة التي يتشعّب هو فيها إلى عدّة فروع أصغر منه، تساوي مجموع مساحات السطح لكلّ هذه الفروع الصغيرة إذا حُسبت بنفس الطريقة. معنى ذلك أنّه تمّ تبديل مساحة المقطع التي ذُكرت في قاعدة ليوناردو بمساحة السطح الخارجيّ. 

 המחשה לטענתו של לאונרדו לגבי העובי של ענפים – העובי של ענף שווה לסכום העוביים של הענפים המתפצלים ממנו | מקור: Christophe Eloy © 2011 American Physical Society משמאל: דף ממחברתו של לאונרדו המתאר את הטענה
عن اليمين: توضيح قاعدة ليوناردو بالنسبة لسُمك فروع الأشجار - يُساوي سُمْك الغصن مجموع سموك الفروع المتشعّبة منه | عن اليسار: صفحة من دفتر ليوناردو يصف فيها ادِّعاءه. المصدر: Christophe Eloy © 2011 American Physical Society
 

الأغصان هي فراكْتالات (صور نمطيّة هندسيّة متكرّرة)

صاغَ الباحثون في دراستهم قاعدة ليوناردو من جديد، واستعانوا بمصطلحات من مجال رياضيات الفراكتالات. والفراكتال (صورة نمطيّة هندسيّة متكررة) كائنٌ رياضيٌّ مُكَوّنٌ من نُسخٍ صغيرة منه، بحيث تتكوّن هذه النسخ من نسخٍ أصغر مثلها وهلم جرًّا. نُدفة أو فُتات الثلج وبُنية خطّ شاطئ البحر هما مثالان على ذلك. يمكن وصف أغصان الشجر أيضًا بوصف الفراكتال، إذ تشبه خواص كلُّ تفرع من الغصن خواصَّ التفرعات التي قبله والتفرعات التي بعده، أي أنّ قاعدة ليوناردو تنطبق عليها جميعًا. 

ولكن، ليست جميع الفراكتالات متماثلة، حيث أنّ النسبة بين الكائن الكبير وبين النسخ صغيرة، في الفراتكتالات المختلفة، ليست واحدة. تصف قاعدة ليوناردو فراكتالًا خاصًّا يسمّى فراكتال لوغاريثمي. لا تهمنا في شأننا هذا خواصّ الفراكتال اللوغاريتمي، إلّا أنّه يجب أن نعرف أنّ قاعدة ليوناردو تنطبق على الشجرة، التي تشبه خواصُّها خواصَّ الفراكتال اللوغاريثمي، أي أنّ الفروع الصغيرة للشجرة نُسخٌ تتكوّن منها الأغصان الكبيرة، بنفس الطريقة أو الأسلوب الذي تكون فيها مُكوّنات الفراكتال اللوغاريثمي الصغيرة نُسخًا تتكوّن منها مُكوّناته الكبيرة. 
 

الشجرة ليست عيّنةً مِجهريّة

استخدم الباحثون الأفكار النظريّة التي تُشكّل أحد أسس أداة بحث من مجال فيزياء تحليل المواد (material analysis)، لتحديد نوع الفراكتال الذي يصف الأشجار. تُسمّى هذه الأداة البحثيّة "تبعثر الأشعة بزوايا صغيرة". نُطلق، بهذه الطريقة، شعاعًا ضوئيًّا أو شُعاعًا من النيوترونات نحو عيّنة مِجهريّة، ونفحص مدى انحراف الشُّعاع عن مساره المستقيم. يمكننا أن نعرف الكثير عن العيّنة من خلال تحليل زاوية الانحراف، ويمكن أن نُحدّد بشكل خاصّ فيما إذا كانت العيّنة ذات بنية فراكتاليّة، وما هو نوع الفراكتال. 

لكنَّ الشجرة ليست عيّنةً مجهريّة. استخدم الباحثون، لتخطّي هذه العقبة، صور الأشجار بعد تساقط الأوراق كي يشاهدوا جميع الأغصان وفروعها بوضوح، ثمّ شغّلوا عليها أداةً محوسبةً لمعالجة الصور تعتمد على أداة رياضيّة تُسمّى تحويل فورييه. حصل العلماء بواسطة هذه الأداة على نتائج تشبه في شكلها، وتفسيرها نتائج تجربة التبعثّر بزوايا صغيرة التي تصف الأشجار وكأنّها عيّنات مِجهريّة. أصبح بمقدور الباحثين الآن استخدام الأساس النظريّ، لِتجربة التبعثر لِفحص الأشجار. 

أكدّت النتائج فرضيّة البحث التي طرحها العلماء. فقد وجدوا أنّ البنية الفراكتاليّة اللوغاريتميّة في أنواع كثيرة من الأشجار التي تمّ فحصها، تنطبق عليها قاعدة ليوناردو المتجدّدة - أي قاعدة مساحة السطح الخارجيّ. لم يقصد الباحثون اختبار القاعدة الأصليّة ولم يفحصوها، إذ أنّ هذا الفحص يتطلب قَطْع الغصن بالمنشار وقياس سمكه، وقد أكّد الباحثون في مقالتهم أنّه لم يَلْحق الأذى بأيٍّ من الأشجار خلال الدّراسة. لا يمكن إذًا تحديد صحّة قاعدة ليوناردو الأصليّة التي تتطرق لمساحة مقطع غصن الشجرة وليس إلى مساحة السطح الخارجيّ. 

 

تُشَكّل هذه الدّراسة مثالًا جيّدًا لِلطريقة التي يتيح لنا فيها تطوّرُ حقيبة المعرفة البشريّة أحيانًا، محاولةَ العودة إلى الوراء وفحص فرضيات بسيطة نسبيًّا عُرضت قبل مئات السنين في انتظار التطرّق إليها. 

 

0 تعليقات