أوضحت دراسة جديدة أنّ فيروسات الورم الحليمي (Papilloma) الّتي تعيش على سطح الجلد تساعد جهاز المناعة على تحديد موقع الخلايا ما قبل السّرطانية، والقضاء عليها
فيروسات الورم الحليمي البشريّ معروفة لدى عموم النّاس بفضل اللّقاح ضدّ بعض السّلالات، الّتي دخلت روتين التّطعيم في المدارس في البلاد قبل حوالي عقد. يوجّه اللّقاح ضدّ سلالات الورم الحليمي الموجودة في الأنسجة المخاطيّة، مثل عنق الرّحم، البلعوم وفتحة الشّرج. تنتمي هذه السّلالات إلى فيروسات الورم الحليمي من النّوع ألفا، وهي تسبّب ثآليل في الأعضاء التّناسليّة وسرطان في العديد من الأعضاء: سرطان عنق الرّحم، سرطان القضيب، سرطان البلعوم وسرطان فتحة الشّرج. قد ثبت أنّ التّطعيم في سنّ مبكّر هو وسيلة فعّالة للوقاية من هذه الأمراض.
في الحقيقة لا تعبّر فيروسات ألفا عن الصّورة الكاملة. هناك أيضًا أنواع أخرى من فيروسات الورم الحليمي، مثل بيتا وغاما، الّتي تعيش على الجلد. هي لا تسبّب أيّ ضرر للأصحّاء، ولكنّها قد تضرّ الأشخاص أصحاب الأجهزة المناعيّة الأضعف، مثل أولئك الّذين خضعوا لعمليّات زرع الأعضاء أو مرضى نقص المناعة. بالنّسبة لهؤلاء، يمكن لفيروسات الورم الحليمي، وخاصّة سلالات من نوع غاما، أن تسّبب الثّآليل، أمّا نوع بيتا، فقد يسبّب سرطان الجلد.
إلى جانب ذلك، في دراسة جديدة نشرت في مجلّة Cancer Cell، وجد أنّه لدى الأشخاص الأصحّاء، أصحاب جهاز مناعيّ سليم، تساعد فيروسات الورم الحليمي جهاز المناعة على تحديد موقع الخلايا الما قبل سرطانيّة والقضاء عليها والّتي تظهر نتيجة الطّفرات - التّغيّرات الجينيّة. على وجه التّحديد الطّفرات النّاتجة بفعل الأشعّة فوق البنفسجيّة (أشعة UV).
تسبّب الأشعّة فوق البنفسجيّة ضررًا كبيرًا لخلايا الجلد، وتزيد من خطر الإصابة بسرطان الجلد. اِمرأة تعاني من حروق الشّمس | Opat Suvi, Shutterstock
أضرار الأشعّة فوق البنفسجيّة
يعتبر التّعرّض المفرط لأشعّة الشّمس أمرًا خطيرًا بسبب الأشعّة فوق البنفسجيّة الّتي تنبعث منها. يسبّب هذا الإشعاع أضرارًا عديدة لخلايا الجلد؛ وأخطر هذه الأضرار هو تضرّر المادّة الوراثيّة، الحمض النّوويّ (DNA). يُعتبر متلقّو الأعضاء (زارعو الأعضاء) حسّاسين بشكل خاصّ للتّعرّض لأشعّة الشّمس، ويُعتقد أنّ السّبب في ذلك هو جهاز المناعة المُضْعَف: بعد عملية الزّرع، يُطلب منهم تناول أدوية لقمع جهاز المناعة بشكل دائم، خشية حدوث ردّ فعل مناعيّ ضدّ العضو المزروع.
بالمقابل، على عكس البشر، في التّجارب على الفئران، لم يلاحَظ أيّ اختلاف في كمّيّة الخلايا الّتي تضرّرت بسبب الأشعّة فوق البنفسجيّة بين الفئران الّتي تمّ قمع أجهزتها المناعيّة، وبين الفئران الأخرى. في المجموعة البحثيّة لشيدمر دميهري (Demehri)، من جامعة هارفارد في الولايات المتّحدة، أرادوا التّحقّق ممّا إذا كان هذا الاختلاف ينشأ بسبب الفيروسات الموجودة على الجلد.
أصاب الباحثون مجموعة من الفئران بفيروسات الورم الحليمي من النّوع بيتا، ومجموعة أخرى بفيروسات تورامية (Polyomaviridae) وهي عائلة أخرى شائعة من الفيروسات، بعضها قد يضرّ الإنسان أيضًا. قاموا بحلق الفئران وتعريضها للأشعّة فوق البنفسجيّة. في حين لم يكن هناك فرق بين المجموعة الضّابطة والفئران المصابة بالفيروسات التوارمية، فقد وُجد أنّ فيروسات الورم الحليمي تمنح الحماية ضدّ التّغيّرات الجلديّة استجابة للإشعاع.
وجد في الفئران المصابة بفيروسات الورم الحليمي، أقلّ بنسبة 25% في سماكة أنسجة الجلد، وأورام سرطانيّة تحتوي على طفرات في الجين p53 أقلّ بضعفين. يعتبر الجين p53 جينًا مثبطًا للسّرطان: فحوالي نصف حالات السّرطان البشريّة تتعلّق بهذه الطّفرات. والبروتين النّاتج عنه له دور مهمّ في الاستجابة لظروف الضّغط، إصلاح تلف الحمض النّوويّ، وتفعيل آليّة موت الخلايا المبرمج (Apoptosis) لمنع الخليّة الّتي تحتوي على العديد من الطّفرات من أن تصبح سرطانيّة.
عندما تمّ فحص جلد الفئران، اتّضح أنّ الفئران المصابة بالورم الحليمي كان لديها عدد أكبر من الخلايا التّائيّة (T cells) المتخصّصة في قتل الخلايا، وكذلك خلايا الذّاكرة المناعيّة، والّتي كانت تتركّز بشكل أساسيّ حول الخلايا ذات الطّفرات في الجين p53. عندما تعمّد الباحثون الإضرار بفاعليّتها، اختفى التّأثير الوقائيّ لفيروسات الورم الحليمي. وبعبارة أخرى، إنّ فيروسات الورم الحليمي في حدّ ذاتها لا تمنع تلف الجلد، ولكنّها توجّه خلايا الجهاز المناعيّ مباشرة إلى الخلايا الما قبل السّرطانيّة.
إذا لم تصل خلايا الجهاز المناعيّ إلى الخلايا المصابة، فلن تكون هناك حماية. وجد الباحثون أنّ الخلايا التّائيّة تستهدف الخلايا المصابة، لأنّ الخلايا الّتي لديها طفرات في الجين p53 تسمح لفيروس الورم الحليمي بالتّكاثر بقوّة أكبر، بحيث تعرض هذه الخلايا بروتينات الفيروس على سطحها أكثر من الخلايا الأخرى في بيئتها. تتعرّف خلايا الجهاز المناعيّ إلى الخلايا ذات الطّفرات فتهاجمها.
ووجد الباحثون أيضًا أنّ تطعيم الفئران ضدّ فيروسات الورم الحليمي قد يحسّن الاستجابة المناعيّة للخلايا المتضرّرة بعد العلاج بالأشعّة فوق البنفسجيّة، لأنّ هذه الخلايا تعرض المزيد من بروتينات الفيروس. يمنح التّطعيم جهاز المناعة مهارة التّعرّف إلى الفيروس وتحييد الخلايا المصابة، وهي أيضًا الخلايا الّتي تحتوي على طفرات في الجين p53.
وجد الباحثون أنّ الآفات تحتوي على عدد أقلّ من فيروسات الورم الحليمي وأقلّ خلايا تائيّة. عيّنة أنسجة من خلايا الجلد الما قبل سرطانيّة من نوع التقران السفعي | David A Litman, Shutterstock
عيّنات من جلد الإنسان
بعد التّجارب على الفئران، انتقل الباحثون إلى فحص عيّنات جلد من البشر. وقارنوا عيّنات الجلد من الوجه، الّذي يتعرّض للشّمس بشكل متكرّر، مع عيّنات جلد من الظّهر، والّتي عادة لا تتعرّض للشّمس. في جلد الوجه، تمّ العثور على المزيد من الخلايا ذات الطّفرات في p53، والمزيد من نشاط فيروسات الورم الحليمي من النّوع بيتا. بالإضافة إلى ذلك، في جلد الوجه، تمّ العثور على عدد أكبر من الخلايا التّائيّة في المناطق الّتي توجد فيها خلايا ذات طفرات p53 مقارنة بجلد الظّهر، وهي تتوافق مع الخلايا الّتي كانت فيها الفيروسات أكثر نشاطًا.
واصل الباحثون في فحص الآفات ما قبل السّرطانيّة من نوع التقران السّفعي (actinic kertosis)، وهي عبارة عن بقع خشنة على سطح الجلد. وقد وُجد أنّها تحتوي على عدد أقلّ من فيروسات الورم الحليمي وعدد أقلّ من الخلايا التّائيّة. أثار الباحثون احتمال أن تكون قدرة خلايا هذه الآفات على التّخلّص من بروتينات الورم الحليمي - ولم يعرف حتّى الآن كيف تفعل ذلك - هي آليّة غير معروفة للخلايا ما قبل السّرطانيّة في الجلد "للتّهرّب" من جهاز المناعة.
يأمل الباحثون أن تتيح الآليّة، الّتي تمّ اكتشافها، تطوير لقاح أو علاجات مناعيّة تكون فعّالة حتّى قبل ظهور السّرطان الفعليّ، وذلك بالتّوازي مع اكتشاف الآفات قبل السّرطانيّة في الجلد، وحتّى بعد ظهور الورم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام قياس مستوى فيروسات الورم الحليمي في الآفات الجلديّة كوسيلة لتشخيص درجة خطورتها، قبل وبعد تطوّر السّرطان.
في النّهاية، إنّ اكتشاف حقيقة أنّ الفيروسات غير الضّارة الموجودة على الجلد قد تساعد الجهاز المناعي على تحديد الخلايا الّتي يُحتمل أن تؤدّي الى أمراض، يعني أنّ عمليّات مماثلة قد تحدث في أعضاء أخرى، مع فيروسات أخرى.