كان الاعتقاد السائد أنّ شعب المايا ضحّى بالنساء فقط في طقوسه الدينيّة، لكنّ دراسة جينيّة جديدة تدحض هذا الادّعاء
تشيتشن إيتزا (Chichén Itzá) كانت مدينة قديمة في شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك، وهي إحدى المراكز السياسيّة الرئيسة لشعب المايا الذين عاشوا في المنطقة، والتي بلغت ذروة ازدهارها بين الأعوام ١٠٠٠-٨٠٠ للميلاد. هذه المدينة اليوم هي موقع أثريّ شهير مُدرجٌ على لائحة اليونيسكو للتراث العالميّ. عُثِر على العديد من الاكتشافات الأثريّة في المنطقة، بعضها يشهد على مراسم طقسيّة أُقيمت في المدينة، ومن بينها طقوس تضمّنت تقديم أضحية بشريّة. طوال سنوات عديدة، كان الاعتقاد السائد أنّ الأضحية التي قُدمّت هي فتيات صغيرات وشابات ونساء، لكنّ دراسة جينيّة جديدة ركّزت على أحد المواقع في المدينة، وكشفت معلومات حديثة تطعن بهذا الافتراض وبغيره من المعتقدات القديمة المتعلّقة بالممارسات الطقسيّة لحضارة المايا.
منذ ذلك الحين وحتّى اليوم
عاش شعب المايا في تشيتشن إيتزا في حضارة معقّدة للغاية، وكانوا معروفين بشكل خاصّ بمعرفتهم المتقدّمة في مجالات علم الفلك والرياضيات والهندسة المعماريّة. عاشوا في مجتمع طبقيّ؛ حيث كان أفراد النخبة الحاكمة فيه مسؤولون عن مراكز السلطة والطقوس الدينيّة، ويوصفون أحيانًا بأنّهم وسطاء بين الآلهة وباقي أفراد المجتمع. كانت الطقوس الدينيّة، بما في ذلك التضحية البشريّة، جزءًا لا يتجزأ من الجهود المستمرّة لاسترضاء الآلهة، حتّى يتمكنوا في المقابل من الحفاظ على التوازن في الطبيعة.
يحتوي الموقع الذي ركّزت عليه الدراسة على العديد من الأمثلة المثيرة للإعجاب لظاهرة طبيعيّة جيولوجيّة استثنائيّة: الفجوات الصخريّة (cenotes)، وهي عبارة عن فجوات صخريّة تحت الأرض مملوءَة بالمياه الجوفيّة، تشكّلت بشكل طبيعيّ من الكهوف التي انهارت أسقفها. هذه الفجوات الصخرية كانت مصدر الماء الوحيد لشعب المايا الذين عاشوا في المنطقة، وكانوا ينظرون إليها باعتبارها بوابة إلى العالم السفليّ، حيث تعيش الآلهة. في كهف كبير بشكل خاصّ، يبلغ قطره ٦٠ مترًا ويُدعى "الكهف المقدّس"، وعُثِر على آلاف الأشياء التي ألقاها شعب المايا فيه على مرّ السنين. بعض تلك الأشياء التي عُثِر عليها لها قيمة خاصّة، ويبدو أنّها كانت جزءًا من القرابين الاحتفاليّة التي قُدّمت للآلهة. لقد كانت القرابين مخصّصة ربّما لإله المطر تشاك (Chac)، لضمان حصادٍ وفير وحماية من الجفاف؛ وربّما للإله هون هوناهبو (Hun Hunahpu) بالتّحديد، المسؤول عن مواسم زراعة الذرّة.
فرضيّة أنّ معظم الضحايا كانوا في الغالب من النساء والفتيات الصغيرات، كانت تستند إلى وثائق من القرن السادس عشر ودراسات من أوائل القرن العشرين. مع ذلك، فقد أشارت تحليلات حديثة لعظام وُجدت في موقع آخر إلى أنّ الضحايا كانوا من كلا الجنسين، وأنّ العديد من الضحايا كانوا من الأولاد الصغار والأطفال. ونظرًا إلى أنّه من الصّعب التمييز بين بقايا عظام الصبية والفتيات بناءً على المظهر وحده، فقد كانت هناك حاجة لاستخدام أدوات أخرى للوصول إلى استنتاجات أكثرَ دقةً، وبالتالي فقد استخدم فحص الحمض النوويّ في الدراسة الحالية من "الكهف المقدس"، من أجل تحديد الهوية الجنسيّة للضحايا.
الفجوة الصخرية، مصدر الماء الوحيد لأبناء المايا الذين عاشوا في هذه المنطقة، وكانوا ينظرون إليها باعتبارها بوابة إلى العالم السّفلي حيث تعيش الآلهة. فجوة في تشيتشن إيتزا | ecstk22, Shutterstock
نافذة على الماضي بلطفٍ من الحمض النووي
ركّزت الدراسة الجديدة على فكّ شيفرة الحمض النوويّ لـ ٦٤ رفاتًا بشريّة، عُثر عليها بالقرب من الكهف المقدّس وأماكن أخرى في مدينة تشيتشن إيتزا، والتي يعتقد علماء الآثار أنّها كانت ضحايا للتضحية الطقسيّة. استخدم الباحثون تقنيّاتٍ متقدّمة لتحليل الحمض النوويّ القديم، حيث استخرجوا بحذر مسحوقَ العظام من أسنان وأجزاء في الأذن الوسطى لهؤلاء البشر القدامى، قاموا بتنظيف العيّنات بدقّة ورتّبوا تسلسل شيفرتهم الجينيّة.
يتطلّب العمل مع الحمض النوويّ القديم أو التالف حذرًا وعنايةً خاصّةً في جميع مراحل الاستخراج، ونظرًا لأنّ المادة الوراثيّة لم تكن محفوظة بشكل جيّد، فإنّ التسلسل المستخرَج منها يكون مجزأً ومكسورًا، وله خصائص مختلفة بعض الشيء عن خصائص الحمض النوويّ "الطازج". لذا يتعيّن على الباحثين استخدام أساليب حسابيّة أكثر تعقيدًا من المعتاد، ومقارنة النتائج بالحمض النووي الحديث، ممّا يسمح باستخلاص استنتاجات حول التسلسل الأصليّ. لغرض المقارنة، جمع الباحثون عيّنات من المواد الوراثيّة من السكّان المعاصرين أبناء شبه جزيرة يوكاتان - سكّان بلدة Tixcacaltuyub القريبة - الذين يعرفون أنفسهم على أنهم من نسل شعب المايا، وحاولوا تحديد القرابات الأسرية. ونظرًا لأنّ وجود علامات جينيّة مايانيّة ولو جزئيّة لدى السّكان، من شأنها أن توفّر معلومات كافية للمقارنة، فإنّ الاعتماد على تصريحات السكان لم يشكّل مشكلةً.
أيّتها العظام، لمن تعودين؟
لقد شكّلت العظام التي تعود للصغار وللأطفال تحديًا للباحثين، إذ تطلّبت استخدام الحمض النووي لتحديد جنس أصحابها بشكل نهائي. خلافًا للتوقعات، أظهرت الفحوصات المتعمّقة أنّ معظم الضحايا كانوا أطفالًا تراوحت أعمارهم بين ٣ و٦ سنوات، وكانوا جميعًا من الذكور، وكان بعضهم من الأقارب من نفس العائلة، إخوة وأبناء عمومة، ومن بينهم زوجان من التوائم.
من بين بقايا الـ ٦٤ طفلاً التي وُجدت في الكهف المقدّس، تمّ التعرف على مجموعتين من التوائم المتطابقة - وهو معدّل مرتفع بشكلٍ استثنائيّ، نظرًا لأنّ انتشار التوائم المتطابقة في عموم السكان لا يتجاوز ٠،٤ بالمائة. قد يكون اختيار التوائم مرتبطًا بالأهمّيّة الأسطوريّة للتوائم لدى شعب المايا، خاصّةً في سياقات الموت والبعث والتوازن الكونيّ. تتضمّن إحدى القصص في بوبول فو Popol Vuh، وهي مجموعة من الحكايات الشعبيّة للمايا المكتوبة في القرن السادس عشر، التوأمان البطلان Hunahpú وXbalanqué، اللذان ينزلان إلى العالم السفلي ويواجِهان أسياد الموت. كانت القصة موضوعًا للعديد من الإصدارات والتمثيلات الفنّيّة، ممّا يوضّح مدى تعقيد وثراء نظام المعتقدات والعبادة لدى شعب المايا بشكلٍ عام، والأهمّيّة التي كانوا ينسبونها للتوائِم بشكل خاصّ.
كانت الأضحية البشرية جزءًا لا يتجزّأ من جهود المايا المستمرّة لاسترضاء الآلهة. سكين زجاجيّ بركانيّ استخدمه شعب المايا للتضحية البشرية |Kai Grim Shutterstock
المناعة بين الأجيال
وجدت الدراسة أوجه تشابه بين المادّة الوراثيّة القديمة والحمض النوويّ لسكّان البلدة، الذين سُرُّوا بسماع ارتباطهم الوراثيّ بسكّان تشيتشن إيتزا القدامى. ومع ذلك، كانت منطقة معيّنة من الجينوم، تخصّ الجهاز المناعيّ، مختلفة بشكلٍ كبير لدى السكّان المعاصرين مقارنةً بالحمض النوويّ القديم. يُعدّ هذا الاختلاف دليلًا على التهديدات الصحّيّة التي واجهَت شعب المايا وذرّيتهم في القرون الأخيرة: فقد جلب الغُزاة، وهم الإسبان الذين خرجوا لغزو الأمريكتين خلال الفترة الاستعماريّة، أمراضًا معهم، بعضها كان مميتًا للسّكان المحلّيّين.
لقد تسبّبت الفيروسات التي وصلت عبر المحيط في القرن السادس عشر في دمار ديموغرافيّ حقيقيّ في القارة الأمريكيّة. فقد مات الملايين من السكان الأصليّين للقارة بسبب الأمراض، بما في ذلك بعض المايا. إلا أنّ الذين لم يمرضوا، أو مرضوا وتعافوا فيما بعد، تبيّن أنّهم كانوا أكثر قدرةً من غيرهم على التعامل مع هذه الأمراض؛ وبالتالي تمكّنوا من البقاء على قيد الحياة، وإنجاب النسل ونقل السّمات الجينيّة المتجلّيَة في مقاومة المرض. تحدث التغيّرات الجينيّة من هذا النوع في حالات الأمراض التي تهدّد البشريّة على مدى أجيال عديدة. لقد ترك هذا التكيّف بصمةً وراثيّةًً، وهذه البصمة هي ما يفسّر الفرق بين الملف الجينيّ لسكّان البلدة - أحفاد المايا الناجين - والحمض النوويّ القديم. ولو لم يتمكّن أحفاد المايا في تشيتشن إيتزا من التكيّف بسرعة كافية مع الظروف الجديدة، بحيث تطوّر لديهم جهاز المناعة أو آليّة الشفاء الموجودة في الجينوم الحديث، لكان بقاؤهم محفوفًا بالخطر.
بالمقارنة بالمواد الوراثيّة القديمة، احتوت عيّنات الحمض النووي المأخوذة من سكان البلدة على مكوّنات أكثر تساعد في مكافحة بكتيريا السالمونيلا المعويّة (Salmonella enterica). تُسبب هذه البكتيريا التهابًا معويًّا، وأشارت دراسات سابقة إلى أنّ سكان الإمبراطوريّات القديمة في أمريكا الوسطى (من اليونانية Mesoamerica) كانوا أكثر عرضةً للإصابة بها. من المعروف أنّ وباءً يُسمّى "كوكوليزتلي" (cocoliztli، الطاعون في اللغة الأزتكيّة) ضرب سكان الأزتك في المكسيك عام ١٥٤٥ ممّا أسفر عن قتل العديد منهم؛ وقد تمّ العثور على أدلّة أثريّة على ذلك في مقابر تعود إلى العصر الاستعماريّ في أواكساكا (Oaxaca)، جنوب المكسيك. رُبّما أصيب سكان تشيتشن إيتزا بنفس البكتيريا، لكنّ بعضهم طوّر نوعًا من الحلّ.
أنشأها أبناء المايا وتقع بالقرب من الكهف المقدس، استُخدمت كمعبد للإله كوكولكان. الهرم في تشيتشن إيتزا | Bruno Bergmann
أين كنتم وماذا أكلتم؟
أخيرًا، أجرى فريق البحث تحليلاً نظيريًّا للعظام. يمكن لهذا التحليل أن يوفّر معلومات حول النظام الغذائيّ والصّحّة والأصل الجغرافيّ لأصحاب العظام، من خلال قياس الكولاجين في العظم. ساعد التّحليل الجينيّ والفحص النظيريّ الباحثين على رسم صورة شاملة للسكّان الضحايا، واتّضح أنّ الأطفال الذين تمّ التضحية بهم كانت لديهم أنظمة غذائيّة مختلفة قليلًا عن بعضهم البعض. قد يكون السبب في الاختلافات الغذائيّة ناجمًا عن العيش بمناطق مختلفة، وأنّ هؤلاء الضحايا أتوا من خارج تشيتشن إيتزا - على عكس الاعتقاد السائد حتّى الآن، والذي يفيد بأنّ الضحايا كانوا من سكّان المدينة، وأنّ عائلاتهم عاشت بالقرب من المعبد.
قد تشير هذه النتائج إلى أنّ مدينة تشيتشن إيتزا كانت مركزًا عالميًا، حيث كانت الحياة الاجتماعيّة والطقوسيّة لسكّانها تشمل ضحايا من جميع أنحاء المنطقة، وأنّ هؤلاء قد جاءوا إلى المدينة أو تمّ جلبهم إليها. اقترح الباحثون تفسيرًا محتملًا آخر: ربّما كان الاختلاف في النظام الغذائيّ نابعًا من اختلاف الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ لعائلات الضحايا، ولم تكن جميع أنواع الطعام متاحة لجميع الطبقات.
قام شعب المايا بعرض جماجم القرابين على مبان خاصّة. مبنى لعرض الجماجم في موقع تشيتشن إيتزا | Matyas Rehak, Shutterstock
مفاجآت ورؤية للمستقبل
توضّح الدراسة لأوّل مرّة صلة محتملة بين أساطير المايا وعاداتهم الحقيقيّة، مثل أهمّيّة التوائم. وتظهر الدراسة أنّه تمّ التضحية بالأولاد والفتيان في الكهف المقدّس، ممّا يدحض الفرضيّة القديمة القائلة بأنّ الضحايا كانوا فتيات ونساء. وربّما يشير الارتباط الأُسريّ بين حوالي ربع الأطفال، إلى أنّه لم يُضحَّ بهم عشوائيًا، بل اختيروا لاعتبارات اجتماعيّة أو دينيّة أو غير ذلك.
في مقابلة مع قناة CTV News، قال رودريغو باركيرا (Barquera) من معهد ماكس بلانك لعلم الأنثروبولوجيا التطوّريّة في لايبزيغ بألمانيا، والذي قاد الدّراسة: "يتعيّن علينا أن نتذكّر أنّ الموت، وكلّ ما تنطوي عليه هذه الطقوس، مختلفٌ تمامًا بالنسبة لنا، لأنّ لدينا وجهة نظرٍ مختلفة تمامًا عن العالم عمّا كانت لديهم. بالنسبة إليهم لم يكن الأمر يتعلّق بفقدان طفل، بل بالفرصة التي منحتها لهم قوىً معيّنة ليكونوا جزءًا من هذا الدفن الخاصّ".
رغم أنّ الدراسة ركّزت على الممارسات الطقسيّة لشعب المايا، إلّا أنّها توفّر أيضًا نافذة على جوانب أخرى من ثقافتهم المعقّدة والمتنوّعة. وبفضل تكنولوجيا أدوات البحث، التي تستمرّ في التطور وتصبح أكثر كفاءةً، يستطيع العلماء تطوير أساليب جديدة وكشف معلومات لم تكن متاحة من قبل. قد يكشف البحث الجينيّ المستمرّ للثقافات القديمة عن العديد من الأسرار حول الماضي البشريّ، ممّا يُثري المعرفة ويتحدّى افتراضاتنا الأساسيّة حول هذه الثقافات ومفاهيمها.