يعتاد قردة الشمبانزي على القَرْعِ على جذوع الأشجار عند انتقالهِ من مكانٍ إلى آخر. أظهر الباحثون في دراسة جديدة أنّها تقرع بمعدّلات مختلفة، ويتوّقعون أنّ فئة القردة الكبرى تستخدم طريقة القَرْعِ للحفاظ على التّواصل في أنحاء الغابة
تمشي مجموعةٌ صغيرةٌ من الشمبانزي بين الأشجار في أعماق الغابة الممطرة في أوغندا الإفريقيّة. توقّف أحدها، وهو ذكرٌ صغير، بالقرب من شجرة كبيرة تخرج من جذعها فروع كثيفة. قرع الشمبانزي على الفروع بكلتا يديه ورجليه، وبين كلّ قرعة وأخرى كان يُسمِع النّداءات المألوفة بين أبناء جنسه، الّتي تبدو وكأنّها لهثة تليها صرخة حادّة. بعد الانتهاء من أفعاله، ينضمّ إلى أصدقائه ثمّ يستمرّون في طريقهم.
قد يبدو هذا السّلوك غريبًا بالنّسبة لنا، لكنّه شائعٌ جدًّا بين قرود الشمبانزي، وخاصّة الذكور منها. يكون القَرْع على الجذوع والفروع أحيانًا جزءًا من عرضٍ يقومون به، هدفه إظهار مدى قوّتهم وإثارتهم للإعجاب. لكنّهم يقرعون كذلك أيضًا عندما يمرّون بجوار شجرةٍ ما في الغابة، عند انتقالهم من مكان إلى آخر. فلماذا يفعلون ذلك؟ في دراسة جديدة، أظهر باحثون من أوروبا وأوغندا أنّ لدى ذكور الشمبانزي المختلفة إيقاعات قرعٍ خاصّة بهم، وَيفترضون أنّ القرع أثناء المَشيِ طريقةٌ للتّواصل في المسافات البعيدة بين فئة القردة الكبرى. هذه هي الطّريقة الّتي يعلنون بها "أنا هنا!"، وعندما يكون جميع أفراد الشّمبانزي حولهم سيعرفون من المقصود.
يخبر بعضهم الآخرين "أنا هنا!" عن طريق قرع بإيقاعٍ خاصّ. ذكر الشّمبانزي | Adrian Soldati, University of St Andrews
وتيرة توقيع خاصّة
كان الصّوت الخاصّ الّذي يُصدره القَرعُ بمثابة الإشارة الأولى إلى أنّ قرود الشّمبانزي قد تستخدمه للتواصل. وقالت كاثرين هوبيتر، الباحثة البارزة الّتي أصدرت المقال، في مقابلة مع بي بي سي: "إذا ضربوا الجذوع بقوّة، فإنّهم يصدرون صوتًا مدويًّا، عميقًا، يتردّد عبر الغابة". درست هوبيتر وزملاؤها مجموعة من الشّمبانزي في غابات أوغندا، ووجدوا أنّه يمكن سماع أصوات القرع الخاصّة بهم على بعد أكثر من كيلومتر واحد في الغابات الكثيفة.
ظهرت الإشارة الثّانية، والأكثر إثارة للدهشة، بعد أن قضى الباحثون بعض الوقت في الغابة. فقد اكتشفوا أنّهم عندما يسمعون صوت القرع، يمكنهم أحيانًا أن يخمّنوا أيّ ذَكَرٍ أصدره. قالت هوبيتر: "لقد كانت طريقة رائعة للعثور على حيوانات الشمبانزي المختلفة الّتي أردنا تعقّبها". عندها فكّروا "إذا استطعنا فعل ذلك، فعلى الأرجح أنّ الشمبانزي قادر على فعل ذلك أيضًا".
في المرحلة الأولى، فحص الباحثون ما إذا كان شعورهم الدّاخليّ صحيحًا، أي إذا كان قرود الشمبانزي يقرعون حقًّا بشكلٍ مختلفٍ تمامًا أحدهم عن الآخر. تابع الباحثون وتعقّبوا ثمانية ذكور لعدّة أشهر وسجّلوا صوت قرعهم. عندما حلّلوا التّسجيلات، اكتشفوا أنّ لكلّ شمبانزي إيقاع خاصّ به، ذو خصائص واضحة- كنوع من "التّوقيع" الخاصّ، يمكن من خلاله معرفة هويّة القارع.
ومع ذلك، لم يظهر هذا التّوقيع في كلّ مرة. عندما كان القرع جزءًا من العرض، كان على الأغلب قرعًا أبسط وأقصر، وبدون خصائص خاصّة وبالكاد تتغيّر من ذكر إلى آخر. تهدف العروض لجذب الإناث وتحسين الوضع الاجتماعيّ للعارض. افترضت هوبيتر أنّ الذّكور، وخاصّة الصّغار منها، لا يريدون أن ينشروا أنّهم يقومون بعرضٍ كهذا خارج المجموعة الصّغيرة الّتي يتواجدون فيها. قد يعتقد الذّكور الأقوياء، الّذين يتواجدون على مسافة ما ويسمعون صوت القرع، أنّ العارض يحاول تهديد مكانتهم فيقومون بمهاجمته ردًّا على ذلك. وقالت أيضًا: "إذا كنت تعرض لمجموعة من حولك، فأنت لا تريد بالضّرورة أن يعرف الذّكر ألفا المتواجد على مقربة منك، من تكون أنت".
ذكور الشّمبانزي بإيقاعات خاصّة
فصل، قَرع واتّحاد
عندما لم تكن قرود الشمبانزي منخرطة في العروض، وإنّما كانوا يقرعون على الجذوع أثناء تحرّكاتهم، كان إيقاعهم المميّز مسموعًا بوضوح. أحد الشّمبانزي، ذكر يُدعى تريستان، تميّز بطريقة القَرع لدرجة أنّ الباحثين أطلقوا عليه لقب "جون بونهام الغابة"، على اسم قارع الطّبل في فرقة لد زبلين. قالت فيستا إليوتري (Eleuteri)، الّتي قادت البحث: "إنّه يُنتِج قرعًا طويلًا جدًّا، مع العديد من الإيقاعات، ويمكنك التّعرّف عليه عن بُعد، ومعرفة أنّ تريستان هو القارع".
لماذا على قرود الشّمبانزي إعلام الغابة كلّها بمكان تواجدهم؟ قد تكمن الإجابة في بنيتهم الاجتماعيّة. على عكس العديد من الرئيسيّات الأخرى، مثل الغوريلا أو قرود الكبوشي، فإنّ قرود الشّمبانزي لا تتحرّك في مجموعات ثابتة ومتلاصقة، إذ يكون جميع أعضاء المجموعة عادةً على بُعد بضعة أمتار من بعضهم. فبدلًا من ذلك، تبنّوْا طريقة حياة تُدعى "فصل واتّحاد" (fission-fusion): فحيوانات الشّمبانزي المتواجدة في أوغندا تعدّ بالعشرات، وتنقسم إلى مجموعات أصغر، فتتكوّن أحيانًا من ثلاثة إلى أربعة أفراد فقط، ويتحرّكون ويلتقون بمجموعات أخرى، فيتوحّدون معهم ومن ثمّ ينقسمون مرّة أخرى. بعد الانقسام، قد تختلف المجموعات الصّغيرة النّاتجة بعد الاتّحاد عن الّتي كانت قبله. وهكذا يلتقي جميع أفراد مجتمع الشّمبانزي مع بعضهم، لكن تتغيّر خلاياه الاجتماعيّة الآنيّة من وقت إلى آخر.
يقول الباحثون إنّ أصوات القرع مع التّوقيع الخاصّ لكلّ فرد من الشّمبانزي، قد تكون هي الطّريقة الّتي يعرف بها مكان أصدقائه في المجموعة. يمكنهم بهذه الطّريقة أن يقرّروا التّوجّه نحو الشّمبانزي الّذي يريدونه أو تجنّب المنطقة الّتي يمرّ بها خصمهم. قد تكون طريقة القرع أساسًا للتّواصل لمسافات بعيدة، ما يسهّل على الشّمبانزي الحفاظ على الفصل والاتّحاد المستمرّ، والعثور على بعضهم في غابة متشابكة تمتدّ على مساحة أميال.