أظهرت دراسة ما أنّ هُناك تغيّرات في مستويات الهرمونات وفي بُنية دماغ المرأة الحامل، والّتي من المحتمل أن تكون مرتبطة بتعزيز إدراكها الذّاتيّ وعلاقتها مع الطّفل

تشعر العديد من النّساء بالتّوتر والقلق أثناء الحمل، ممّا تسبّب لها هذه المشاعر قلّة في النّوم والتّعب الجسديّ. إنّ التّفسير الشّائع لهذه الأعراض هو أنّها تعمل على تقليل قدرة النّساء الحوامل على التّركيز، وتؤدّي إلى مجموعة من السّلوكيّات المعروفة باسم "دماغ الحمل" Pregnancy Brain. تشير الأبحاث في جامعة لايدن في هولندا إلى مصدر آخر محتمل لهذه التّغيّرات السّلوكيّة: إنّ التّغيّرات الّتي تحدث في مستويات الهرمونات تؤثر على دماغ المرأة الحامل، وقد تؤثّر أيضًا على سلوكها. 

أبلغت العديد من النّساء الحوامل عن مواقف مضحكة ومحرجة، وذلك لميلهنّ إلى كثرة النّسيان وانخفاض مستوى الانتباه، والتي تعتبر من الظّواهر الشّائعة في "دماغ الحمل" أو ما يُسمّى بظاهرة "غباء الحمل". على سبيل المثال، شاركت إحدى النّساء بموقف لها وهو بينما كانت تدخل السّيّارة بمفردها وتجلس في المقعد المجاور للسّائق، وهي تتوقّع من شخص آخر أن يقود السيارة، أو تحاول تشغيل التّلفاز من خلال جهاز التحكم الخاصّ بمكيّف الهواء، وغيرها المزيد من المواقف. تعتبر هذه الظّاهرة عالميّة وسُمّيت في اللّغة الإنجليزيّة بالعديد من الأسماء منها "عقل الأمّ" Mommy Brain و"نساوة الأمّ" Momnesia. يُفرَز هرمون الإستروجين في جسم المرأة أثناء الحمل أكثر من أيّ وقت آخر في حياتها. يغمر هرمونا الجنس البروجسترون والإستروجين جسم المرأة أثناء الحمل، ممّا يسبّب تغيّرات في عقلها

في عام 2017، قارن الباحثون بنية دماغ النّساء قبل حملهنّ الأوّل وبعده. حيث قاموا بفحص الاختلافات في استجابة المرأة لرؤية طفلها مقابل رؤية طفل غريب، باستخدام التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ (MRI)، والتّصوير بالرّنين المغناطيسيّ الوظيفيّ (fMRI). بالإضافة إلى ذلك، قامت النّساء بتعبِئة استبيانات للتّحقّق من مستوى ارتباطهنّ بالطّفل بعد الولادة.

وجد الباحثون أنّه خلال فترة الحمل، انخفض حجم المادّة الرّماديّة في دماغ المرأة، وهي مادّة تتكوّن بالأساس من الخلايا العصبيّة. لم يكن هذا الانخفاض في جميع أنحاء الدّماغ، أو في توزيع عشوائيّ، ولكن بشكل رئيسيّ في الفصّ الجبهيّ (prefrontal cortex) والفصّ الصّدغيّ (temporal lobe). ترتبط هذه المناطق في الوعي، وبقدرتنا على رؤية العالم من وجهة نظر شخص آخر، وصياغة "نظريّة العقل" (Theory of mind، أو ToM) في أذهاننا، والّتي تسمح لنا بفهم الأفكار والأشخاص من حولنا، معتقداتهم ونواياهم.

في الطّريق إلى الأُمومة

رُبّما ما يؤدّي إلى انخفاض حجم المادّة الرّماديّة ليس الحمل فحسب، بل الأمومة الجديدة أيضًا، والّتي تشمل قلّة النّوم في العديد من اللّيالي، العمل على مدار السّاعة وعدم تناول الطّعام بشكل منظّم لضيق الوقت. في دراسةٍ أُخرى، ظهر انخفاض في حجم المادّة الرّماديّة ينخفض فقط لدى الأمّهات اللّاتي حملن لأوّل مرّة، وليس لدى الآباء، أو لدى المجموعة الضّابطة من النّساء غير الحوامل. كما شُخِّصَ هذا الانخفاض أيضًا في اختبار آخر على هذه النّساء بعد عامين.

لكن لا يبدو أنّ هذا الانخفاض يضرّ بعلاقة الأمّ بالطّفل. عندما عُرضت على النّساء صور أطفالهنّ بعد الولادة، ظهرت هُناك العديد من المناطق في أدمغتهم الّتي تنشط بقوّة أكبر، مقارنةً برؤيتهنّ لصور أطفال آخرين. في الواقع، إنّ ثلث المناطق الّتي تفاعلت بقوّة أكبر كانت المناطق الّتي فقدت جزءًا من حجمها.


تعود التّغيّرات في عقل المرأة الحامل إلى الأمومة. رسم توضيحيّ لجنين دماغ بشريّ | المصدر: John Bavosi / Science Photo Library

لا يشير الانخفاض في كمّيّة المادّة الرّماديّة بالضّرورة إلى انخفاض في المهارات الإدراكيّة، لكنّه قد يشير إلى كفاءة أو تغيرات في تخصّص مناطق الدّماغ. ربّما تسمح التّغيّرات الهيكليّة في الدّماغ لتكون المرأة أكثر انتباهًا لطفلها. دُعِمَ هذا الافتراض بالعديد من النّتائج، على سبيل المثال، تكون النّساء الحوامل قادرة على التّعرّف على الوجوه والمشاعر بشكل أفضل. أظهرت التّحليلات الإحصائيّة أنّه مع انخفاض حجم المادّة الرّمادّيّة في دماغ الأمّ أثناء الحمل، تحسّن الارتباط  بينها وبين الطّفل وأظهرت مشاعر سلبية أقلّ تجاهه بعد الولادة. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أنّه على الرغم من لقب "دماغ الحمل"، فإنّ الذّاكرة طويلة المدى للحوامل أفضل من النّساء اللّاتي لم يحملن مطلقًا.

تخطيط معمَّق

قامت الباحثة -الّتي أجرت الدّراسة في عام 2017- دراسةً متابعةً، والّتي فحصت فيها مع فريقها أسباب التّغيّرات في دماغ المرأة الحامل. قام الفريق بفحص عدّة تغيّرات، منها الهرمونيّة، بُنيّة المادّة الرّماديّة ونشاط الدّماغ أثناء الرّاحة بعد الحمل. قارن الباحثون مجموعة من النّساء قبل حملهنّ الأوّل وبعده، ومجموعة من النّساء اللّواتي لم يحملن خلال فترة الدّراسة. خضعت المشاركات للتّصوير بالرّنين المغناطيسيّ الوظيفيّ أثناء الرّاحة، وفحصت التّغيّرات التّشريحيّة في أَدمغتهنّ في التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ، لمعرفة ما إذا كانت هناك أيّة تغيّرات في المادّة البيضاء، والّتي معظمها عبارة عن امتدادات الخلايا العصبيّة التي تنقل الإشارات العصبيّة. تمّ اختبار مستوى الإجهاد وجودة النّوم في استبيانات، واختبار مستويات الهرمونات الجنسيّة في كلّ أسبوعيْن حتّى أربعة أسابيع باستخدام عيّنات البوْل.

حصلت هذه الدّراسة على نتائج مشابهة للدّراسة السّابقة، فيما يتعلّق بالمناطق الّتي انخفض فيها حجم المادّة الرّماديّة، لكنّها وجدت أيضًا مثل هذا الانخفاض في مناطق أُخرى لم تلاحظها الدّراسة السّابقة، مثل موصل الفصّ الصدغيّ والجداريّ، وهي منطقة بالغة الأهمّيّة للقدرة على صياغة نظريّة العقل. فإذا تعرّضت هذه المنطقة للتّلف، خاصّة في الجانب الأيسر من الدّماغ، فمن المحتمل أن يواجه الشّخص صعوبة في فهم آراء شخص آخر. وجد الباحثون أيضًا أنّه كلّما زاد انخفاض حجم المادّة الرّماديّة في دماغ الأمّ، زاد استثمارها في تجهيز الغرفة للطّفل، وشراء الملابس له، وكتب تحضير للأمومة الجديدة.


كشفت مقارنة بين النّساء الحوامل والنّساء اللّاتي لم يحملن قط عن اختلافات في بنية الدّماغ. امرأة حامل تخضع للتّصوير | مصدر الصورة:  Unitone Vector, Shutterstock

الرّاحة لطفلك

وجد الباحثون أنّه بعد الحمل، يعمل دماغ الأم بشكل مختلف أثناء الرّاحة. لا تقلّ أهمّيّة نشاط الدّماغ في حالة الراحة عن نشاطه أثناء أداء مهمّة معيّنة. عندما نرتاح، تُنَشَّط شبكة دماغيّة تُسمّى "شبكة الوضع الافتراضيّ"، الّتي تسمح لنا بالإدراك الذّاتيّ وتخيّل الماضي والمستقبل. تعمل هذه الشّبكة عندما يتمّ توجيه مواردنا الإدراكيّة إلى الداخل، بدلًا من توجيهها لمهمّة خارجيّة. كما وتعتبر مهمّة للإدراك الاجتماعيّ، لأنّها تسمح لنا بالتّفكير في الأحداث الاجتماعيّة، وإجراء مقارنات اجتماعيّة، والتّمييز بيننا وبين الآخر وإظهار التعاطف. بالإضافة إلى ذلك، وجدوا أنّ نشاط مناطق شبكة الوضع الافتراضيّ مرتفع لدى النّساء اللّواتي حملن وولدن، بالمقارنة مع النّساء اللّواتي لم يحملن قَطّ. شوهد هذا النّشاط خاصّةً في منطقة الفصّ القذالي (occipital lobe)، حيث نقوم بمعالجة المعلومات المرئيّة والإدراك الذّاتيّ.

بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت مستويات الهرمونات الجنسيّة، وخاصّة مستوى أحد هرمونات الإستروجين في الأشهر الثّلاثة الأخيرة من الحمل.مع ذلك، لم يُعثَر على صلة بين التّغيّرات في الدّماغ ومستوى الضّغط النّفسيّ لدى الأم، أو جودة نومها ودورات الرِّضاعة، كما لم يُعثر على تغيّرات في بنية المادّة البيضاء في الدّماغ.

استنادًا على تحليل النّتائج واستبيانات السّلوك، ظهر أنّه مع زيادة نشاط شبكة الوضع الافتراضيّ، زاد الارتباط بين الأمّ والطّفل. تشير هذه النّتائج إلى أنّ الحمل مرتبط بالمرونة الهيكليّة والوظيفيّة داخل هذه الشّبكة، وأنّه عندما تصبح المرأة أمًّا، يتغيّر الأداء الأساسيّ لدماغها. تخضع الأمّ لتغيير شامل في الهُويّة، وتبدأ في التّركيز على الطّفل أكثر من نفسها، لتتماشى مع أفكاره، احتياجاته ومشاعره.

في النّهاية، من الممكن أن تساهم التّغيّرات الهرمونيّة في ضبط النّظام الاجتماعيّ للمرأة الحامل والمنجِبةة. يحسّن تكييف المناطق الاجتماعيّة في دماغها من ارتباطها بالطّفل وانتقالها إلى مرحلة الأمومة.

 

0 تعليقات