كشفت دراسةٌ جديدةٌ أنَّ الإفراطَ في تناولِ الخمر قد يُؤدّي إلى هرمِ الخلايا بيولوجيًّا، ومن ثمّ إلى أمراض السّرطان والألزهايمر وأمراض القلب.

من المعروف أنَّ للإفراط في شرب الخمر عواقب وخيمة. ومن هذه من الأضرار أضرارٌ صحيّة كثيرة، مثل زيادة خطر الإصابة بأنواعٍ مختلفةٍ من السّرطان، وَأمراض الكبد والقلب، والجلطة الدّماغية وغيرها. 

يُمكن إضافةُ عاملٍ آخر، وفقًا للدّراسةِ التي أُجريت في جامعة أكسفورد ونُشرت في مجلة Molecular Psychiatry، إلى قائمةِ الأضرارِ التي قد تنجم عن الإفراطِ في شربِ الخمر. فقد كشفت هذه الدّراسة أنَّ استهلاكَ كمّياتٍ كبيرةٍ جدًّا من الخمر يُعجّلُ عمليّاتٍ بيولوجيّةً تؤدّي إلى هرمِ الخلايا التي تنجم عن تقصيرِ التيلوميرات - وهي عبارة عن مناطق واقيةٍ موجودةٍ على أطراف الكروموسومات (الصِّبغيّات). 

 

التيلوميرات - الخوذ الواقية

التيلوميرات مناطق موجودة في أطراف الكروموسومات، المباني المنتظمة التي تحوي المادّةِ الوراثيّة. هناك طرفان لكلّ كروموسوم، يتكوّن كلٌّ منهما من تسلسلاتٍ متكرّرةٍ من الحمض النّوويّ (DNA). تبدو هذه الأطراف -لأوّل وهلةٍ- كأنّها تسلسلاتٍ زائدةٍ غيرَ ضروريّةٍ لعدم احتوائها على جيناتٍ (مورِثات) تُترجَمُ إلى بروتينات تُكسِبُ الخلايا خواصَّها. لكن، لِهذه التسلسلات، على الرغم من ذلك، وظيفةٌ هامّةٌ جدًّا، فهي بمثابة خوذ واقية تحافظ على ثباتِ الجينات والجينوم بأكمله. 

تنقسمُ أغلبيّةُ الخلايا في جسم الإنسان بشكلٍ دائم: تتجدّدُ الأنسجةُ المختلفةُ في الجسم تزامنًا مع تكوُّن خلايا جديدة، تستبدلُ الخلايا التي تموت. "تتفسّخُ" الكروموسوماتُ قليلًا في منطقةِ التيلوميرات على الأطراف، وتقصُر مع كلِّ دورةِ انقسامٍ للخليّة. تَحمي التيلوميرات، بناءً على ذلك، الكروموسومات وتَمنعُ ضياعَ جيناتٍ هامّةٍ منها. تقصُرُ التيلوميرات شيئًا فشيئًا، إلى أنْ "تنتهي" في نهايةِ المطاف. تتحوّلُ الخليّةُ في هذه المرحلةِ إلى خليةٍ "عجوزٍ" من النّاحيةِ البيولوجيّة، وتتوقّف عن الانقسام وتموت، وذلك لمنعِ الإضرار بِتسلسلات الجينات الضروريّة لِلخليّة. يُحدّدُ التيلومير، في الحالةِ السليمةِ، عددَ انقسامات التي تمرُّ بها الخليّةُ بحيث لا تنقسمُ دون توقُّف، الأمر الذي يمنعُ حدوثَ الانقسام غير المنضبط لِلخلايا، وتكوُّن الأورام السرطانيّة. 

أظهرت الدّراسات وجودَ علاقةٍ بين التيلوميراتِ القصيرةِ وبين السرطان وأمراضِ الرئتين والكبد والألزهايمر والقلب. يمكن التأثير على وتيرةِ قِصرِ التيلوميرات بواسطةِ تغييرِ نمطِ الحياة، علمًا أنَّ التيلوميرات تقصُر بشكلٍ طبيعيّ مع التقدُّمِ في السِّن. قد يزيدُ التّدخين والسُّمنةُ الزّائدةُ وسوءُ التغذيةِ والضغوطاتُ المزمنةُ والتّوتُّر من وتيرةِ قصرِ التيلوميرات، ومن ثمّ ظهور الأمراضِ المرتبطةِ بالجيل.


تقصُرُ التّيلوميرات على أطراف الكروموسومات مع كلّ انقسامٍ للخليّة، حتى تموت. عملية "هرم" الخليّة | Designua, Shutterstock
 

الإفراط في الخمر يُقَصِّرُ التيلوميرات

أجرى باحثون من بريطانيا دراسةً شاملةً، فحصوا من خلالها هل يُؤثّرُ استهلاكُ الخمرِ في عملياتِ الهرمِ الخلويّة. فحصَ الباحثون مُعطياتٍ تخصُّ أكثر من 245 ألف رجلٍ وامرأة، تتراوحُ أعمارُهم بين 40 و 69 عامًا. هذه المعطيات متوفّرةٌ في البايو بانك (Biobank) البريطاني، وهو عبارةٌ عن مُجمّعِ معلوماتٍ واسعِ النطاق يحوي مُعطياتٍ طبّيةٍ وجينيّةٍ مختلفة. قدّمَ المشتركون في الدّراسة، تزامنًا مع انضمامهم للبايو بانك، تقريرًا عن استهلاكِهم للخمر. أقرَّ 93 بالمئةِ منهم أنّهم يتناولون الخمر، وقالَ ثلاثةٌ بالمئةِ إنّهم لم يشربوا الخمرَ قطّ في حياتهم، وأربعةٌ بالمئةِ شربوا الخمرَ في الماضي، إلّا أنّهم توقفوا عن شربه ولم يعودوا إليه. قارنَ الباحثون مُعطياتِ استهلاكِ الخمر بمعطياتِ طولِ التيلوميرات، التي حدّدوها من خلالِ عيّنةِ دمٍ واحدةٍ أُخِذت من كل واحدٍ من المشتركين، عند انتسابه لِمُجمّع المعلومات. 

اتضحَ للباحثين، من خلال هذه المقارنةِ، أنّ التيلوميرات كانت قصيرةً بشكلٍ ملحوظٍ، لدى الأشخاصِ الذين شربوا أكثر من 29 وحدةِ كحولٍ في الأسبوع - وهي عبارةٌ عن حوالي 10 كؤوسٍ كبيرةٍ من الخمر (تحوي الكأسُ الواحدةُ 250 ميليلترًا من النبيذ، وتركيز الكحول فيها 12 بالمئة)، أو حوالي 17 زجاجةٍ من الجِعة (البيرة) (تحوي الزجاجةُ الواحدةُ 330 ميليلترًا وتركيز الكحول فيها 5 بالمئة)، بالمقارنةِ مع طولِ تيلوميراتِ، الأشخاص الذين اكتفَوْا بستِّ وحداتٍ من الخمر، أي حوالي كأسيْن كبيرتين من النّبيذ أو أقلّ في الأسبوع. كانت التيلوميرات لدى الأشخاصِ الذين لم يشربوا الخمرَ قطّ هي الأطول. لاحظَ الباحثون بوضوحٍ أنّ هذه العلاقة بين طول التيلوميرات وشربِ الخمر، لا تقتصرُ على استهلاكِ الخمر أو الامتناعِ عنه بحدّ ذاته، وإنّما هناك أهميّةٌ لِكميّة الخمرِ المُستهلَكة. وُجدت علاقةٌ واضحةٌ بين قِصرِ التيلوميرات واستهلاكِ الخمر، فقط عند الأشخاص الذين شربوا أكثر من 17 وحدة كحولٍ في الأسبوع (حوالي 6 كؤوس نبيذٍ كبيرة).

لا يمكن التأكيد بأنَّ العلاقةَ الواضحةَ بين قصرِِ التيلوميرات والإفراط في استهلاكِ الخمر هي علاقةٌ مباشرة، أي أنّه لا يمكن القولُ إنَّ استهلاكَ الخمرِ هو الذي أدّى مباشرةً إلى قِصرِ التيلوميرات. قد تكون هناك عواملُ أخرى تخُصُّ الأشخاصَ الذين يستهلكون كمّياتٍ كبيرةٍ من الخمر - مثلَ التّغذية والتوتُّر والتّدخين- تؤثّرُ في طولِ التيلوميرات، وهي التي أدّت إلى قصرِها. إنّ الطريقةَ الأمثل لِفحصِ تأثير استهلاكِ الخمر على التّيلوميراتِ، بما فيها عزل تأثيرِ العوامل الأخرى قدر الإمكان، هي إجراءُ دراسةٍ يتمُّ فيها توزيعُ الأشخاصِ عشوائيًّا، إلى مجموعاتٍ تستهلك كمّيّاتٍ مختلفةٍ من الخمرِ، أو تمتنع عن شرب الخمرِ كُلّيًّا، ومتابعةِ طول التيلوميرات لدى المشتركين. تتطلّبُ دراسةٌ كهذه زمنًا طويلًا للمُتابعة، ناهيك عن افتقارها للجانبِ الأخلاقيّ، ذلك ما دفعَ الباحثين إلى طريقةٍ تُحاكي هذه الظروف، بدلًا من تنفيذها كما هي. 

 

فحصَ الباحثون مُعطياتٍ جُمعت خلال دراسةٍ سابقة، تمَّ فيها تشخيصُ المؤشّراتِ الوراثيّةِ المرتبطةِ باستهلاكِ الخمر، أو بِالاضطراباتِ المصاحبةِ لشربِ الخمر، وذلك لزيادة فهم تأثير الخمر وحده. الـ DNA هو الذي يُملي هذه المُؤشِّرات: إنّها تنتقلُ بالوراثةِ ومن المتوقّع أنْ تتوزَّعَ فيما بين السُّكّان بصورةٍ عشوائيّة. لا تُؤثِّرُ العواملُ البيئيّةُ المحيطةُ ولا نمطُ الحياةِ في توزيعِ هذه المُؤشّرات بين الأشخاص الجاري فحصُهم، مثلما أنّها لا تؤثِّرُ في توزيعِهم العشوائيّ إلى مجموعات. لذلك، كان بمقدور الباحثين أن يَفحصوا فيما إذا كانت تيلوميرات الأشخاصِ الذين كانت لديهم مؤشّراتٌ وراثيّةٌ ذاتَ علاقةٍ بالاستهلاكِ الزّائدِ للكحولِ، وقد استهلكوا كمّيّاتٍ كبيرةٍ من الخمر، على ما يبدو، بسبب وجودها لديهم، هي أقصرُ مقارنةً بالمجموعةِ الضابطة. لا تؤثّرُ المُؤشِّرات الوراثيّة في طولِ التيلوميرات بشكلٍ مباشر، وإنما تؤثّرُ في استهلاكِ الخمر فقط. اكتشفَ الباحثون أنَّ التيلوميراتِ لدى الأشخاصِ ذوي المُؤشِّراتِ الوراثيّة هي أقصرُ فعلًا. إلّا أنّ التيلوميرات لدى الأشخاص الذين لم يشربوا الخمر، بالرغمِ من ميولهم الوراثيّة لوجود المُؤشّراتِ عندهم لم تكن أقصرَ منها لدى الأشخاصِ الآخرين الذين لم يشربوا الخمر. بناءً على ذلك، يمكنُ الافتراضُ أنّ قِصرَ التيلوميرات يؤثّر مباشرةً من كمّيّاتِ الخمرِ الكبيرة، مع أنّ هذا ليس دليلًا قاطعًا. 

تقول آنيا توبيوالة (Topiwala)، رائدةُ هذه الدّراسةِ من جامعة أكسفورد في إنجلترا، في نشرةِ لِلصحافة: "تدعمُ هذه النتائج فكرةَ أنَّ لِلخمر، خاصّةً الكمّيّاتِ المفرطة منه، تأثيرًا مباشرًا في طول التيلوميرات". وتتابع: "إنّ التيلوميرات القصيرةَ عواملُ خطرِِ من شأنها أن تؤدّي إلى عددٍ من الأمراض الصعبةِ المرتبطةِ بالجيل، مثلَ مرض الألزهايمر. لقد زوّدت نتائجُنا المُعالِجين والمُعالَجين، الذين يرغبون في تقليلِ الآثارِ الضّارّةِ لكمّيات الخمرِ الزائدة، شريحةً إضافيّةً من المعلومات. كمّيّةُ الخمر هامّة - حتّى تقليلُ شربِ الخمر من شأنه أن يعود بالفائدة". 

كيف يؤثّرُ الخمرُ في طولِ التيلوميرات؟ ليس ذلك واضحًا بعد. يُفترضُ أنّ شواردَ (أو جذورًا) حُرّةً - وهي جسيماتٌ قليلةُ الثبات تصيبُ الـ DNA وتُلحقُ الضّررَ بالخلايا - تتكوّنُ خلال عمليّةِ تفكيكِ الإيثانول (هو المُركّبُ الموجودُ في المشروبِ الخمري). تؤدّي هذه العمليّة إلى نشوء التهابٍ، من شأنه أن يزيدَ من تقصير التيلوميرات. ما زالَ من الصعب استخلاصُ استنتاجاتِ عمليّةٍ لا لبس فيها من هذه الدّراسةِ، على الرّغم من أنّها ضمّت عددًا كبيرًا من الأشخاص، وعلى الرغم من أنّ نتائجها كانت واضحة. لا يمكننا أن نجزمَ ماذا يحدثُ لِلتيلوميرات في أعقاب الاستهلاكِ الدّائمِ لِلخمر أو الاستهلاكِ المتقطّع له، أو استهلاكه المتواصل دون انقطاع أو لمدّةٍ قصيرة، وذلك لأنّ طولَ التيلوميرات عند كلِّ شخصٍ من المفحوصين حُسِبَ مرّةً واحدةً فقط، ولم يُحسب في عدّةِ نقاطٍ زمنيّةٍ. أضف إلى ذلك أنّه لم تُؤخذ العواملُ الأخرى التي من شأنها أن تُؤثِّرَ في طولِ التيلوميرات بالحسبانِ، ولم يتمّ بعدُ إثباتُ وجودِ علاقةٍ مباشرةٍ بين شربِ الخمرِ وقِصرِ التلوميرات. يبدو أنّ الحديثَ يدورُ عن عاملٍ تراكميٍّ له علاقةٌ مؤكّدةٌ بكمّيةِ الخمر المستهلكة، على الرغمِ من أنّ الدّراسةَ عرضت نتائجَ تدعمُ الفرضيّةَ بأنَّ استهلاكَ الخمر يعملُ على تقصير التيلوميرات.
تمّت الترجمة بتصرّف

 

0 تعليقات