جائزة نوبل في الكيمياء لسنة 2022م لكارولين بيرتوزي، ومورتن ميلدال، وباري شاربلس لابتكار في الكيمياء النقرية والكيمياء الحيوية المتعامدة

أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، اليوم الأربعاء، منح جائزة نوبل للكيمياء عن سنة 2022م لثلاثة باحثين، هم كارولين بيرتوزي، ومورتن ميلدال، وباري شاربلس، وذلك، تقديرًا على إسهامهم في تطوير الكيمياء النقرية، وفرع آخر من الكيمياء يدرس التفاعلات داخل الأنظمة الحية، دون حدوث تدخلات من خارج عملية التحول. وبهذا الإنجاز يكون عالم الكيمياء الأميركي، باري شاربلس (81 عامًا)، خامس شخص يتمكن من إحراز جائزتين اثنتين من نوبل. وبيّنت لجنة التحكيم أنها منحت العلماء الثلاثة الجائزة لابتكارهم في الكيمياء النقرية والكيمياء الحيوية المتعامدة.

وكانت الجائزة في السنة الماضية من نصيب بنيامين لست (List) من معهد ماكس بلانك في مولهايم، وديفيد ماكميلان (MacMillan) من جامعة برينستون، تقديرًا لهما على تطوير استخدام جزيئات صغيرة كمنشّطات لِلتفاعلات العضوية.

وفي السنة التي سبقتها فاز بِالجائزة عمانوئيل شربنطيا (Charpentier) من معهد ماكس بلانك (في برلين) لدراسة مُسبّبات الأمراض، وجنيفر داودنا (Doudna) من جامعة بيركلي تقديرًا لاكتشاف وتطوير منظومة التحرير الجينومي الدقيقة CRISPR. وفي سنة 2019م كانت الجائزة من نصيب جون بانيستر جوديناف (Goodenough) ومايكل ستانلي ويتنغهام (Wittingham) وأكيرا يوشينو (Yoshino) تقديرًا لِتطوير بطاريات الليثيوم-أيون.

 

بناء الجزيئات بسرعة وبسهولة 

تُعدُّ الكيمياء علمًا "قذِرًا"، ولا تقتصر "القذارة" على ما ينسكب من موادٍّ على الطاولة خلال إجراء التجارب. تعلّمَ الكيميائيّون خلال مائتَيْ السنين الأخيرة إنتاج جزيئاتٍ كثيرةٍ، طبيعيّة وغير طّبيعيّة، فَأُنتجت موادٌّ مفيدةٌ كثيرة، من الأدوية حتى الأصباغ. إلّا أنه كلّما استطالَ الجزيء وأصبح أكثر تعقيدًا، طالت عملية إنتاجه وازدادت مراحلها، وزادت المواد الجانبية المصاحبة لها، الأمر الذي استوجب تنقيةَ المُنتج المرغوب منها عن طريق إزالتها من الخليط. يستهلك ذلك الوقت والأموال وَيعيقُ كثيرًا تطويرَ منتجاتٍ جديدة ويُصَعّبُ الانتقالَ من إنتاج أعداد قليلةٍ من الجزيئات إلى إنتاج كمّياتٍ تجاريّةٍ من المُنتَج.

تُمنح جائزة نوبل في الكيمياء لهذا العام (2022) لِثلاثة من الباحثين أوجدوا طريقةً تختصرُ هذه العمليّات. طوّرَ هؤلاء الثّلاثة أساليب ناجعةً وسريعةً لِبناء جزيئاتٍ وربْطها ببعض، وتساعدُ في تطوير علاجٍ للأمراض وأدواتٍ للبحث البيولوجي. 


تبسيط الكيمياء. من اليمين إلى اليسار: شاربلس وَملدل وَبرتوتسي | الرسم التوضيحي: Niklas Elmehed © Nobel Prize Outreach

نشرَ باري شاربلس (Sharpless) وزملاؤه مقالًا سنة 2001م ادّعَوْا فيه أنْ حان الوقت لنوعٍ جديدٍ من الكيمياء. قالوا إننا بحاجةٍ إلى الكيمياء البسيطة والوظيفيّة، التي لا تُحاكي بالضرورة الطرقَ الطّبيعيّةَ التي تُبنى فيها الجزيئات، وإنما تصبو إلى إنتاج الجزيئات بأنجعَ ما يمكن من الوسائل. سمّى شاربلس هذه الكيمياء "الكيمياء بنقرةٍ واحدة". حازَ شاربلس بعد ذلك ببضعة أشهر على جائزة نوبل في الكيمياء للمرة الأولى مقابل عمله الأقدم هذا. إلّا أنّ هذه قصةٌ أخرى.

اعتمدت التفاعلات التي تضمنتها الكيمياء بنقرةٍ واحدةٍ بشكل رئيسي على ربط ذرات الكربون بذرّات أخرى، إذ أنّ ربْطَ ذرّات الكربون ببعضها أصعبُ كثيرًا. الفائدةُ الاليةُ لهذه التفاعلات عالية وهي، أي التفاعلات، سهلةُ التنفيذ وناجعةٌ من حيث اعتبارات الطّاقة. ينتجُ منها ناتجٌ واحد بِالمبنى المرغوب، بدلًا من النواتج الجانبيّة الكثيرة التي ترافق التفاعلات الأخرى، كما أنها تحدث داخلَ الماء أو في مذيباتٍ ليست خطيرة. ترتبط الجزيئات مع بعضها بسهولةٍ في هذه التفاعلات، مثلما يرتبط شريطان ببعضهما بواسطة مشبك.

كان هناك عددٌ محدودٌ من التّفاعلات التي لبّت جميع ما أراده شاربلس، وكتب عنها في مقالته أنها "عرّفت وأتاحت وقيّدت الكيمياء بنقرةٍ واحدةٍ في آنٍ واحد". إلّا أنه اكتشف بعد فترةٍ وجيزةٍ تفاعلًا آخرًا مشابهًا وناجعًا جدّا لدرجة أنه يُعرِّفُ بحدِّ ذاته هذا المجال اليوم. اكتشف الكيميائيّ الدّانماركي مورتن ملدَل (Meldal) هذا التفاعل في نفس الوقت وبمعزلٍ عن شاربلس. يرتبطُ، في هذا التفاعل، جزيء فيه مجموعةٌ أزيديّة، التي تحوي ذرات نيتروجين، مع جزيءٍ فيه مجموعةُ ألكاين، فيها ذرات كربون. ترتبط هاتان المجموعتان ببعضهما ب "نقرة" بوجود النّحاس وتكوّنان تريازول (Triazole). التريازولات هي موادٌّ كيميائيةٌ لها فائدةٌ كبيرة: أنها موادٌّ مستقرةٌ موجودةٌ في الأدوية وفي الموادِّ المستخدمةِ في الزّراعةِ والأصباغِ وغيرِها. 
يرتبط الأزيد بِالألكاين بنجاعةٍ كبيرةٍ بوجود أيونات النّحاس. الكيمياء بنقرة واحدة | الرّسم التّوضيحي: © Johan Jarnestad/The Royal Swedish Academy of Sciences 

 

وصفَ شاربلس هذا التّفاعل بأنه مثالٌ مثاليّ للكيمياء بنقرةٍ واحدة، إلّا أنه لم يتوقع إلى أيِّ مدى سوف يتم استخدامه في الخلايا الحيّة. يوصلنا هذا الأمر إلى كارولاين برتوتسي (Bertozzi).

التّفاعلات الكيميائيّة داخل الخليّة

اشتغلت برتوتسي خلال أبحاثها في جزيئاتٍ بيولوجيّةٍ قلّما لفتت الانتباه مقارنةً بـِ "النجوم" مثل البروتينات والأحماض النّوويّة، ألا وهي السّكريّات. انصبّ جُلُّ اهتمامها على الجليكانات (Glycans) وهي جزيئاتٌ تتكوّن من عِدةِ أنواعٍ من السُّكريّات وغالبًا ما تكون متصلةً بجزيء بروتيني أو جزيء دُهنيّ. تشترك الجليكانات في عمليّاتٍ بيولوجيّةٍ كثيرةٍ بما فيها ردود الفعل المناعيّة على الأمراض. 

أجرت برتوتسي أبحاثها على الجلكزة (Glycosylation) - وهي ارتباط مجموعة سُكّريّةٍ بمجموعةٍ سُكّريّةٍ أخرى أو بروتين أو جزيئٍ دهنيّ - التي تحدثُ على السطح الخارجي للخليّة. أرادت برتوتسي وسْمَ (وضع إشارة أو علامة) المجموعةِ السُّكّريةِ التي أجرت عليها البحث لكي تتمكن من مشاهدتها تحت المجهر وهي ما زالت ملتصقةً بالخلايا الحيّة، إلّا أنه لم تتوفّر لها الأدواتُ التي تتيح ذلك. بحثت في المراجع، من أجل هذا الغرض، عن تفاعلٍ يمكن بمساعدته إنتاجُ سُكّريّاتٍ موسومةٍ داخل الخليّة. على هذا التفاعل أن يتم بنجاعةٍ وألّا يعرقلَ التفاعلات الطبيعيّة التي تجري في الخليّة. بحثت برتوتسي عمّا يُسمّى باللغة المهنيّة "تفاعلات التّعامد الحيوي" (Bioorthogonal)، أي التفاعلات التي تحدث بمعزلٍ تامٍّ عن بيولوجيا الخليّة. أسّست برتوتسي بذلك مجال الكيمياء الحيويّة المتعامدة الذي يهتمُّ في دراسةِ العمليّاتِ البيوكيميائيّةِ في المنظومات الحيّة دون عرقلةِ العمليّاتِ المحليّة. 

أدركت برتوتسي أنه يمكنها أن تستعينَ بِتفاعل شاربلس ومِلدل إذ أنها كانت قد استخدمت مجموعة الأزيد من قَبْل. إلّا أنّ هذا التفاعل يتطلّب إضافةَ النّحاسِ الذي قد يُلحقُ الضّررَ بالخلايا - لا تتّصفُ الحالةُ بالتّعامد الحيوي. طوّرت برتوسي طريقةً تتيح حدوثَ تفاعلِ النّقرةِ الواحدةِ بدون الحاجةِ للنحاس أو أي فلزٍّ من الفلزات السّامةِ الأخرى وذلك بأن يتمّ الحصولُ على الألكاين اللازم لإغلاق النّقرة في إطارِ حلقةٍ مُقفلة. 

أصبح ، بذلك، وَسْمُ الجليكانات سهلًا نسبيًّا. استخدمت الخلايا جزيئاتِ السُّكر التي أضافتها برتوتسي مدموجةً بمجموعةٍ أزيديّة لأغراضها الخاصّة ودمَجتها مع الجليكانات الموجودة على سطحها الخارجي أيضًا. من السهل عند ذلك ربطُ جزيئاتٍ مختلفةٍ بهذه السُّكريّات بالإستعانة بالألكاين الحلقي. ربطت برتوتسي بهذه الطريقةِ، مثلًا، جزيئًا فلورسنتيًّا بالجليكانات الموجودة على السّطحِ الخارجي للخليّة، فاتاحَ لها ذلك متابعةَ السُّكّريات بواسطة المِجهر دون المسِّ بالخليّة.


وَسْمُ سُكّريّات الخليّةِ دون عرقلةِ العمليّات الطبيعية فيها. الكيمياء الحيويّة المتعامدة | الرّسم التوضيحي: © Johan Jarnestad/The Royal Swedish Academy of Sciences

أنيق ، ذكي ، جديد ومفيد

أفضَت أبحاث برتوتسي إلى اكتشاف نوع جديدٍ من الجزيئات، جزيئات RNA التي يمكنها المرور بِالجلكزة. أضف إلى ذلك أنها وزملاءها استخدموا الأساليب التي طوّرتها، من ضمن استخداماتٍ أخرى، في تطوير علاجاتٍ للسرطان. يستعينُ كثيرٌ من الباحثين بتفاعلاتِ كيمياءِ النّقرةِ الواحدة لِتطوير جزيئاتٍ كثيرةٍ مختلفةٍ تُستخدمُ في الأبحاث البيولوجيّة وفي تطوير الأدوية أيضًا. 

تحدّث شاربلس في خطابِه الذي ألقاه عندما حازَ على جائزة نوبل سنة 2001م عن قِيم الكويكرز التي استقاها في طفولته في بنسلفانيا - القِيم التي ركّزت على البساطة وفضّلت النّجاعةَ على حُللِ الزّينةِ الزّائدة. قالَ شاربلس: "كانت أفضّلُ المدائحِ التي نُعتَت بها التجارب الكيميائيّة في بداية الدّراسة: 'أنيقٌ' و 'ذكيّ'، كما أنّ 'جديد' هي كلمةُ مديحٍ مطلوبةٌ في أيامنا." وتابعَ قائلًا: "قد يكون الكويكرز هم المسئولون عن أنني فضّلتُ 'النجاعة' دائمًا أكثر من الآخرين." تُلبّي الطرقُ التي طوّرها الفائزون الثلاثة بجائزة نوبل في الكيمياء جميعَ هذه المطالبِ سويّةً: الأناقة والتجديد، وخاصّةً النجاعة.

 

أمريكيّان ودانمركيّ

وُلدَ كارل باري شاربلس في فيلادلفيا في الولاياتِ المُتّحدةِ الأمريكيّة سنة 1941م، وحصلَ على شهادةِ الدّكتوراة في الكيمياء العضويّة من جامعة ستانفورد سنة 1968م. فقدَ شاربلس النظر في إحدى عينيه جرّاءَ حادثةِ عمل وذلك بعد وقتٍ قصيرٍ من بدايةِ عملِه باحثًا في معهد ماساتشوستس التكنولوجي (MIT) سنة 1970م. يُشغِل شاربلس وظيفةَ أستاذٍ في معهد سكريبس (Scripps Research)، الذي يختصُّ بالأبحاثِ والتربية، منذ سنة 1990م. يشتركُ شاربلس أيضًا، بالإضافةِ لفوزِه مرتين بجائزة نوبل، في احتفالات جائزة إيج نوبل - جائزة نوبل للحماقة العلميّة، أو الأخ الصّغير والوقح والطّائش لِجوائز نوبل. وحازَ شاربلس أيضًا على جائزةِ بريستلي من الرّابطةِ الأمريكيّة لِلكيمياء وجائزةِ هارفي من التخنيون وجوائزَ أخرى.

وُلِدَ مارتن ملدل في كوبنهاجن في الدّانمارك سنة 1954م. حصلَ على شهادةِ الدّكتوراة في الهندسةِ الكيميائيّة من جامعة الدّانمارك التّقنيّة سنة 1981م. بدأ العملَ في جامعةِ كامبريدج في بريطانيا سنة 1985م وعُيّنَ أستاذًا في الجامعةِ سنة 1996م. أحبَّ ملدل الإختراع والإنتاج، حيث بنى الجهاز الذي احتاجه في المختبر بنفسه. كما أنّه فاز بجائزةِ الرّابطةِ الدّانماركيّةِ للكيمياء وبِجائزةِ كريستين ماير وجوائز أخرى. 

وُلدت كارولاين برتوتسي في بوسطن في الولاياتِ المتّحدةِ سنة 1955م. تعلّمت الكيمياء في جامعة هارفارد وحصلت على شهادةِ الدّكتوراة من جامعة بيركلي في كاليفورنيا سنة 1993م وقُبِلت باحثةً، ومختبرٍ خاصٍّ بها، في الجامعة سنة 1996م. انتقلت، مع مختبرِها، إلى جامعة ستانفورد سنة 2015م. حازت برتوتسي على العديدِ من الجوائز منها جائزة وولف في بدايةِ هذا العام. تفتخر برتوتسي، من ضمن الجوائز التي حصلت عليها، بالجوائز الكثيرة التي حصلت عليها في مجال التّعليم.

 
 

 

0 تعليقات