تشير دراسة جديدة إلى أنّ القرود تفضّل الاستمرار في بذل جهودها لبلوغ هدف الّذي استثمرت فيه بالماضي، بدلًا من اتّخاذ خيارات عقلانيّة أي الابتعاد عنه وتجنّب الخسائر النّاجمة - تمامًا مثل البشر.

قبل سنوات عديدة، عندما اعتدنا على مشاهدة الأفلام في السّينما، ذهبتُ مع صديقاتي لمشاهدة أحد الأفلام، وسرعان ما اتّضح لنا أنّ اختيارنا للفيلم لم يكن الأفضل. لم يكن سيّئًا جدًّا- لكنّه كان مملًّا، وازداد مللًا مع تطوّر أحداث الحبكة، ولم تستمتع أيّ منّا به. تحدّثنا خلال الاستراحة واحترنا: هل نترك الفيلم لنفعل شيئًا يعود علينا بالمتعة أكثر، أم نبقى فيه على أمل أن يكون النّصف الثّاني أفضل؟ 

لو كان عالم نفس مختصّ بمجال اتّخاذ القرارات حاضرًا معنا لكان من الممكن أن يخمّن ماذا كان قرارنا: بقينا في السّينما، والفيلم كان مملًّا في قسمه الثّاني أيضًا. تصرُّفنا هذا كان متوقّعًا، على الرّغم من أنّه ليس عقلانيًّا. أظهرت العديد من الدّراسات أنّه عندما نبذل الوقت، المال أو الموارد الأخرى لبلوغ هدف ما، ولم نبلغ النّتيجة المرجوّة، فإنّنا نميل إلى بذل المزيد من الموارد - المزيد من الوقت في المثال أعلاه- بدلاً من اتّخاذ قرار لتقليل الخسائر، التّخلّي عن الاستثمار وتجنّب القيام بنفس العمل.

يسمّى مثل هذا الاستثمار ب"التّكلفة الغارقة" (sunk cost)- أي التّكلفة الّتي تمّ صرفها ولا يمكن استعادتها، لذا فهي من ناحية عقلانيّة لا تؤثّر على قرار الاستمرار في صرف المزيد من الموارد أم لا. إلّا أنّ البشر لا يتصرّفون وفقًا لخوارزميّات عقلانيّة عندما يتعلّق الأمر باتّخاذ القرارات، كما أوضح دانيال كانمان وعاموس تفيرسكي. في معظم الأحيان، نولي "التّكلفة الغارقة" الّتي صُرفت اعتبارًا، وكلّما استثمرنا أكثر في عمل أو مشروع ما، يصعب علينا التّخلّي عنه. ولهذا السّبب، لا يواجه النّاس مشكلة في التّوقّف عن مشاهدة فيلم مملّ على ال Netflix، لأنهّم لم يبذلوا عليه طاقة أو موارد - فهم لم يشتروا تذكرة ولم يغادروا المنزل من أجل المشاهدة.

لا يقتصر أثر "التّكلفة الغارقة" فقط على فعاليّاتنا التّرفيهيّة، بل يمكن أن يكون لها تأثير على قرارات اقتصاديّة بقيمة ملايين الدّولارات. وأشهر مثال على ذلك هو طائرة الكونكورد، الطّائرة الّتي سرعتها تفوق سرعة الصّوت. كان واضحًا منذ البداية، حتّى قبل رحلتها التّجاريّة الأولى، أنّ تكاليف عمليّة التّطوير والصّيانة كانت مرتفعة جدًّا ولن يكون المشروع مربحًا، ومع ذلك واصلت فرنسا وبريطانيا باستثمار الأموال في تطوير الطّائرة لعدّة أسباب، ولكن يبدو أنّه تكمن وراء كلّ العقود القانونيّة فكرة واحدة بسيطة وغير عقلانيّة، وهي عدم التّخلّي عن المشروع بعد كلّ هذا الاستثمار.

מה עושים כשהסרט משעמם במיוחד: עוזבים או מקווים שישתפר? זוג משתעמם בקולנוע | צילום: antoniodiaz, Shutterstock
ماذا نفعل عندما يكون الفيلم مملًّا جدًّا: نتركه أو نبقى على أمل أن يتحسّن؟ زوجان في حالة ملل في السّينما | صورة:antoniodiaz, Shutterstock
 

المواظبة أم الاستسلام

رغم أنّه تمّت دراسة طريقة التّفكير هذه الّتي تولّي أهمّيّة "للتّكلفة الغارقة" في العديد من الأبحاث، من غير الواضح بعد ما هو الأساس النّفسيّ الّتي تعتمد عليه. هل نقوم بذلك لأنّنا التزمنا تجاه أشخاص حولنا بالاستثمار بالمشروع ولا نريد أن نبدو كمخالفين لالتزاماتنا، أو كمبذّرين لمواردنا بشكل غير مسؤول؟ أو ربّما نأمل في تجنّب الخسارة إذا واصلنا الاستثمار؟

إحدى طرق دراسة أساس هذا التّصرّف هو فحصه في الحيوانات الأخرى، الّتي تشاركنا بعض الآليّات النفسيّة. منطقيّ مثلًا ألّا تتخّذ القرود والفئران مثل هذه القرارات بناءً على التزام علنيّ بالاستثمار في المشروع.

في دراسة نُشرت مؤخّرًا، قام باحثون من الولايات المتّحدة بفحص تصرّفات القرود وكيف يتعاملون مع "التّكلفة الغارقة".  قاموا بتعليم قرود ال Rhesus macaque وقرود ال Capuchin بأداء مهمّة على الحاسوب: ملاحقة نقطة تتحرّك على الشّاشة بواسطة عصا تحكّم (Joystick). إذا تمكّنوا من تحريك المؤشّر بحيث يلحق النّقطة خلال ثانية واحدة، فإنّهم يحصلون على مكافأة. إذا فشلوا، ينتهي الاختبار فورًا، ويبدأ اختبار جديد مماثل. قد يبدو لنا أنّ مدّة الفحص القصيرة هذه غير منطقيّة، إلّا أنّه أوضحت سارة بروسنان (Brosnan)، الّتي قادت الدّراسة: "يختلف الأمر بالنّسبة للقرود، لأنّ زمن ردّ فعلها سريع في هذه الألعاب، لذا فإنّ ثانية واحدة هي في الواقع وقت طويل بالنّسبة لهم". 

بعد أن تعلّمت القرود كيفيّة إتمام المهمّة، بدأ الباحثون من حين لآخر في إجراء اختبارات أطول تستغرق خمس أو سبع ثوان. طُلب من القرود ملاحقة النّقطة، وإذا تمكّنوا من متابعتها طوال الاختبار، يحصلون على نفس المكافأة. في معظم الحالات، كان الاختبار التّالي لمدّة ثانية واحدة فقط. من ناحية عقلانيّة، يفضّل للقرود ترك الاختبار الأطول بمجرّد أن اتضّح لهم أنّه يستمرّ أكثر من ثانية واحدة، التّخلّي عن الجائزة والانتقال إلى الاختبار القصير التّالي. بهذه الطّريقة سيحصلون على جوائز أكثر لكلّ وحدة زمنيّة، حتّى لو تخلّوا عن الجائزة في الاختبار الطويل.

מתי עדיף לזנוח את המאמץ ומתי כדאי להמשיך? קוף קפוצ'ין מפצח אגוז בעזרת אבן בשמורת פרנאיבה בברזיל | צילום: BEN CRANKE / NATURE PICTURE LIBRARY / SCIENCE PHOTO LIBRARY

متى يفضّل الاستسلام ومتى يجب المواكبة؟ قرد Capuchin يكسر حبّة جوز بحجر، في محميّة بارنوفا في البرازيل | صورة: BEN CRANKE / NATURE PICTURE LIBRARY / SCIENCE PHOTO LIBRARY3:
 

تشابه تطوّريّ، تشابه في السّلوك 

لكن هذا ليس ما حدث. فقد استمرّت القرود في إتمام المهمّة، وبذلت المزيد من الوقت بدلًا من ترك المهمّة الطّويلة والانتقال مباشرة إلى التّالية. كانت قرود ال Rhesus حسّاسة بشكل خاصّ "للتّكلفة الغارقة"، في حين أنّ قرود ال Capuchin  كانت في كثير من الأحيان قادرة على التّغلّب على هذه النّزعة والانتقال للاختبار التّالي - لكنّهم أيضًا بذلوا أكثر وقت من المفروض، لو تعاملوا مع الأمر بعقلانيّة. أفادت بروسنان: "بذلت القرود خمس إلى سبع أضعاف أكثر وقت، من الوقت الأمثل، وكلّما زاد الوقت المبذول، زاد احتمال الاستمرار بالمهمّة". هذا السّلوك يميّز ظاهرة الخضوع "للتّكلفة الغارقة"، كلّما استثمرنا موارد أكثر، من المرجّح أن نواصل الاستثمار.

أظهرت دراسات سابقة ظاهرة خضوع بعض الحيوانات "للتّكلفة الغارقة"، ولكن هذه أوّل دراسة تُجرى على القرود. نظرًا لأنّ هذه الحيوانات قريبة جدًّا من الإنسان من ناحية تطوّريّة، هناك احتمال كبير أن تشبهنا من حيث الآليّات الدّماغيّة والنّفسيّة المسؤولة عن ميولنا لهذا الخضوع، الأمر الّذي يصعب استنتاجه من تجارب على الفئران والجرذان. تلخّص جوليا واتزيك (Watzek)، شريكة بروسنان في البحث وتقول: "دراسة هذه الظّاهرة في القرود علمّتنا عن طريقة عمل أدمغتهم وكذلك عن أدمغتنا".

تشير نتائج الدّراسة إلى أنّ ميولنا لمواصلة الاستثمار لبلوغ هدف ما فقط لأنّنا استثمرنا فيه سابقًا هي ظاهرة متجذّرة في ماضينا التّطوريّ. يبدو أنّها دُفنت عميقًا في دماغ الإنسان، وفي أدمغة القرود أيضًا، وهي ليست عادة مكتسبة تتعلّق بالحضارة.

0 تعليقات