كيف لمشروبٍ واحدٍ أو أكثر من الخمر أن يؤثر على نشاط ومبنى الدّماغ؟
يَعتبر القانون الإسرائيليّ الشخص بالغًا عندما يصبح عمره ثمانية عشر عامًا. يقترن هذا الجيل بالواجبات والحقوق، من حقوق البالغين ابتياع وتعاطي الخمر كيفما يشاؤون. ما هو تأثير الخمر أو الكحول سواء كان مصدره الجِعة أو النبيذ أو الويسكي علينا؟
تستوعب المعدة الخمر الّذي نشربه ثمّ ينتقل منها إلى الدورة الدمويّة، ويقوم الكبد بتحليله. لذلك، قد يؤدّي تناول الخمر المتزايد إلى إلحاق الضرر بالكبد بشكل بطيء قد يستغرق عدّة سنوات. توجد للخمر تأثيرات فوريّة: لا يستطيع الكبد تحليل كلّ كميّة الخمر الّتي يشربها شخص ما في ليلة ماجنة بالسرعة المطلوبة فتصل كميّات كبيرة منه إلى أنسجة وأعضاء الجسم وتؤثّر على أدائه بطرق شتّى وعلى الإدراك والوعي بشكل خاصّ.
يُقاس ما يحتويه الجسم من الخمر بوحدات BAC (اختصار الكلمات Blood Alcohol Content = محتوى الدّم من الخمر) وهي تُحدّد النسبة المئويّة للغَول في الدّم، أي كم غرامًا من الخمر موجود في 100 مليلتر من الدّم. يوجد لكلّ مستوى من نسب الكحول في الدّم أعراض خاصّة: نكون ثملين قليلًا ومبتهجين في مستوى 0.03 - 0.12 BAC، وتتضرّر قدراتنا الحركيّة والمحافظة على التوازن وقد نُصاب بفقدان الحواسّ والذاكرة عند مستوى 0.18 - 0.3 BAC. تظهر علينا عند هذا المستوى من كحول في الدّم أعراض التسمّم الكحولي وإذا زاد شرب الخمر ووصل مستواه في الدّم إلى نسبة 0.45 BAC فقد يكون ذلك قاتلًا. تجدون هنا مِحسابًا لحساب مستوى الكحول في الدّم بوحدات BAC حسب حجم المشروب ونوعه ووزن الجسم والزمن الّذي مرّ من لحظة الشرب.
يُقاس ما يحتويه الجسم من الخمر بوحدات BAC وهي تُمثّل نسبة الكحول في الدّم. قياس محتوى الجسم من الخمر عن طريق الزفير | Shutterstock, papa1266
"عندما يصعد الغَول إلى الرأس"
تنجم غالبيّة تأثير الخمر المرغوب أكثر والمرغوب أقلّ عن تأثيره على الدّماغ، إذ أنّ مصدر الشعور بالغبطة الّذي يرافق شرب الخمر هو تعاظم إفراز النّاقل العصبيّ، الدّوبامين. ويؤثّر الخمر على الناقل العصبيّ GABA، الّذي يكبت نقل المعلومات ما بين الخلايا العصبيّة في الدّماغ. يحاكي الكحول نشاط الـ GABA في الدّماغ ويؤدّي بذلك إلى تقليل القلق والخوف. لكن، قد يكون لذلك أثر عكسيّ على المستوى البعيد: إذ يؤدّي إلى فقدان الحساسيّة وإحباط قدرة مُستقبِلات الـ GABA على الشعور بالناقل العصبيّ والردّ عليه. من هنا فإنّه في حالة تناول الخمر بشكل متواصل يصبح الدماغ في وضع دائم من الحساسيّة واليقظة المُفرطة.
تتضرّر، على المدى القريب، قدراتنا الحركيّة بسبب تأثير الخمر على الجزء المُسمَّى بالمُخَيخ أو المُخّ الصغير (Cerebellum) من هيكل الدّماغ، كما تتضرّر قدرتنا على اتّخاذ القرارات بسبب تأثير الخمر على قشرة الدّماغ الجبهيّة (قشرة الفصّ الجبهيّ) الّتي تلعب دورًا مهمًّا في نشاطنا الذهنيّ. ينجم فقدان الذاكرة، في حالة فقدان الحواسّ، عن تأثير الخمر على نشاط قرن آمون (الهيبوكامبوس) - وهو جزء من الدّماغ يساهم في بلورة الذكريات المتجدّدة. وأخيرًا، يؤدّي الخمر إلى الحاجة للذهاب إلى الحمّام (المِرحاض) بشكل متواتر وهذا أيضًا بسبب اختلال التوازن في الدّماغ. يصل هرمون ADH، الّذي تفرزه الغدّة النخاميّة، إلى الكِلى عن طريق الدورة الدّمويّة ويكون مسؤولًا هناك عن تقليص حجم البول. يؤدّي شرب الخمر إلى إبطاء إفراز ADH فينخفض مستواه في الدّم ويزداد حجم البول.
تتضرّر قدراتنا الحركيّة بسبب تأثير الكحول على المُخَيخ. دُمية خشبيّة لشخص مُلقاة على كأس من الويسكي. | Shutterstock, shutter_tonko
بعض تأثيرات الخمر هي مؤقّتة وعابرة إلّا أنّ تناوله بشكل دائم ومتواصل قد يجلب معه تغيّرات دائمة ويؤثّر على هيكل ونشاط الدّماغ على المدى البعيد حتّى وإن تمّ تناوله بشكل معتدل.
شرب كميّة كبيرة من الخمر خلال فترة قصيرة يُسمَّى "الشرب بِنَهَم" (Binge Drinking) وتتمثّل هذه الحالة بشرب خمسة مشروبات أو أكثر في يوم واحد. لقد تبيّن أنّ تقلّص أجزاء من الدّماغ له علاقة بالتناول المفرط الخمر لمدّة متواصلة. ينجم هذا التقلّص بشكل خاصّ عن تقلّص النسيج المُسمَّى "المادّة البيضاء" المُكوَّنة في غالبيتها من الامتدادات الّتي تربط بين الخلايا العصبيّة في الدّماغ. تُسمَّى هذه الامتدادات بالأكسونات وهي مكسوّة بمادّة الميالين بيضاء اللون. هل يعود هذا النسيج المهمّ ويتعافى بعد مرور زمن من الانقطاع عن شرب الغول؟ هذا محتمل، إلّا أنّ الأدلّة والشهادات على ذلك ليست قاطعة. أضف إلى ذلك أنّ التناول المفرط للغَول يؤدّي إلى انخفاض حجم السائل الرماديّ في الدّماغ والّذي يحتوي على أجسام الخلايا العصبيّة بحدّ ذاتها. قد يؤدّي هذا الانخفاض في حجم السائل الرماديّ إلى ضرر ذهنيّ، أي ضرر في النشاط العقليّ. كما قد يعاني من يفرط في تناول الخمر والكحوليا من متلازمة فيرونيكا - كورساكوف المَنوطة باضطراب الذاكرة. تنجم هذه المتلازمة عن نقص في الثيامين (فيتامين B1) وذلك بسبب الضّرر الّذي يُلحقه الخمر بالخلايا الّتي تُغطّي الجهاز الهضميّ والّتي بمقدورها استيعاب الفيتامينات ونقلها إلى الدورة الدّمويّة.
ينطوي شرب الخمر أثناء الحَمل على مخاطر كبيرة على الجنين، قد يؤدّي شرب كميّات معتدلة من الخمر إلى ضرر دماغيّ للجنين. يَعْبر الخمر الموجود في دورة الأم الدّمويّة المشيمة ويصل إلى دم الجنين في الرحم. لا يستطيع كبد الجنين الّذي لم يكتمل تطوّره بعْد تحليل الخمر كما يفعل كبد الإنسان البالغ ويؤدّي ذلك إلى معاناة الطفل في مرحلة نموّه من اضطرابات تلازمه في حياته. تزداد المخاطر مع ازدياد كميّة الخمر الّذي تشربه الأم ويوصَى، مع ذلك، بعدم تناول الخمر بتاتًا أثناء فترة الحمل.
ينطوي استهلاك الكحول المفرط لفترة طويلة على تقلّص أجزاء من الدّماغ. يعرض الرسم الخمر المصبوب داخل دماغ الإنسان | Shutterstock, TrifonenkoIvan
الشرب في سنّ المراهقة
اعتمادًا على الدلائل الّتي توثّق تأثير الخمر على هيكل الدماغ، من المنطق الاعتقاد بأنّ استهلاك الخمر المفرط في سنّ الصِّبا أكثر خطورة من استهلاكه في سنّ البلوغ، ذلك لأنّ الدماغ لا يزال في مرحلة التصميم ويمرّ بتغيّرات كبيرة أثناء جيل المراهقة. يجري تعديل الروابط بين الخلايا العصبيّة بدقّة متناهية إذ تبقى وتقوى الروابط المهمّة فقط. أظهرت الدراسات العديدة الّتي تمّت فيها متابعة تطوّر دماغ الفتيان والفتيات أنّ الاستهلاك المُفرط للغَول يضرّ بتصميم الدّماغ وأنّ أدمغة الفتيان الّذين تناولوا كميّات كبيرة من الخمر تختلف بشكل كبير عن أدمغة غيرهم من الفتيان.
لاحظ الباحثون، على سبيل المثال، وجود علاقة بين تناول الخمر وبين التطوّر غير السليم للمادّة البيضاء وانخفاض حجم المادّة الرماديّة في عدّة أجزاء مهمّة من قشرة الدّماغ وفي الهيبوكامبوس. تبيّن في إحدى الدراسات أنّ حجم مُخَيخ (التسيير بلوم) الفتيان الّذين تناولوا كميّات مُفرطة من الخمر أصغر منه لدى الفتيان الآخرين. كما أظهرت بعض الدراسات انخفاض حجم الـكوربوس كولوسيوم - هيكل مهمّ يربط بين فصّي الدّماغ ويتيح تنسيق نشاطهما.
يبدو أنّ الخمر يؤثّر على طريقة عمل الدّماغ بالإضافة للتأثير على هيكله. اختلف نشاط دماغ الفتيان مستهلكي الكحوليات عن نشاط الفتيان الآخرين عندما قام هؤلاء بمهمّة تطلّبت منهم تشغيل الذاكرة، ذلك ما تبيّن من الدّراسات الّتي تمّ فيها فحص نشاط الدّماغ لدى الفتيان والفتيات بواسطة مسح fMRI. لم يُرصَد، بالرغم من ذلك، فرق ملحوظ بين مستوى تنفيذ المهام لدى المجموعتين من الفتيان.
أظهرت الدراسات الّتي تمّت فيها متابعة تطوّر الدّماغ لدى الفتيان والفتيات أنّ تعاطي الكحول بشكل مُفرط يلحق الضرر في تصميم الدّماغ. في الصورة، فتيان يشربون الجِعة. | Shuttetrstock, Motortion Films
ليلة من الشرب
هل يقتصر الضرر بعيد المدى الناجم عن الكحول على استهلاكه بكميّات كبيرة لفترة طويلة؟ تصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال دون القيام بتجربة مناسبة، إلّا أنّ إجراء مثل هذه التجربة ينطوي على صعوبات ومشاكل أخلاقيّة. بالرغم من ذلك، في دراسة نُشِرت مؤخّرًا، نجح فريق من الباحثين بتوفير الظروف الّتي أتاحت المجال لفحص هذه المسألة دون الحاجة لإجراء مثل هذه التجربة. تمّ في هذه الدراسة الّتي أُجريت في الولايات المتّحدة الأمريكيّة فحص الدّماغ لدى أشخاص معيّنين قبل وبعد بلوغهم سنّ الحادية والعشرين. يُسمَح في الولايات المتّحدة ابتياع وتناول الخمر عند بلوغ الشخص سنّ الحادية والعشرين، وعليه فقد اعتاد الشباب الّذين يبلغون هذا الجيل القيام بحفلات كبيرة احتفاءً بهذه المناسبة المرجوّة. يشرب المحتفلون في هذه المناسبة عادةً كميّات كبيرة من الخمر قد تفوق في كثير من الحالات حدّ الشرب بنَهَم (Binge Drinking) ويصل مستوى الكحول في الدّم إلى نسبة BAC عالية وخطيرة. استغلّ الباحثون هذا الحدَث وفحصوا تأثير شرب كميّات كبيرة من الخمر موضعيًّا وفي الحدَث المُحدَّد على هيكل الدّماغ، ولم تكن النتائج الّتي نشرها الباحثون مشجّعة. وُجدَ انخفاض في حجم الكورفوس كولوسيوم وكان هناك توافق إيجابيّ ما بين حجم هذا الانخفاض وبين كميّة المشروب، أي أنّ الانخفاض في حجم الكوربوس كولوسيوم ازداد مع ازدياد كميّة الخمر الّذي شربه هؤلاء الشباب. تمّ فحص المشاركين في هذه الدراسة ثانيةً بعد مرور خمسة أسابيع ولم يظهر لديهم تحسّن في حجم الكورفوس كولوسيوم خلال هذه الفترة. بالرغم من أنّ هذه الدراسة كانت صغيرة المقاسات إذ شملت خمسين مشاركًا فقط، فإنّها تشير بوضوح إلى الاحتمال أنّ الشرب بنَهَم (شرب البِنج)، وإن كان لمرّة واحدة فقط، له تأثير حقيقيّ وفعليّ على الدّماغ.
تشير الدراسة إلى احتمال التأثير الفعليّ للشرب بنَهَم (شرب البنج)، وإن كان لمرّة واحدة فقط، على الدّماغ. في الصورة شباب يشربون الجِعة خلال احتفالهم. | Shutterstock, djile
صحّتك في الدنيا
يُعتبَر الغًول من السموم الشعبيّة وتعاطيه مقبول من الناحية الاجتماعيّة، لكنّ تناوله بشكل مفرط يشكِّل خطرًا على من يشربه وعلى من حوله أيضًا. إضافةً للتأثير الخطير الّذي تمّ توثيقه في الدراسات المختلفة على نشاط الدّماغ وهيكله، يوجد لشرب الخمر تأثير كبير على السلوك وقد تترتّب عنه تصرّفات خطيرة في حالات كثيرة. أبرز مثال على ذلك هو ازدياد خطر وقوع حوادث الطرق عند قيادة المركبات في حالة الثَّمَل. ويشكّل الإدمان على الغول خطرًا كبيرًا وقد يكون الفطام عنه في الحالات المتطرّفة صعبًا للغاية و تترتّب عليه عواقب جسديّة ونفسيّة وخيمة. ويتّضح لنا الآن أنّ التناول المفرط للغَول، حتّى وإن كان لمرّة واحدة، له عواقب خطيرة على هيكل الدّماغ، وعليه يجب أن نكون على علم بها، وأن نشرب الخمر باعتدال ومسؤوليّة.