دراسة جديدة تتوصّل إلى طريقة لِفَصل "المواد الكيميائيّة الأبديّة"، وهي مواد كيميائيّة مستقرّة للغاية كانت تُعتبر حتّى الآن غيرَ قابلةٍ للفصل، ما قد يساعد في التّخلّص منها في البيئة

اتّضح لأكثر من مرّة أنّ المواد الصناعيّة، مهما كانت مفيدة، فإنّها قد تضرّ بالبيئة وبصحّتنا. هذا الوصف ملائم بشكل خاصّ لمجموعة المواد الكيميائيّة المعروفة بالاختصار PFAS (مواد البيرفلوروالكيل والبولي فلورو ألكيل)، التي اكتسحت العالم عندما اكتُشِف أنّها تحول دون التصاق الطّبيخ بأواني القلي والطهي. العديد من أفراد هذه العائلة الكيميائيّة مستقرٌّ للغاية، لذا فهي تبقى في البيئة وحتّى في جسم الإنسان لفترة طويلة دون أن تنفصل، ويُطلق عليها بفضل هذه الميزة "المواد الكيميائيّة الأبديّة". في العقود الماضية، بحث العديد من العلماء عن طرقٍ لِفَصل المواد الكيميائيّة الأبديّة وحقّقوا نجاحًا جزئيًّا فقط، لكن بحثًا جديدًا يكشف عن عمليّة بسيطة ورخيصة يمكنها فَصل المواد الكيميائيّة الضّارّة، وقد تفتح أفقًا جديدًا لعلاجها. 

أُنتجَت أوّل جزيئات PFAS في ثلاثينيّات القرن الماضي، وكانت المواد المنتجة منها مقاوِمة لدرجات الحرارة المرتفعة، كما تمكّنت من مقاومة الماء والدهون بشكل فعّال. وسرعان ما بدأ استخدامها لحماية الأقمشة، وكإضافة فعّالة بشكل خاصّ لِمواد إطفاء الحرائق. في المقابل، غيّرت شركة دوبونت صناعة المقالي وأواني الطّبخ كلّيًّا، عندما بدأت في طلائها بجزيء يدعى متعدّد رباعيّ فلورو الإيثيلين، الذي منع (تقريبًا) أي مادّة محتملة من الالتصاق بها أثناء الطَّهي. ازداد استخدام المواد الجديدة بشكل مستمرّ، وهي تُستخدم اليوم في آلاف المنتجات، بدءًا من منتجات التّنظيف وانتهاءً بِمستحضرات التّجميل. 

מחבת מצופה טפלון | preecha2531, Shutterstock
تُستخدم جزيئات PFAS في آلاف المنتجات، بدءًا بمنتجات التّنظيف، ومرورًا بمواد إطفاء الحريق وانتهاءً بِمستحضرات التّجميل. مقلاة مطليّة بمتعدد رباعي فلورو الإيثيلين | preecha2531, Shutterstock

الاستقرار هو سيف ذو حدّين

تُعتبر جزيئات PFAS مستقرّة بشكل خاصّ بفضل تركيبتها الكيميائيّة، ما يمنحها القدرة على مقاومة الدّهون والماء. تتكوّن من سلسلة طويلة من ذرّات الكربون، كلّ منها مرتبط بذرّتين أو ثلاث ذرّات فلور، وهذه الجزيئات مقاوِمة للماء والمواد الهيدروكربونيّة (دهون). في المقابل، يعطي الرّابط القويّ بينها وبين ذرّات الكربون للجزيء استقرارًا وقوّة تَحَمُّل لفترة زمنيّة طويلة وفي درجات حرارة مرتفعة.

على مرّ السنين، ازدادت العديد من الأدلّة حول الأضرار الصّحّيّة والبيئيّة التي تسبّبها المواد الكيميائيّة الأبديّة، وتحوّلت مكانتها من "المواد المُبهرة" المثيرة لـ "أعداء الجمهور" الخطيرة. عند التّفكير في العواقب البيئيّة لهذه المواد، فإنّ استقرارها لم يعد ميزةً بل نقصًا، حيث تتراكم عشرات الآلاف من الأطنان منها حولنا كلّ عام، ولا تتفكّك بشكل طبيعيّ. للأسف، فإنّ المواد الكيميائيّة الأبديّة موجودة اليوم في كلّ مكان تقريبًا. على سبيل المثال، عُثِرَ على كمّيّات مقلقة منها في مياه الأمطار في جميع أنحاء أوروبا. 

منذ سنوات التّسعين، بدأت المحاكم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة بالبتّ في العديد من الدّعاوى القضائيّة، ضد الشركات التّجاريّة التي تنتج وتستخدم الكيميائيّات الأبديّة، بحجّة أنّ المواد الكيميائيّة تسبّبت في تشوّهات وأمراض خطيرة لسكّان المناطق الملوّثة. وفقًا للمستندات الدّاخليّة التي كُشِف عنها كجزء من الإجراءات القانونيّة، استمرّت شركة دوبونت في استخدام هذه المواد، على الرّغم من عِلمها بالأضرار الصّحّيّة المترتّبة عنها. بل دفعت في العقود الأخيرة مبالغ ضخمة (حوالي مليار دولار بالمجمل) لِعائلات الضّحايا في اتّفاقيّات التّسوية، لكنّها رفضت الاعتراف بالذّنب.

حتّى الآن، عندما تُبذل الجهود لتقليل الضّرر وتنظيف المناطق الملوّثة، ما زال مُبهمًا ما يجب فعله بالنّفايات، إذ لا توجد طريقة فعّالة للتخلّص منها وتفكيكها. ركّز مؤخّرًا فيلمان حديثان، أحدهما وثائقي والآخر روائي، على الأشخاص الذين تضرّرت صحّتهم وحياتهم إثر هذه القضيّة المؤلمة.

דימתיל סולפוקסיד ונתרן הידרוקסידי | Liga Cerina, Shutterstock
العلاج بالمذيب والقاعديّ المنتشر والرخيص في درجة حرارة 120 يجعل من الممكن فَصل بعض المواد الكيميائيّة الأبديّة. ثنائي ميثيل سلفوكسيد الصوديوم وهيدروكسيد الصوديوم | Liga Cerina, Shutterstock
 

زعزعة الجزيئات

في الدّراسة الجديدة، أظهر الباحثون أنّه بمساعدة مزيج من مُذيب (ثنائي ميثيل سلفوكسيد، DMSO) وقاعدة (هيدروكسيد الصوديوم، NaOH) الشائعة والرخيصة، من الممكن فَصل بعض المواد الكيميائيّة الأبديّة بعد بضع ساعات عند درجة حرارة منخفضة نسبيًّا تبلغ 120 درجة مئويّة. فيما ستستغرِق مواد أخرى من نفس العائلة بضعة أيّام، لتتفكّك تمامًا في نفس الظروف. تشير نتائج البحث، المدعومة بالحسابات النظريّة، إلى آليّة فَصل لم يتم التّعرّف عليها من قبل. 

تحوي المواد الكيميائيّة الأبديّة المستخدمة في الدّراسة ذرّاتِ أوكسجين في أطراف الجزيء. أظهر الباحثون أنّ DMSO يضعف كما يبدو الاستقرار الذي بينها وبين ذرّات الكربون، ما يزعزع استقرار الجزيء بأكمله. حتّى الرّوابط القويّة بين ذرّات الكربون وذرّات الفلور تضعف قليلًا، ويبدأ الجزيء بالتّفكّك. يشكّل هيدروكسيد الصوديوم روابط مع بقايا الجزيء، ويسرّع تفكّكها بشكل كامل. إنّ اكتشاف آليّة الفصل الجديدة أمر مشجّع، وقد يحفّز المزيد من الدّراسات التي ستستخدم نفس المبادئ، لفصل الجزيئات الأخرى من نفس العائلة. 

لا يُعتبر هذا حلًّا سحريًّا لمشكلة المواد الكيميائيّة الأبديّة، ووفقًا للتّقديرات الأخيرة، فإنّ هنالك عشرات الآلاف من الأطنان تجد طريقها إلى البيئة والغلاف الجوّيّ كلّ عامٍ. كما يبدو، فإنّ الحلّ الحقيقيّ يتطلّب تنظيم المناطق الملوّثة وتنظيفها، وليس فقط آليّات فَصل حديثة. لكن القدرة على فصل هذه الجزيئات وتفكيكها تبعث أملًا حقيقيًّا في تغيير الوضع الرّاهن، لذا فإنّ طريقة الفصل الجديدة تُعتبر على الأقلّ اكتشافًا مُشجّعًا.

 

0 تعليقات