كائن وحيد الخلية عاش في المياه الكبريتيّة الساخنة وكان حسّاسًا للأكسجين: بواسطة أدوات بحثيّة وراثيّة متطوّرة رسم العلماء صورة للكائن الحيّ الّذي تطوّرت من خلاله جميع أشكال الحياة على الأرض
معظم النّاس يعرفون سلالة نسب عائلاتهم وصولًا إلى بضع أجيال ماضية. هواة علم الأنساب الأكثر تفانيًا قادرون على رسم شجرة عائلاتهم الممتدّة على طول مئات من الأعوام. لكن من يملك القدرة على تتبّع تاريخ العائلة لمدة آلاف أو ملايين الأجيال؟ على ما يبدو، فإنّه فقط العلم. بحث جديد يحاول تجسيد هيئة كائن يبلغ من العمر4 مليار عام، الّذي كان الأصل لجميع أشكال الحياة على الكرة الأرضيّة. وفق الدّراسة، سلفنا المشترك كان بمثابة كائن شبيه للبكتيريا، الّذي "كره" الأكسجين، "أحبَّ" الحرارة وعاش في منافس حراريّة في أعماق البحر.
في المنتصف الثّاني من القرن ال-20 اكتُشفت بنية "الحمض النّوويّ الرّيبوزيّ منقوص الأكسجين" DNA، على أثر ذلك نجح الباحثون بفكّ الشّيفرة الوراثيّة - وهي الفقرة الرّابطة الّتي تتيح للخلايا الإمكانيّة بإنتاج بروتينات وفق المعلومات المحفوظة في الحمض النّوويّ DNA. قام الباحثون بفحص العديد والعديد من الحيوانات، النّباتات، الفطريات والبكتيريا، واكتشفوا بأنّ لديهم جميعًا حمض نوويّ DNA محفوظ فيه تعليمات لإنتاج البروتينات. حتّى أنّهم وجدوا جينات متشابهة في كائنات مختلفة جدًّا عن بعضها البعض. البروتينات النّاتجة عن هذه الجينات أدَّت وظائف متشابهة، الاستنتاج كان واضحًا للغاية - كلّ الكائنات الحيَّة القائمة اليوم، من أصغر بكتيريا وحتّى أشجار السّكّويا العملاقة تتقاسم أصلًا مشتركًا، وفي الواقع هم أقارب. إذا عدنا بعيدًا وبشكل كافٍ إلى الوراء، نستطيع إيجاد الكائن أحاديّ الخليّة الّذي تطوّرت منه جميع الحيوانات، النّباتات والكائنات الحيّة الأخرى. أُطلق على هذا الكائن اسم "لوكا" LUCA، وهو بالإنجليزيّة علامة اختصار ل: "السّلف العالميّ المشترك الأخير".
لكن كيف نستطيع معرفة من كان هذا "لوكا" وما هي خصائصه؟ مادلين وايز (Weiss) وباحثون آخرون من جامعة "هاينرش هاينه" في ألمانيا بحثوا عن جينات موجودة بمجموعتين من الكائنات أحاديّة الخليّة - البكتيريا والعتائق - حيث تمّ بمساعدتهم إعادة بناء الجينات الّتي على الأرجح وجِدت في الشّريط الوراثيّ (جينوم) الخاصّ ب"لوكا". تمثِّل هاتان المجموعتان أوَّل انقسام كبير في عالم الأحياء، وكلّ الكائنات هم بمثابة نسل البكتيريا أو العتائق القديمة. لذلك من المحتمل أنَّ الجينات المشتركة للمجموعتين تواجدت أيضًا لدى سلفهم المشترك.
وجد الباحثون بضع ملايين من هذه الجينات، جُمِّعوا ووُزِّعوا لأكثر من 280 ألف عائلة من الجينات المتشابهة نسبيًّا. استعانةً بطرق وأساليب إحصائيّة ومقارنات مع أنواع أخرى من البكتيريا والعتائق، أُزيلت من القوائم جينات تكوّنت على ما يبدو بعد الانفصال بين البكتيريا والعتائق وانتقلت بين المجموعات: كائنات وحيدة الخليّة، حتّى المختلفة والبعيدة جدًّا، تنقل أحيانًا مواد وراثيّة إلى بعضها البعض، ممّا يفسّر وجود جينات متشابهة أيضًا في العتائق والبكتيريا على الرّغم من إمكانيّة تطوّرها في إحدى المجموعات الّتي ظهرت قبل ظهور "لوكا" بعشرات ملايين السّنين. بعد تصفية المعطيات، بقى لدى الباحثين 355 جينًا مؤكّدًا وجودهم عند السّلف المشترك.
عائدون إلى المنافس المائيّة
هذه الجينات تُقدِّم لنا لمحة عن حياة ذلك السّلف وحيد-الخليّة، قبل حوالي 4 مليار عام. كان "لوكا" كائنًا لاهوائيًّا - لم يحتج إلى الأكسجين، وفي الواقع لم يستطع البقاء بغلاف جويّ يحتوي على الأكسجين، كالغلاف الجويّ للكرة الأرضيّة في أيّامنا. خلال مئات ملايين السّنين الأولى من وجود الكرة الأرضيّة، لم يتواجد أيّ أكسجين في الماء والهواء. عاش "لوكا" في بيئة غنيّة بالهيدروجين، ثاني أكسيد الكربون، بالمعادن والكبريت وهو كائن محبّ للحرارة. لذلك يمكن التّحديد بشكل مؤكّد أنه عاش داخل منافس حراريّة في أعماق المياه، حيث تتوفّر هناك كلّ هذه الشّروط.
استعانةً بالمقارنات بين جينات من كائنات مختلفة تعيش في أيّامنا، نجح الباحثون بإعادة بناء بيئة حياتيّة تشبه البيئة الّتي عاش فيها الكائن الّذي تواجد قبل 4 مليار عام، والّذي نحن جميعًا بمثابة نسل له. ولا ينبغي الاستنتاج من ذلك أنّ الحياة ذاتها بدأت بالضّرورة من منفس حراريّ - حيث من الممكن أنّه بين الخليّة الحيّة الأولى وبين السّلف العالميّ المشترك فصلت أيضًا ملايين السّنين والعديد من التّغييرات. لكن هذا البحث يُظهِر أنّه إذا عدنا أكثر وأكثر إلى الخلف، على امتداد شجرة الأنساب العائدة إلينا؛ سنصل في النّهاية إلى كائن مجهريّ عاش بمياه دافئة في أعماق البحر ومنه تطوّرت كلّ أشكال الحياة.