صدّقت إدارة الغذاء والدّواء في الولايات المتّحدة على أوّل علاج جينيّ للهيموفيليا- وهو علاجٌ مكلفٌ للغاية. علَّل مطوّرو العلاج أنّ: العلاج الحالي مُكلف أكثر بشكل.. تراكميّ.

لو استبدلنا جينًا متضرّرًا بنسخة سليمة منه، لتمكّنا من علاج الأمراض الوراثيّة. هنالك ارتفاع اليوم في قصص نجاح باستخدام العلاج الجينيّ، وهي طريقة يُدخَلُ فيها جين بديل إلى خلايا الجسم لتصحيح وظيفتها. وافقت إدارة الغذاء والدّواء في الولايات المتّحدة (FDA) حتّى الآن على عددٍ قليل من العلاجات القائمة على هذه الأسلوب، على الرّغم من الجهود العديدة المستثمرة في هذه الطّريقة. 

عندما وافقت الإدارة على العلاج الأوّل الجينيّ لمرض الهيموفيليا B، الّذي يتميّز بالنّزيف بسبب مشاكل تخثّر الدّم، أصبح هناك علاج جديد لهذا المرض. غايةُ الدّواء الذي طوّرته شركة الأدوية برينچ (Behring)، تأهيلُ نظام التّخثّر في دم المرضى- لكنّ تكلفته باهظة جدًّا: إذ تصل إلى 3.5 مليون دولار وفقًا للتّقديرات الأولى. 

 

خطورة النّزيف

يُعتبر مرض الهيموفيليا (النّاعور) مرضًا وراثيًّا نادرًا، ينتج عن خللٍ في الجين المسؤول عن عمليّة تخثّر الدّم. نتيجةً لذلك، لا يُنتِج المرضى في أجسامهم ما يكفي من بروتينات "عوامل التّخثّر"، الّتي يتمثّل دورها في إنتاج خَثرات الدّم. لذلك، قد يعانون من نزيف مطوّل وغزير بعد إصابتهم بخدوش، أو إصابات أو كدمات. كما أنّهم معرّضون لخطر الموت في أيّ عمليّة، حتّى عند علاج أسنان روتينيّ. يؤدّي النّزيف المتكرّر إلى تلفٍ في أعضائهم، وخاصّة إلى تلف المفاصل والأطراف مع آلامٍ مزمنةٍ، والعديد من المضاعفات الأخرى. 

يعاني 80% من مرضى النّاعور من الهيموفيليا A، ويعاني 5% منهم من هيموفيليا C، وهي صورة أخرى للمرض لكنّها أبسط. أمّا الـ15% الآخرون فمصابون بمرض هيموفيليا B، وهو الّذي يصيبُ شخصًا واحدًا من بين كلّ 40 ألف شخص في العالم، معظمهم من الرّجال. يتلقّى المرضى اليوم حقنًا من عامل التخثّر إلى داخل الوريد خلال فترات متقاربة من أجل منع النّزيف. العلاج الفعّال لمرة واحدة سيحرّرهم من هذا الرّوتين الذي يخضعون له ويتطلّب منهم نقل الدّم إلى المنزل، أو الذّهاب إلى المستشفى كلّ يومين أو ثلاثة أيام، وسيحسّن من جودة حياتهم.


يمكن أن تسبّب كلّ ضربة أو إصابة طفيفة في نزيف متواصل. نزيف تحت الجلد القَرَت في يد مصاب بمرض الهيموفيليا | مصدر: Rattiya Thongdumhyu, Shutterstock

إصلاح الجين

بُذلت الكثير من الجهود البحثيّة في السّنوات الأخيرة لتطوير علاج جينيّ لمرض الهيموفيليا B والهيموفيليا A. وافق الـ FDA مؤخّرًا على استعمال الهمچنيكس (Hemgenix)، وهو علاج جينيّ جديد لمرضى الهيموفيليا A. يستخدم العلاج فيروسات مهندسة لإدخال جين سليم إلى داخل خلايا الكبد لدى الشّخص المريض، تحوي تعليماتٍ لإنتاج عامل التّخثّر النّاقص. لتحسين فعّاليّة العلاج بشكل أكبر، طوّر الباحثون نسخة من جين البروتين، إذ ينتج ما بين 5-8 مرّات من عامل التّخثّر الطّبيعيّ. 

تقوم الفيروسات المهندسة ضمن هذا العلاج بإصابة خلايا الجسم المريض، وتُدخل الجين البديل إلى الخلايا. نتيجةً لذلك، تبدأ خلايا الكبد المسؤولة عن ذلك في إنتاج عوامل تخثّر طبيعيّة. لاحقًا، تقوم خلايا الكبد بتفكيك الفيروسات المهندسة وإخلائها من الجسم، بينما يبقى الجين السّليم في الخلايا. وفي غضون بضعة أشهر، من المتوقّع أن يقوم جسم المتعالجين بإنتاج كميّة ثابتة ومستقرّة من عامل التّخثّر، بمستوى يقلّل الحاجة إلى العلاج عن طريق الوريد أو يلغيها، ويقلّل عدد حالات النّزيف، بل حتّى الشّفاء التّامّ. 

تمّ اختبار العلاج على 54 رجلًا بالغًا يعانون من الهيموفيليا المتوسّطة أو الشّديدة. بدأ المشتركون في الدّراسة بإنتاج عامل التّخثّر النّاقص في غضون أشهر قليلة من تلقّي العلاج، وازداد نشاطه في الجسم، وانخفض مستوى النّزيف عندهم بنسبة 54% خلال العام الأوّل. بعد مرور عاميْن، أوقف 9% من المشتركين في البحث العلاجَ عن طريق الوريد الرّوتينيّ كلّيًّا. كانت الآثار الجانبيّة خفيفة نسبيًّا، حيث شملت زيادةً في كميّة إنزيمات الكبد، والصّداع، والتّعب والغثيان.

أحد الأسئلة الهامّة التي طُرحت في أعقاب البحث هو ما إذا كان إنتاج عامل التّخثّر سيبقى لفترة من الزّمن؟ إذ أنه في حالة حدوث انخفاض في إنتاجه، فإنّ العلاج لن يُكرَّر، لأنّ جهاز المناعة لدى المريض سيتمكّن من التّعرف على الفيروس المُهندس، وسيكون له ردّ فعل قويّ ويُخرجه من الجسم بسرعة، قبل أن يتمكّن من نقل الجين السّليم. لذلك من المهمّ جدًّا الاستمرار في متابعة المرضى لفترة زمنيّة طويلة. 

تمّ الحصول على نتائج مشجّعة في هذا السّياق. ففي تجربة إكلينيكيّة أخرى على مرضى الهيموفيليا B الذين تلقّوا علاجًا بدواء مماثل، بقي مستوى عامل التّخثّر مستقرًّا لمدّة ثماني سنوات على الأقلّ. يعتقد الباحثون أنّ العلاج بالهمچنيكس سيكون فعّالًا لمدّة عشر سنوات على الأقلّ، مع أملهم بفترة زمنيّة أطول. 


أوقف معظم المشتركين في التّجربة عمليّة العلاج الاعتياديّة عن طريق الوريد بعد مرور عاميْن من العلاج الجينيّ. عامل التّخثّر 9 المفقود في الهيموفيليا B | مصدر: Antonia Reeve, Science Photo Library

دفع الثّمن

العلاج الجديد يُحيي الأمل مجددًا لدى المرضى. مع ذلك، بسبب كون هيموفيليا B مرضًا نادرًا جدًّا، فمن المتوقّع أن تكون أرباح الشّركة منه محدودةً. يكشف تحليل أسعار الأدوية في الولايات المتّحدة أنّ سعر أغلى دواء اليوم هو زولچنسما (Zolgensma)، المعدّ لمرضى الضّمور العضليّ، الذي يصل إلى 2.1 مليون دولار. لكن، سيبلغ سعر الهمچنيكس أكثر بكثير. حسب التّقديرات الحاليّة، ستبلغ تكلفة العلاج بالدواء لمرّة واحدة 3.5 مليون دولار، ما يجعله أغلى دواء في العالم.

تدّعي شركة برينچ، مطوّرة العلاج، أنّ السّعر المرتفع مُبَرَّر لأنّه يُستخدم لمرّة واحدة، كما أن للدّواء قدرة على علاج المرض. أظهرت دراسة أنّ السّعر التّراكميّ للعلاج الاعتياديّ يتراوح بين 300-800 ألف دولار في السّنة لكلّ مريض هيموفيليا، ونحو 20 مليون دولار بالمتوسّط على مدار العمر. لذلك، تشير التّقديرات إلى أنّ العلاج سيوفّر في المدى الطّويل على جهاز الصحّة في الولايات المتّحدة نحو 5-5.8 مليون دولار للشّخص الواحد. 

يقول نائب رئيس الاتّحاد العالميّ للهيموفيليا چلن پيرس (Pierce) للمجلّة العلميّة Nature: "إنّ التكلفة المرتفعة للهمچنيكس سوف تُستَرجَع في وقت قصير نسبيًّا، إذا بقي نشطًا لفترة طويلة". ووفقًا لقوله، فإنّ "الموافقة على الهمچنيكس حجرٌ أساسٌ مركزيّ في رحلة العلاج، ويبدو أنّ بعض المرضى الّذين زُرِعَ فيهم سَيتعافون بالفعل لسنوات عديدة". 

 

0 تعليقات