تقترح دراسة جديدة أجريت على القرود إمكانيّة تطوير فيروس معدّل وراثيًّا يتنافس مع فيروس نقص المناعة البشريّة HIV لدى حاملي الفيروس، وبهذا يمنع تفشّي المرض. قد تكون هذه الطّريقة بمثابة بديل للعلاج الدّوائيّ اليوميّ في البلدان الّتي تنقص فيها الأدوية.

منذ ظهور وباء الإيدز في الغرب واكتشاف فيروس نقص المناعة البشريّة HIV المسبّب له، قام العديد من العلماء بدراسة الفيروس على أمل تحسين طرق علاج المصابين به. وعلى مرّ السّنين، حقّقت الأبحاث نجاحات دفعت إلى تطوير أدوية تسمح للأشخاص المصابين بالفيروس، ممّا يسمّى حاملي الفيروس، أن يعيشوا حياة طبيعيّة وصحّيّة دون الوصول إلى مرحلة تفشّي المرض. مثل هذه العلاجات شائعة في الدّول المتقدّمة، لكنّها ليست شائعة في دول العالم الثّالث، لذلك لم يتوقّف وباء الإيدز فيها بعد وما زال ينتشر ويقتل الكثيرين.

في مقال جديد ورياديّ، يقترح باحث أمريكيّ يدعى ليئور واينبرجر (Weinberger) محاربة الفيروس بأساليب الفيروس نفسه. وقام الباحث وزملاؤه بإنتاج فيروس نقص المناعة البشريّة المعدّل وراثيًّا، وأظهر أنّه ينافس الفيروس الطّبيعيّ، ويمكنه منع تفشّي المرض في القرود.

على مدى ملايين السّنين، تواجد البشر جنبًا إلى جنب مع "رفاق" صغار للغاية - الفيروسات والطّفيليّات الّتي تعتمد كلّيًّا على آليّات الخلايا الحيّة في وظيفتها. وإذا فحصناها عن كثب فسوف نجد أنّها بسيطة للغاية، وهي تتكوّن من مادّة وراثيّة محاطة بغلاف بروتينيّ، وليس لديها طريقة خاصّة في إنتاج البروتينات الضّروريّة لوجودها، وهي تنتقل من شخص إلى آخر ومن خليّة إلى خليّة دون القدرة على التّحكّم في حركتها.

وعندما يلتقون بخليّة مضيفة يمكنها تلبية احتياجاتهم، يتسلّلون إليها ويستولون على آليّات حياتها، ويحوّلونها في النّهاية إلى مصنع لإنتاج ونشر فيروسات جديدة.

تصيبنا مجموعة كبيرة ومتنوّعة من الفيروسات بالعدوى، وقد كشفت لنا دراسة عميقة عن مدى تنوّعها وتعقيدها. دفعتها ملايين السّنين من التّطوّر جنبًا إلى جنب مع البشر إلى تطوير استراتيجيّات فريدة تسمح لهم بالهروب من نظام المناعة لدينا، والاستيلاء بسهولة على خلايا أكبر منهم بكثير.


إصابة خليّة مضيفة بالعدوى وتحويلها إلى مصنع لإنتاج فيروسات جديدة. صورة مجهريّة إلكترونيّة ملوّنة للعديد من جزيئات فيروس نقص المناعة البشريّة (الأزرق) تتكاثر في خليّة الجهاز المناعيّ (الأحمر) وتغادرها | الصورة: NIAID, Flickr

تقلّبات الفيروس

في الأربعينيّات القرن العشرين، قام عالم دنماركيّ يُدعى فاربين فون ماغنوس (Von Magnus) بدراسة فيروس الأنفلونزا. ولاحظ أنّه إذا جعلنا الفيروسات تتكاثر لوقت طويل، فإنّ أعداد الفيروسات الجديدة السّليمة تزيد وتقلّ في العيّنة خلال عمليّة التّكاثر، أي أنّ قدرة الفيروسات على العدوى تزيد وتتناقص مع مرور الدّورات. هذه الظّاهرة، والّتي سوف تُسمّى فيما بعد "ظاهرة فون ماغنوس"، تنتج بسبب تزايد عدد الطّفرات في الحمل الجينيّ للفيروسات الجديدة الّتي تنشأ في الخليّة المصابة.

الطّفرة هي تغيّر في تسلسل المادّة الوراثيّة، ممّا قد يؤدّي إلى تغيّر في البروتينات الّتي تنتجها الخليّة بعد الإصابة. وبسبب ارتفاع معدّل الطّفرات الّتي تمرّ بها الفيروسات الجديدة في الخلايا المصابة، يتمّ الحصول على فيروسات مختلفة. وفي حين بقاء جزء كبير منها سليمًا وفعّالًا، فقد أصيب بعضها الآخر بطفرات جعلتها معطوبة. في بعض الحالات، تكون هذه الفيروسات المعطوبة والّتي تسمى DIP، وهي اختصار لـ Defective Interfering Particle، غير قادرة على جعل الخليّة تنتج البروتينات الفيروسيّة الّتي تحتاجها للتّكاثر.

مثل هذه البروتينات، على سبيل المثال بروتينات الغلاف والبروتينات المستخدمة لتضاعف المادّة الوراثيّة، لا تزال تنتجها الفيروسات العاديّة، ويستخدمها DIP للتّكاثر. لذا، فهي في الواقع تعمل كطفيليّات للطّفيليّات، وتتنافس مع الفيروسات العاديّة على استخدام الموارد. تؤدّي المنافسة إلى انخفاض في العدوى الّتي وثّقها فون ماغنوس.

قبل حوالي 15 عامًا، بدأ واينبرجر من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو (UCSF) بالسّعي لتوسيع أبحاث أل DIP. كانت فكرته معقّدة وثوريّة، وبدت للوهلة الأولى مريبة، فقد أراد استخدام ظاهرة فون ماغنوس لإخضاع فيروس نقص المناعة البشريّة المسبّب لمرض الإيدز. وبمساعدة الهندسة الوراثيّة، قام بخلق (إنشاء) فيروس نقص المناعة البشرية معطوب قد يتنافس مع الفيروس السّليم ويُضْعِف فعاليّته. وفي مقال جديد نشر في مجلة Science العلميّة، يوضّح أن هذا ممكن، ويوضّح كيف يمكن للتّفكير خارج الصّندوق أن يؤدّي إلى اكتشافات علميّة مهمّة.


يخترق الفيروس خلايا الجهاز المناعيّ ويقضي عليها. صورة بمجهر إلكترونيّ ملوّن لجزيئات فيروس نقص المناعة البشريّة (الحمراء) الخارجة من خليّة الجهاز المناعيّ، الخليّة التّائيّة T (الزّرقاء) | الصّورة: NIAID, Flickr

فيروس نقص المناعة البشريّة HIV والإيدز

ينتقل فيروس HIV من شخص لآخر عبر الدّم وسوائل الجسم الأخرى، بالأساس من خلال الاتّصال الجنسيّ غير المحميّ، أو من الأمّ إلى الجنين، أو بواسطة استعمال متبادل للإبر. يحمل الفيروس اليوم حوالي 39 مليون شخص، ويصاب به أكثر من مليون شخص جديد كلّ عام. على عكس معظم الفيروسات الأخرى، الّتي يتمكّن الجسم في النّهاية من القضاء عليها، فإنّ فيروس HIV يصيب الإنسان لبقيّة حياته، وباستثناء حالات نادرة جدًّا، لن يختفي بشكل طبيعيّ. يدخل إلى خلايا الجهاز المناعيّ ويمكن أن يظلّ خاملًا فيها لفترة قصيرة أو طويلة من الزّمن.

وفي مرحلة ما، يستيقظ الفيروس ويبدأ في تكرار نفسه، ويقتل الخلايا الّتي أصابها بسرعة خلال هذه العمليّة. هكذا تتطوّر متلازمة نقص المناعة المكتسب، المسمّاة الإيدز، لدى حاملها، والّتي تتميّز بانهيار جهاز المناعة. ويؤدّي الضّرر الّذي يتعرّض له الجهاز المناعيّ إلى تطوّر التهابات قاتلة، رغم أنّ الجسم يتعامل معها بسهولة عادة، في حالة فيروس الأنفلونزا على سبيل المثال. لذلك، بدون علاج، يصبح الإيدز مرضًا مميتًا يؤدّي إلى وفاة المريض خلال حوالي ثلاث سنوات من ظهوره.

 لم يستطيع الطّبّ في الماضي التّعامل مع الفيروس، لكن لحسن الحظّ، اختلف اليوم الوضع. حتّى لو كان من المستحيل القضاء على الفيروس من جسم المصاب، فمن المؤكّد أنّه من الممكن منع تفشّي الفيروس في جسمه. يُخفض العلاج الدّوائيّ المنتظم الّذي يسمّى "مضادّات الفيروسات القهقريّة"، والّذي يتناوله حاملو فيروس نقص المناعة البشريّة، مستويات الفيروسات في دمهم، وبالتّالي يمكنهم أن يعيشوا نمط حياة طبيعيًّا، دون خوف من تفشّي مرض الإيدز.

الاستخدام الصّحيح، أي الحرص على تناول الدّواء بشكل مستمرّ، يؤدّي إلى انخفاض كبير في مستوى الفيروس، إلى درجة أنّ المرضى لا يستطيعون نقل العدوى إلى الأشخاص الّذين لديهم اتّصال جنسيّ.

ومن ناحية أخرى، فإنّ الوضع في بلدان العالم الثّالث أبعد ما يكون عن الورديّ. لا يستطيع الجميع الحصول على هذه الأدوية، ولا يزال معدّل الوفيات بسبب الإيدز هناك مرتفعًا. على سبيل المثال، في جنوب أفريقيا، توفّي ما يقارب 50 ألف شخص في عام 2023 لأسباب تتعلّق بفيروس HIV.

 

حل مبتكر وخلّاق لمشكلة معقّدة

الحلّ الذي تقدّمه الدّراسة الجديدة يمكن أن يساعد أيضًا الأشخاص الّذين لا يستطيعون الحصول على الدّواء بشكل منتظم. أجرى  الباحثون تجارب لفترة طويلة أزالوا فيها أجزاء مختلفة من الجينوم - المادّة الوراثيّة - للفيروس بواسطة الهندسة الوراثيّة، بهدف العثور على المناطق المحدّدة الّتي يجب إزالتها للحصول على فيروس غير ضارّ سوف يستخدم البروتينات الّتي تنتج فيروسات نقص المناعة البشريّة في الخليّة، لكنّه لن يجعل الخليّة تنتجها بنفسها. أمّا الفيروس المهندس على أساس فيروسات DIP، "طفيليّات" الطّفيليّ، فأطلقوا عليه اسم TIP، وهو اختصار لـ Therapeutic Interfering Particle.

وبعد حقنة واحدة من فيروس TIP، سوف تبدأ منافسته ضدّ الفيروس الطّبيعيّ، وهي منافسة سوف تستمرّ فترة طويلة دون الحاجة إلى حقن إضافيّة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للفيروس المهندس أن ينتقل من شخص لآخر إلى جانب الفيروس الأصليّ بنفس طرق الانتشار. إنّ هذه الطريقة، الّتي تلغي الحاجة إلى علاجات متكرّرة، لها ميزة كبيرة في البلدان غير المتطوّرة. الأمل هو أنّ الأشخاص المعرّضين للفيروس المهندس وراثيًّا سوف يحملون كلا الفيروسين، فيروس نقص المناعة البشرية وTIP لبقيّة حياتهم، بحيث يتنافس TIP مع فيروس نقص المناعة البشريّة على الموارد، ممّا يمنع تكاثره غير المنضبط، وبالتّالي تفشّي مرض الإيدز.


حقنة من فيروسات HIV المعطوبة المعدّلة وراثيًّا حمت القرود من تفشّي مرض شبيه بالإيدز. ممرّض يمسك حقنة. الصّورة:  OHSU/Christine Torres Hicks

لاختبار الطّريقة، اختبر الباحثون بدايةً تأثير فيروسات TIP في الخلايا البشريّة المتبرّع بها في المختبر. لقد أصابوا الخلايا بـ TIP بالإضافة إلى فيروس نقص المناعة البشريّة، ورأوا أنّ المنافسة بينهم أدّت بالفعل إلى خفض مستويات فيروسات نقص المناعة البشريّة في مزارع الخلايا.

ثمّ أرادوا اختبار جدوى هذه الطّريقة على القرود. تعتبر القرود نموذجًا حيوانيًّا ناجحًا في مجال فيروس HIV الإيدز، لأنّها معرّضة للإصابة بفيروس SIV، وهو مشابه جدًّا لفيروس HIV الّذي يصيب الإنسان. أصاب الباحثون القرود بنسخة فتّاكة ومميتة منه بشكل خاصّ، تسمّى SHIV، وهو مزيج من فيروس SIV مع فيروس نقص المناعة البشريّة البشريّ، والّذي ينتج بروتينات الغلاف الفريدة للفيروس الّذي يصيب البشر.

وقبل إصابتها بالفيروس القاتل، أصابوا بعض القرود بالـ TIP، وقام الباحثون بمتابعتها وفحص مدى ميلها إلى الإصابة بالمرض. وكانت النّتائج مبهرة: اِنخفض مستوى فيروس SHIV في أجسام القرود الّتي تلقّت العلاج عشرة آلاف مرّة، ممّا أدّى إلى انخفاض كبير في علامات المرض. وفي غضون 30 أسبوعًا، مات أحد القرود السّتّة الّتي تلقّت TIP مقارنة بثلاثة من القرود الأربعة الّتي لم تتلقّ TIP.

إنّ الإستراتيجيّة الّتي يقترحها المقال الجديد تجريبيّة، ولم يتمّ تنفيذها بعد على أرض الواقع. قبل تجربته على البشر، يجب أخد المخاطر المحتملة من استخدامه بالحسبان. أوّلًا، يجب الأخذ في الاعتبار أنّ TIP، حتّى لو كان غير قادر على التّكاثر والعمل كفيروس حقيقيّ، فإنّه قد يندمج في المادّة الوراثيّة للأشخاص الّذين يتلقّونه. ليس من الممكن التّنبّؤ بالضّبط بالمكان الّذي يندمج فيه، وهل ستكون له عواقب سلبيّة مستقبلًا، مثل تطوّر مرض السّرطان.

ثانيًا، هناك احتمال أن يؤدّي حقن TIP في البشر إلى ردّ فعل التهابيّ شديد قد يعرض صحّة المعالجين للخطر. ولهذه الأسباب يجب مراقبة تأثير العلاج الجديد على الإنسان بعناية، والتأّكّد من مطابقته لقواعد الأخلاق وعدم تعريضه للخطر أكثر من المعقول.

وفي مقابلة لموقع "Science" قال واينبرغر إنّه سوف يتمّ بالفعل إجراء المزيد من التّجارب في المستقبل لتأكيد نتائج الدّراسة الحاليّة واختبار سلامة العلاج. أوّلًا، سوف يتمّ إجراء المزيد من التّجارب على القرود، الّتي سوف تُحقن بال TIP بعد إصابتها بفيروس ال SIV. وبعدها، من المقرّر أيضًا إجراء دراسة على البشر، والّتي سوف يتمّ إجراؤها على متطوّعين مصابين بفيروس نقص المناعة البشريّة، وتهدف إلى إثبات فعاليّة الطّريقة.

ونظرًا للمخاطر المحتملة للعلاج، سوف تشمل المرحلة الأولى من الدّراسة متطوّعين حاملين فيروس نقص المناعة البشرية والّذين يعانون أيضًا من أمراض مميتة. مفهوم ضمنًا أنّه من المهمّ المضيّ قدمًا بحذر ومسؤوليّة، ومع ذلك، في العلوم من المهمّ أيضًا أن نهدف إلى تحقيق أهداف عالية. ومن المأمول أن تساعدنا الفيروسات المعدّلة وراثيًّا في المستقبل في التّعامل مع فيروس الHIV وربّما حتّى مع الفيروسات الأخرى الّتي ليس لها علاج حاليًّا.

0 تعليقات