ملكات النّحل الّتي تلقّت البكتيريا الميّتة في غذائها تنقل إلى نسلها مناعةً ضدّ الأمراض القاتلة

أحدثت اللُّقاحاتُ ثورةً في عالم الطبّ البشريّ والحيوانيّ. فهل يمكن تطويرُ لقاحٍ آمن وفعّال للحشرات أيضًا وإنقاذها من الأمراض المُعدية؟ دراسةٌ جديدة تفحص سلامةَ أوّل لقاح يُعطى لنحلِ العسل عن طريق الفم وفعاليَّتَه، وتؤكد نتائجُها جدواه في حماية النّحل من مرض بكتيريّ قاتل.

يواجه نحل العسل (Apis mellife) العديد من الأعداء، بما في ذلك البكتيريا والفيروسات والفطريّات الّتي تسبّب أمراضًا خطيرةً. تُسبِّب هذه الأمراض أضرارًا جسيمة لمستعمرات النّحل وخسائرَ كبيرة لمربّي النّحل، وقد تُلحِق الضّرر بالمحاصيل الزّراعيّة الّتي يُلقّحها النّحل. أحد هذه الأمراض مرضُ تعفّن الحضنة الأمريكيّ (American Foulbrood)، وهو مرضٌ شديد العدوى تسبّبه بكتيريا تسمّى "پانيباسيلوس لارڤا" (Paenibacillus larvae). لا يؤذي هذا المرض النّحل البالغ، لكنّه يُصيب يرقاتِ النّحل في الأيّام الثّلاثة الأولى من حياتها، وقد يؤدّي إلى موت الجيل القادم من النّحل.

تحوي خليةُ النّحل خلايا سداسيّة الشّكل، حيث تضع الملكة بيضها. تتطوّر البيضة إلى يرقة وتتحوّل إلى خادرة (Chrysalis) في غضون أيامٍ قليلةٍ. تُدعى النّحلة في مراحل للتّطوّر هذه "حضنة". بعد بضعة أيّامٍ، تخرجُ نحلة ناضجة من الخليّة وتنضمّ إلى بقية النّحل في الخليّة. يقوم النّحل البالغ بإطعام اليرقات الّتي تنمو في الخلايا، وقد ينقل أبواغ البكتيريا (Bacterial spores) من خلال الطّعام. تكون الأبواغ في حالتها الرّاكدة، وتنتقل من الطّعام إلى أمعاء اليرقة النّامية، حيث تصبح بكتيريا نشطة وتتكاثر بسرعة. نتيجةً لذلك، يتغيّر لدى اليرقة لونُها وشكلها، وعادةً ما تتعفّن وتموت.

תאים משושים בחלה ובתוכם ביצים וזחלים | צילום: יאיר לופו, תמונות נוספות בקבוצת פייסבוק "עולם הדבורים"
تتطوّر الحضنة في خلايا النّحل. خلايا سداسيّة الشّكل بداخلها بيض ويرقات | تصوير: يائير لوپو، صور إضافيّة في مجموعة الفيسبوك "عالم النحل"

 

ينتشر المرض عادةً بسرعة في جميع أنحاء الخليّة، وتُصاب به معظم اليرقات خلال أسابيع قليلة. عندما تكتشف النّحلة بقايا يرقة ميّتة وتحاول إخراجها من الخليّة، تلتصق ملايين البكتيريا والأبواغ بجسمها، وتنتقل إلى يرقات صحيحة أخرى تعتني بها. بالإضافة إلى ذلك، قد ينقل مربّو النحّل الأبواغ إلى مستعمرات نحل أخرى، ما يؤدّي لإصابتها أيضًا.

عندما لا تجد البكتيريا "پانيباسيلوس لارڤا" ظروفًا جيّدة للتّطوّر، فإنّها تغطّي نفسها بقشرة صلبة لا يمكن اختراقها، وتعود إلى حالة البوغ بحيث تكون في حالة الرّكود. هذه الجراثيم مقاوِمة للمطهّرات، ومعظم العلاجات يمكنها البقاء على قيد الحياة، لمدّة عشرين عامًا أو أكثر في هذه الحالة. هذا هو السّبب في أنّه من الصّعب للغاية القضاء على المرض من خلايا النّحل المصابة.

إذا اُكتشفَ المرض في مرحلة مبكّرة قبل أن ينتشر، يمكن علاج المستعمرة بأكملها بالمضادّات الحيويّة. يقوم هذا العلاج بتثبيط تكاثر البكتيريا، لكنّه لا يقتل الأبواغ. لذلك، يستمرّ المرض في التّواجد في المستعمرة بحالته الرّاكدة، وينتظر فرصة للانتشار مرّة أخرى. قد يؤدّي استخدامُ المضادّات الحيويّة إلى ظهور بكتيريا مقاومة للعلاج وتلوّت العسل، لذلك، فهو محظور في الاتّحاد الأوروبيّ، لكنّه مسموح في إسرائيل. إذا لم يعُد العلاج بالمضادّات الحيويّة بالفائدة، فإنّ الطّريقة الوحيدة لوقف تفشّي المرض، ومنع انتشاره إلى مستعمرات أخرى، حرقُ الخليّة بكلّ محتوياتها. نظرًا لأهمّيّة النّحل الهائلة للإنسان والطّبيعة، فإنّ الحاجة إلى تطوير وسائل جديدة، آمنة وفعّالة لعلاج المرض واضحة.

כוורות דבורים במושב עדנים | צילום: יאיר לופו, תמונות נוספות בקבוצת פייסבוק "עולם הדבורים"
اذا لم يعُد العلاج بالمضادّات الحيوية بالفائدة، فإنّ الطّريقة الوحيدة لوقف تفشّي المرض حرقُ الخليّة بكلّ محتوياتها. خلايا نحل في "موشاف عدنيم"| تصوير: يائير لوپو، صور إضافية في مجموعة الفيسبوك "عالم النحل"

لقاح للحشرات؟

لدى النّحل طرقٌ عديدة لحماية نفسها من الآفات والأمراض، بل إنّ بعضها يشبه الجهاز المناعيّ للثدييات. عندما تخترق البكتيريا جسم النّحلة، يتمّ تنشيط سلسلة طويلة من آليات الدّفاع، تتمثّل مهمتها في تشخيص النّوع الغازيّ والعمل ضدّه. على عكس الثّدييات والفقاريّات الأخرى، يفتقر النّحل إلى آليّة دفاع مركزيّة مثل الأجسام المضادّة، تُحدّد بشكل فعّال عواملَ المرض وتُحيّدها، حيث يمكن أن تنتقل من الأم إلى الجنين، وتوفّر حماية جزئيّة للطّفل لبضعة أشهر بعد الولادة.

بالرّغم من عدم وجود أجسام مضادّة للنّحل، فإنّ لديه طرقًا أخرى لحماية نفسه من مسبّبات الأمراض. أظهر الباحث خاڤيير لوپيز (Javier Lopez) وزملاؤه، في دراسة أُجريت في النّمسا سنة 2014م، أنّ النّحل لا يكتفي فقط بتطوير مقاومة معيّنة للبكتيريا الّتي تعرّض لها سابقًا، لكن كما تمّ إثبات ذلك في العديد من الحشرات الأخرى، يمكنها أيضًا نقل المناعة من جيل لآخر، بطريقة تُعرف باسم التّحضير المناعيّ عبر الأجيال (Trans-generational immune priming). أظهر لوپيز أنّه عندما حقنوا البكتيريا "پانيباسيلوس لارڤا" الميّتة مباشرةً في جسم الملكة، كان نسلها أكثر مقاومةً للبكتيريا والمرض.

لم يوضّح هذا الاكتشافُ كيف تنتقل المناعة من جيل لآخر. بعد مرور عامٍ، اقترح كلٌّ من دليال فرايتك (Dalial Freitak) وهايلي سالميلا (Heli Salmela) آليّة نقل محتملة، باستخدام بروتين يسمّى ڤيتيلوجينين (Vitellogenin)، وهو البروتين الرّئيس في صفار البيض. يتواجد هذا البروتين أيضًا في السّائل الدملمفي للنّحل (Hemolymph)، الّذي يلعب في اللّافقاريات أدوارًا مشابهةً لتلك الموجودة في نظام الدّورة الدّمويّة لدينا. أظهر الباحثون أنّ هذا البروتين يرتبط بالأبواغ المسبّبة للأمراض الموجودة في الدملمف، ويحملها إلى البيض الذي تنتجه الملكة، بالتالي ربّما ينقل المعلومات إلى الجيل التّالي.

מלכת הדבורים מוקפת בפועלות | צילום: יאיר לופו, תמונות נוספות בקבוצת פייסבוק "עולם הדבורים"
يقوم النّحل العامل بإطعام الملكة وقد ينقل الأبواغ أثناء الرضاعة. ملكة النّحل محاطة بالنّحل العامل| تصوير: يائير لوپو، صور إضافية في مجموعة الفيسبوك "عالم النحل"

 

نظرًا لكون ملكة النّحل تكاد لا تغادر الخلية، فإنّ النّحل يصنع لها الطّعام ويُطعمها مباشرةً. في بعض الأحيان، يكون الطّعام ملوّثًا بالأبواغ البكتيريّة، الّتي تُهضَم في أمعاء الملكة، وترتبط بعضُ مكوّناتها بالبروتين ڤيتيلوجينين. يقوم البروتين بنقلها للتّخزين في الأجسام الدّهنيّة الموجودة في جسم الملكة، ومن هناك تصل أيضًا إلى البيض النّامي في جسمها. عندما تفقس اليرقات من البيض، تُحصَّن فعلًا ضدّ الجراثيم، لأنّها تعرّضت لمكوّناتها وطوّرت استجابة مناعيّة.

بعد أن فهم الباحثون كيفيّةَ تلقيحِ ملكةِ النّحلِ نسلَها، شرعوا في تطوير اللّقاح. استخدم الباحثون البكتيريا الميّتة، من أجل عدم تعريض حياة الملكة والمستعمرة بأكملها للخطر. لتجنّب المخاطرة بالملكة بحقنة يمكن أن تؤذيها، مثلما حدث في سنة 2014م، مزج الباحثون البكتيريا الميّتة بالطّعام المحلّى، وأطعموها للملكات الّتي جمعوها من خلايا النّحل. تلقّت إحدى مجموعات الملكات طعامًا يحوي بكتيريا ميّتة، وتلقّت المجموعة الضّابطة طعامًا بدون بكتيريا.

لاحظ الباحثون أنّ معدّل وفيّات اليرقات من خلايا النّحل التي تم تطعيم الملكة فيها قد انخفض بنسبة 50-30 في المئة مقارنةً بالمجموعة الضابطة. معنى ذلك أنّ اللقاح رفع قدرة صمود نسل الملكات المُطعَّمة. تشير الدّراسات إلى أنّ مستعمرات النّحل يمكنها تحمّل كمّيّة معيّنة من الأبواغ، دون أن تتأثّر بشكل كبير بالمرض، ولكن هناك حدّ معيّن لم تم تجاوزه فإنّ المستعمرة بأكملها ستتعرّض للخطر. لذلك، يعتقد الباحثون أنّه على الرّغم من أنّ اللقاح لم ينجح في حماية جميع اليرقات، إلّا أنّ الانخفاض المعتدل في كمّيّة الأبواغ من شأنه أن يمنع تفشّي المرض.

דבוראית צעירה | צילום: יאיר לופו, תמונות נוספות בקבוצת פייסבוק "עולם הדבורים"
يتسبّب المرض في أضرار جسيمة لمربّي النّحل. مربّية نحل صغيرة| تصوير: يائير لوپو، صور إضافية في مجموعة الفيسبوك "عالم النحّل"

حماية نحل العسل

تظهر نتائج الدّراسة الحاليّة أنّ لقاحًا رخيصًا، آمنًا وفعّالًا قد يحسّن صحّة مستعمرة النّحل، ويقيها من الأمراض الفتّاكة. كما يُمكن أن تفيد هذه التّقنيةُ الحشراتِ الأخرى الّتي تتمتّع بنفس آليّة المناعة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ حماية المستعمرات ستقلّل من خسائر مربّي النّحل، وقد تزيد من الأمن الغذائيّ في العالم، حيث أنّ الأهمّيّة الرّئيسة لنحل العسل هي تلقيح المحاصيل الزّراعيّة مثل اللّوز، الأفوكادو والتّفاح وغيرها.

مع ذلك، فإنّ الرّحلة نحو تطوير اللقاح لم تنته بعد. فقد أُجرِيَ البحث في بيئة معزولة وخاضعة للرّقابة، في مختبر وعلى نطاق صغير. يعتزم الباحثون، بالتّعاون مع شركة التّكنولوجيا الحيويّة دالان لصحّة الحيوانات (Dalan Animal Health)، الّتي تحمل براءة اختراع التّكنولوجيا الجديدة، توسيع التّجارب الميدانيّة وتحسين جرعاتِ اللّقاح وتقويته. إذا سارت عمليّة التّطوير على ما يرام، سيكون بمقدور مربّي النّحل الحصول على أوّل لقاح تجاريّ لاستخدامه على الحشرات: محلول مركّز من البكتيريا الميّتة، يمكن مزجه بمحلول السّكّر لصنع نوع من الحلوى تُوضَع في الخليّة، حيث يقوم النّحل العامل بإطعامها للملكة، وهكذا تنتقل المعلومات المناعيّة من خلال بيضها إلى الجيل التّالي من النّسل وتحميه.

0 تعليقات