لماذا طوّرت بعض الحيوانات أدمغة أكبر من غيرها؟ بسبب رعاية الأهل واهتمامهم

تتمتّع الحيوانات ذات الأدمغة الكبيرة نسبةً إلى حجم أجسامها بقدرات معرفيّة أفضل - حيث يمكنها  الشّعور بمحيطها بشكل أفضل، وأكثر نجاحًا بالهروب من الحيوانات المفترسة، والتكيّف جيّدًا مع البيئات الجديدة، البحث عن الطّعام وتعلّم معلومات جديدة بسرعة وبكفاءة عالية، بالتالي ترتفع فرصتها في البقاء على قيد الحياة. فلماذا لا نطوّر عقولًا عملاقة؟

الجواب عن هذا السّؤال هو أنّه لكي يكون الدّماغ أكبر نسبةً لحجم الجسم، يجب استثمار المزيد من الطّاقة والموارد في تطوّره. نظرًا لأنّ للحيوان كمّيّات محدودة من الطّاقة والموارد للنّموّ، فإنّ تطوّر الدّماغ ونموّه سيأتيان حتمًا على حساب أجهزة أخرى في الجسم، كالعضلات والهيكل العظميّ والكبد، والّتي لا تقلّ أهمّيّة للبقاء على قيد الحياة. لذلك، يمكننا أن نتوقَّع أنّ حجم دماغ حيوانٍ ما سيكون الحدّ الأدنى الّتي ستسمح له ثُلّة من القدرات للبقاء والازدهار. ويمكننا أن نتوقّع إذًا تطوير أنواع مُشابهة مِن الحيوانات لأدمغة بنفس الحجم.

مع ذلك، عندما فحص الباحثون أدمغة أنواع مختلفة من فئة الحيوانات الرئيسيات (Primates)، بما في ذلك الشمبانزي والغوريلا والربّاح (بالإنجليزية: Baboon) وقرود المكاك، واتّضح أنّ هناك اختلافات كثيرة بمعدّل ​​حجم الدماغ نسبةً لحجم الجسم في الأنواع المختلفة. وهذا لا يقتصر فقط على حقيقة أنّ هذه الأنواع لا تنتمي إلى نفس المجموعة، إنمّا أيضًا على أسلوب حياتها الّذي يتطلّب قدرات متشابهة. على سبيل المثال، تعيش جميعها في هيكليّة اجتماعيّة تُسمى سربًا أو قطيعًا،  لذلك يجب أن تسمح لها أدمغتها بالتواصل مع الأفراد الآخرين في المجموعة؛ والبحث جميعًا عن الطّعام، لذلك يجب أن تمكّنها أدمغتها من لقدرات جمع الطعام. فلماذا يمتلك الشمبانزي دماغًا أكبر، بالنسبة لوزن جسمه، من قرد المكاك أو البابون؟ يشير هذا الاختلاف في حجم الدّماغ إلى وجود عوامل إضافيّة تؤثّر على الحجم النّسبيّ للدّماغ.


لماذا لم تتطوّر أدمغة عملاقة لدى جميع الحيوانات؟ رسم توضيحيّ لتوضيح حجم الدماغ عند البشر والطيور والأسماك |  Sakurra, Shutterstock

دماغ كبير - كلفة باهظة

يُكلِّف الدّماغ الكبير ثمنًا باهظًا لمالكه: الدّماغ هو عضو يستهلك الكثير من الطّاقة، خاصّة خلال فترات النّموّ والتّطوّر. وإلى جانب ذلك: خلال فترات النّمو والتّطوّر، قد يتطلّب الدّماغ من الحيوان أن يبذل قدرًا كبيرًا من الطّاقة، في حين أنّه لا يساهم في قدرته على البقاء. بالإضافة إلى ذلك، وبخلاف أجهزة الجسم الأخرى، لا يمكن خفض استهلاك الدّماغ العالي للطّاقة في فترات نقص الغذاء.

إنّ بذل الطّاقة العالي يحدّ من حجم الدّماغ؛ وفي الواقع، هناك تنافس بين الدّماغ وبقيّة الجسم على الموارد للنّموّ والتّطوّر، وهناك علاقة عكسيّة بين الوقت الّذي يستغرقه النّسل للوصول إلى الاستقلال وحجم الدّماغ، أي كلّما أصبح النّسل مستقلًّا بشكل أسرع، قلّ نموّ دماغه وتطوّره مقارنةً بالأنواع الأخرى، والّتي تتميّز بفترة أطول حتّى الاستقلال.

في مقال مراجعة نُشر مؤخّرًا، قام باحثون، بقيادة الباحث كارل فان شايك (van Schaik) من معهد ماكس بلانك لدراسة سلوك الحيوان في ألمانيا، بفحص العلاقة بين كتلة الجسم وحجم الدّماغ في مجموعة متنوّعة من الحيوانات. وجد الباحثون أنّ الفترة الّتي تتطوّر فيها الأدمغة حتّى تصل إلى الحجم النّهائي في مختلف الحيوانات، من الأسماك حتّى البشر، محدودة بالفترة الّتي يتلقّى فيها النّسل الحماية والرّعاية الأبويّة.


للحيوانات ذات العقول المتطوّرة، فترة البلوغ طويلة جدًّا. دماغ دلفين | BlueRingMedia, Shutterstock 

هل يتوقّف كلّ هذا على الأمّ؟

أدرك عالم الأبحاث منذ وقت طويل أنّ لاستثمار الأمّ - للطّاقة المبذولة التي تستثمرها الأم في رعاية الأبناء - تأثير كبير على حجم الدّماغ. من السّهل أن نلاحظ أنّه لدى الكائنات الحيّة ذات العقول المتطوّرة، كالبشر أو الدّلافين، فترة نضج طويلة جدًّا، ويبقى النّسل قريبًا من الأم لسنوات عديدة. لكن ماذا عن الكائنات الحيّة الأخرى؟ وهل لمعاملة الأم معنى في هذا السياق فقط، أم أيضًا معاملة أفراد العائلة الآخرين - على سبيل المثال الأب، أو أعضاء آخرين من السّرب أو القطيع.

لذلك استعرض الباحثون الدّراسات السّابقة الّتي تناولت رعاية النّسل، وقارنوا معدّل ​​حجم الدّماغ للعديد من الفقاريات، بما في ذلك ذات الدّم البارد (الأسماك والزّواحف) وذات الدّم الحارّ (الثّدييات والطّيور)، وطريقة رعاية النّسل في هذه الحيوانات. ووجدوا أنّه في الحيوانات ذات الدّم البارد، يكون حجم الدّماغ بالنّسبة لحجم الجسم في المتوسّط ​​أصغر منه في الحيوانات ذات الدّم الحارّ.

كما تتنوّع طرق رعاية النّسل للغاية. في معظم أنواع الأسماك والزّواحف، تنتهي رعاية النّسل بعد وضع البيض؛ على عكس الطّيور والثّدييات، الّتي تعتني الغالبيّة العظمى منها بنسلها وتطعمها وتحميها. ولكن حتّى داخل هذه المجموعات هُناك اختلافات عُظمى. لدى الدّواجن، هناك فرق كبير بين الطّيور الّتي يكون نسلها زغاليل (كفراخ الحمام)، والّتي تكون مستقلّة فور الفقس من البيضة، وبين الطّيور الّتي يكون صغارها من الفراخ الّتي تفقس وتكون قليلة الحيلة للغاية، حيث تعتمد على والديها في إطعامها حتّى تكبر، وتصبح قادرة على الطيران والبحث عن الطّعام بمفردها. لدى الحيوانات الاجتماعيّة - وخاصّة أنواع معيّنة من الثّدييات والطّيور - يستفيد النّسل من حماية المجموعة أو القطيع ورعاية الأفراد الآخرين إلى جانب الأم أو الوالدين.

لذلك قام الباحثون بفحص العلاقة بين حجم الدماغ وشكل العناية بالأفراد الصّغار في مجموعة متنوّعة من أنواع الفقاريّات، واستنتجوا أنّ العامل الّذي يحدّ من حجم الدّماغ هو مدّة الرّعاية للصّغار ومدى بذل الجهود العامّة من  البيئة كُكلّ- دون الاقتصار على الأم أو الوالدين - في تربيتها. كما يساهم أفراد الأسرة الآخرون أو أفراد المجموعة الواحدة في رعاية النّسل وحمايته، ونقل المهارات المهمّة لبقيّة الحياة، مثل الصّيد أو اللّعب الاجتماعيّ، في حجم الدماغ. كلّما طالت فترة تمتّع الصّغير بالحماية والرّعاية، زادت الفترة الّتي يمكن أن يتطوّر فيها دماغه وينمو بسرعة. بعد أن يصبح النّسل مستقلًا، تنتهي فترة نموّ الدّماغ المتسارع. سنلاحظ أنّ العلاقة تعمل أيضًا في الاتّجاه المعاكس: فالحيوان ذو الدّماغ الأكثر تطورًا سيكون قادرًا على المساهمة بشكل أكبر في بقاء نسله، من خلال سلوك والدي ورعاية النّسل.

وفقًا لفان شايك، "أدّى تطوّر اهتمام الوالدين إلى ما بعد مرحلة رعاية البيض، إلى إزالة الحاجز التّطوريّ الّذي بدوره حدّ من حجم الدماغ، وبالتّالي ساهم بشكل كبير في توسيع حجم الدّماغ والقدرة المعرفيّة بين الحيوانات ذات الدّم الحار والطّيور والثّدييات. معظمهم يطعمون ذريّتهم بعد الولادة أو الفقس من البيض، ولديهم أدمغة أكبر بكثير من أقاربهم ذات الدّم الحارّ".

علينا أن نتذكّر أنّ البحث تمّ من وجهة نظر تطوريّة-تدريجيّة، ولا تشير استنتاجاته إلى المقارنة بين أفراد مختلفين من نفس النّوع، ولكن بين أنواع مختلفة من الحيوانات. بالإضافة إلى ذلك، دعونا نتذكّر أنّه إلى جانب مدّة رعاية النّسل، هناك أيضًا عوامل أخرى تحدّ من حجم الدّماغ، مثل حجم الجمجمة وبُنيتها، وفي حالة الثّدييات، عرض قناة الولادة، والّتي يجب أن تكون جمجمة المولود قادرة على المرور من خلالها.

 

0 تعليقات