لقد تغلّب على اليتم، الفقر المدقع والسُّلّ نحو ابتكار الطريقة لترتيب العناصر الكيميائيّة. 187 عامًا على ولادة أبي الجدول الدوريّ، ديميتري مندلييف (Dmitri Mendeleev).

عرفت البشرية منذ آلاف السنين بعض العناصر المهمّة، كالنحاس، الحديد، الفضّة والذهب. ظلّت قائمة العناصر المعروفة دون تغيير تقريبًا منذ السلالات القديمة في مصر القديمة، وحتّى عصر النهضة الكيميائيّة في منتصف القرن الثامن عشر، عندما تمّ اكتشاف المزيد من العناصر تباعًا بما في ذلك الأكسجين، النيتروجين والكلور.

عندما قام الكيميائيّ الفرنسيّ أنطوان لافوازييه بتجميع القائمة المحدّثة للعناصر في سنة 1789م، تضمّنت حينها 33 مادةً - أكثر من ضعفي عدد العناصر التي كانت معروفة قبل يوبيل من ذلك الوقت. في غضون بضعة عقود، تضاعفت القائمة مرّة أخرى، وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، تضمّنت عندها حوالي 60 عنصرًا مختلفًا.

على الرغم من الوتيرة المذهلة للاكتشافات، كانت هناك فوضى عارمة في علم الكيمياء. لم يفهم الكيميائيّون معنى "العنصر"، ورفض معظمهم فكرة أنَّ المادة مكوّنة من ذرّات. مع ذلك، فإنَّ المعرفة المتراكمة حول العناصر المختلفة وخصائصها كانت كبيرة بالفعل، لدرجة كانت هناك حاجة لشخص ما لترتيبها. شخص يجد المنطق الذي يُمكِّن فهم الروابط بين العناصر المختلفة، ربما أيضًا لفهم جوهر المواد نفسها.

حاول العديد من العلماء إيجاد طريقة منطقيّة لتنظيم قائمة العناصر بطريقة تعبّر عن خصائصها المختلفة. طوَّر ما لا يقل عن ستّة باحثين ترتيبات مختلفة تتوافق إلى حدّ ما، مع المبادئ التي تكمُن وراء تصنيف المواد حاليًّا. لكن مع تلاشي "ضباب المعركة" لهذا الإنجاز العلميّ، برز باحث واحد ووحيد من بين الجميع، والذي يرتبط اسمه اليوم تقريبًا بشكلٍ حصريّ بجدول المربّعات المعروف، لكلّ من أنهى مرحلة الدراسة الإعداديّة - الجدول الدوريّ للعناصر.

ההיגיון שמאפשר להבין את הקשרים בין החומרים השונים ואת מהות החומרים עצמם. הטבלה המחזורית | מקור: Shutterstock
المنطق الذي يجعل من الممكن فهم الروابط بين المواد المختلفة وجوهر المواد نفسها. الجدول الدوري | المصدر: Shutterstock
 

طالب متميّز

ولد ديميتري إيفانوفيتش مندلييف، بالروسيّة (Дми́трий Ива́нович Менделе́ев)، في 8 شباط 1834م في قرية صغيرة بالقرب من بلدة توبولسك في سيبيريا. كان الابن الأصغر من بين 14 ابنًا لمدير مدرسة محليّة، لكن عندما كان طفلًا فقد والده بصره، ولم يتمكّن من مواصلة عمله. تحمّلت الأم، ماريا، مسؤوليّة إعالة الأسرة، وأعادت فتح مصنع زجاج كان تابعًا لعائلتها. في الـ13 من عمره، توفّي والده، وبعد بضعة أشهر احترق المصنع. قرّرت ماريا ديمتريفنا، التي كان معظم أطفالها الكبار مستقلين، تعليق آمالها على مواهب الابن الأصغر، ومنحه تعليمًا جيدًا قدر الإمكان.

انطلقت الأم وابنها على ظهور الخيل في رحلة تمتدّ لآلاف الأميال غربًا، عبر جبال الأورال، وصولًا إلى موسكو. رفضت جامعة موسكو المرموقة قبول مندلييف للدراسة، بادّعاء أنّه لم يكن من سكّان المدينة. تابع الاثنان السفر لبضعة مئات الكيلومترات الإضافية إلى سانت بطرسبرغ، عاصمة روسيا في تلك الأيام. هناك أيضًا لم يُقبَل في الجامعة بادّعاء أنّه قرويًّا من سيبيريا، ويفتقر إلى الإمكانيات. لم تستسلم أمه، وتمكّنت في نهاية المطاف من تسجيله في معهد للمعلمين، حيث درس والده من قبل. بعد أسابيع قليلة توفّت أمّه، وبقي ديمتري لوحده، يعمل على تحقيق أمنية والدته بالنجاح في الدراسة.

كان مندلييف بالفعل طالبًا متميّزًا، وخلال تعليمه للشهادة التدريسيّة شارك في أبحاث في مجال الكيمياء وبدأ في نشر المقالات، على الرغم من إصابته بالسُّلّ أثناء دراسته. عندما حصل على درجة البكالوريوس، ذهب للعمل في شبه جزيرة القرم، على أمل أن يساعده المناخ الأكثر راحة على التعافي. بعد عام تمّ قبوله لنيل درجة الماجستير، هذه المرّة في جامعة سانت بطرسبرغ، وفي سنة 1856م أكمل شهادته. بدأ العمل في الجامعة، وبعد عامين فاز بمنحة دراسيّة سمحت له بالدراسة في باريس وهايدلبرغ بألمانيا، حيث عمل لدى الكيميائي الشهير روبرت بنزن (Robert Bunsen) ومن ضمن الأمور، تخصّص في التحليل الطيّفي (Spectroscopy) - بحيث أعتبر مجالًا حديثًا نسبيًا الذي مكن من اكتشاف عناصر مختلفة وفق طابعها في ابتلاع أو بعثرة  الضوء الساقط عليها. عندما عاد إلى سانت بطرسبرغ سنة 1861م، تمّ تعيينه محاضرًا في الكيمياء في معهد المعلمين. كان قلقًا من مستوى تعليم الكيمياء في روسيا، مقارنة بما رآه في ألمانيا، وأيضًا بسبب عدم توفّر كتب مدرسيّة جيّدة باللغة الروسيّة. في سن الـ27 قام بتأليف كتاب مدرسيّ شامل في الكيمياء خلال شهرين. حاز الكتاب على جوائز، ومنح مندلييف اعترافًا من قبل المجتمع العلمي في بلاده. تمّ تعيينه أستاذًا في جامعة سانت بطرسبرغ، وفي سنّ 33 عامًا كان قد ترأس بالفعل قسم الكيمياء في مؤسّسة رفضت قبوله للدراسات قبل أقلّ من عقدين من الزمن.
 

أحلام تتحقّق

تزامن مع كتابته كتاب آخر مهم بعنوان "مبادئ الكيمياء"، بدأ مندلييف في الانشغال بمسألة ترتيب العناصر الكيميائيّة. أثناء وجوده في هايدلبرغ، التقى بالكيميائيّ الإيطالي ستانيسلاو كانيزارو (Stanislao Cannizzaro)، الذي نشر في سنة 1860م قائمة الأوزان الذرّيّة للعناصر، نسبة لوزن الهيدروجين. بعد ذلك، وجد بعض العلماء أنَّ هناك دوريّة في الأوزان الذرّيّة للعناصر، بل واكتشفوا صلة بين هذه الدوريّة وبعض خصائص العناصر.

كان من بين العلماء الذين اكتشفوا هذا الأمر بشكلٍ مستقلّ، عالم طبقات الأرض الفرنسيّ الكسندر دى تشانكورتوا  (Chancourtois) والكيميائيّ الإنجليزيّ جون نيولاندز (Newlands). تمّ تجاهل عمل تشانكورتوا بشكلٍ تامّ، لأنّه على ما يبدو لم ينجح في شرح أفكاره بوضوح. كان لا يزال محظوظًا مقارنةً بنيولاندز، الذي تمّ التعامل مع أفكاره بسخرية، ورفضت الجمعيّة العلميّة الرائدة في عصره، "الجمعيّة الملكيّة"، نشر أبحاثه. حاول كلّ من الإنجليزيّ ويليام غولدنغ (Odling) والأمريكيّ غوستاف هنريتشز (Hinrichs) تطوير الترتيبات الأساسيّة وفقًا لمبادئ مماثلة، لكنّهما لم يتمكنّا من فك الترتيب الدقيق. الشخص الذي طوّر ترتيبًا ناجحًا كان الكيميائي الألمانيّ لوثر ماير (Meyer)، لكن كما اعترف هو نفسه، فهو لم يجرؤ على نشر عمله خوفًا من السخرية منه.

بخلاف بعض من سبقه، كان مندلييف كيميائيًا ذا خبرة كبيرة جدًّا في العمل المخبريّ، وكان ملمًّا بمعظم العناصر، وليس فقط من الكتب التعليميّة، ممّا منحه معرفة قويّة جدًّا بخصائصها. في محاولته للملائمة بين الوزن الذرّيّ والخصائص الأوّليّة بسهولة أكبر، جهّز نوعًا من البطاقات، التي سجل على كلّ منها تفاصيل أحد العناصر الـ 63 التي كانت معروفة في ذلك الوقت. اعتاد مندليف اللعب بأوراقه لعبة تشبه "السوليتير"، محاولًا ترتيبها بشكلٍ منطقي. ذات ليلة نام على الطاولة أثناء اللعب. كتب لاحقًا: "رأيت في حلمي طاولة وكان كلّ عنصر في مكانه الصحيح، عندما استيقظت، كتبت الأشياء على الفور".

لتحقيق الحلم، أدرك مندلييف أنّه يتعيّن عليه إجراء بعض التغييرات على الترتيب، على الرغم من رفض علماء آخرين الفكرة تمامًا. استبدل، على سبيل المثال، أماكن التيلوريوم واليود. على الرغم من أنَّ التيلوريوم أثقل قليلاً، فقد قرّر وضع اليود في مكانه، أسفل البروم مباشرةً، والذي يشبه اليود في بعض الميزات.

لإكمال الترتيب وفقًا لهذا المبدأ، الخصائص المتشابهة، اضطرّ مندلييف إلى ترك أماكن فارغة في الجدول. تجرّأ على الادّعاء بأنَّ العناصر المناسبة لهذه الأماكن سيتمّ اكتشافها لاحقًا، حتّى أنّه توقّع خصائصها الكيميائيّة وأعطاها أسماء مثل تحت-السيليكون وتحت-الألمنيوم، بناءً على كلمة سنسكريتيّة تعني "ما بعد". في غضون بضع سنوات، تمّ اكتشاف العناصر المفقودة بالفعل، مع الخصائص التي تنبّأ بها مندلييف، بما في ذلك الجاليوم (تحت-الألومنيوم) والجيرمانيوم (تحت- سيليكون). في السنوات التالية، تمّ اكتشاف المزيد من العناصر، وتمّ وضعها جميعًا بنجاح في هذا الجدول، حتّى العناصر الاصطناعيّة التي لم تكن موجودة على الإطلاق في القرن التاسع عشر.


جدول مندلييف من سنة 1869م. قام بنشر النسخة المعروفة لدينا بعد ذلك بعامين. أعلاه: مندلييف نفسه | الصور: مكتبة صور العلوم Science Photo Library

نشر مندليف جدوله الدوري سنة 1869م. كما هو الحال مع أيّ ابتكار جديد، تعامل المجتمع العلميّ مع إنجازه بريبة وشكوك، في غضون بضع سنوات، اكتسب الجدول ومخترعه اعترافًا كاسحًا. طغى هذا الاكتشاف على مساهماته الأخرى في الكيمياء، مثل البحث في الأسمدة، الوقود والمتفجّرات، بالإضافة إلى دراسة الخصائص الفيزيائيّة للمواد المختلفة وحالاتها.

اكتسب مندليف مكانةً رفيعةً في المجتمع العلميّ في روسيا. كانت مكانته قويّة لدرجة كبيرة، حتّى أنَّ الأسطورة تروي إنّه عندما طلق زوجته، ولم يرغب في الانتظار بضع سنوات حتّى يتزوّج بأخرى، وفق قوانين الكنيسة، رشى كاهنًا ليزوّجه على الفور. عندما تمّ اكتشاف الأمر وفصل الكاهن، قال القيصر للموظّف الذي قدّم الشكوى  "صحيح أنَّ لمندلييف زوجتان، لكن لديّ مندلييف واحدة فقط". وسواء كانت القصّة صحيحة أم لا، فقد أُجبر في عام 1891 على الاستقالة بسبب دعمه السياسيّ للجماعات الطلابيّة المتطرّفة.

بعد بضع سنوات، سطع نجمه مرّة أخرى، وتمّ تعيينه رئيسًا لمكتب الأوزان والمقاييس - وهو أحد أنواع معاهد المعايير. أسّس مندلييف أيضًا الجمعيّة الكيميائيّة الروسيّة، وشجّع على استخدام النظام المتريّ في البلاد. حاز على العديد من الجوائز العلميّة، لكنّه لم يحظى بأهمّ جائزة على الإطلاق. في عامي 1905 و 1906 كان مرشحًا لجائزة نوبل، لكنّه خسر بفارق صوت واحد. لم يترشّح مرّة أخرى. في 2 شباط عام 1907 توفّي بسبب الأنفلونزا، قبل أيّام قليلة من عيد ميلاده الثالث والسبعين. في النهاية حصل على شرف أكبر - تمّ تسمية العنصر رقم 101 على أسمه، مندليفيوم (Mendelevium)، وبالتالي تمّ تخليده في الجدول الدوريّ الذي طوّره هو بنفسه.

 

0 تعليقات