أكثر من سبع مئة وأربعة وستّين عامًا مضت على خراب بيت الحكمة الذي كان رمزًا لِذروة الازدهار العلميّ في بغداد في عصر الإسلام الذَهبيّ
سقطت الخلافة العبّاسيّة في بغداد في نهاية كانون الثاني من سنة 1258 للميلاد، بعد قرونٍ من الازدهار، وبعد التّدهور المستمرّ في الوضع السّياسيّ والعسكريّ. حاصرت القواتُ المغوليّة بقيادة هولاكو خان مدينة بغداد، ورفض الخليفة المستعصم الاستسلام، معتقدًا أنّ بغداد، ذات الثّقافة العريقة، لن تسقط أبدًا.
اخترق المغول أسوار بغداد في العاشر من شباط بعد حصارٍ قصير، وركلوا الخليفة وقتلوا أبناءَه أو سبَوْهم باستثناء واحد منهم فرَّ إلى مصر.
دمّر المغول بعد ذلك جميع المكتبات والمؤسّسات التّعليميّة المرموقة وغيرها من المؤّسسات الثّقافيّة، رمز عظمة الخلافة في بغداد، وذبحوا سكان المدينة. لقي بيت الحكمة، الذي كان -أكثر من أي شيء آخر- رمزًا لعصر الإسلام الذّهبيّ مصيرَ الهدم والتّدمير هو الآخر.
لم يستَعِدِ العالم الإسلاميّ منذ ذلك الحين أمجاده العلميّة والثّقافيّة، في الفترة التي كانت فيها بغداد رأسَ الحربة في مجال المعرفة والتعلُّم على نطاق عالميّ. ازدهرت، تحت جناح الخلفاء العباسيّين، العلوم الرياضيّة والفلك والطّبّ والجغرافيا، وحتّى البراعم الأولى من العلوم البيولوجيّة. وُلد علم الجبر وتُرجمت آلاف الكتب من اليونانيّة واللاتينيّة والسنسكريتيّة والفارسيّة والآراميّة والعبريّة ولغات أخرى، ونشَأ الفنّ الرّفيع. ضاع الكثير من هذه المعرفة مع دمار بغداد، وتمّ استيعاب القليل منه مجدّدًا في عصر النّهضة في أوروبا عندما بدأ العالم المسيحيّ، أخيرًا، يسدِّ فجوة تخلُّفه المستمرّ وراء الإسلام ويطوّر العلوم الحديثة والمتقدّمة.
بداية الطريق
شجّعَ الخلفاء الأمويّون في القرون الأولى من نشأة الخلافة الإسلاميّة الكبرى أعمالَ ترجمة الأدب الكلاسيكيّ، من المصادر اليونانيّة والهنديّة والفارسيّة وحتّى الصّينيّة، وأنشأوا مجموعاتٍ رائعة من الكتب والمعرفة من شتّى أنحاء العالم الثقافيّ. حظي حبّ المطالعة والتّعلّم بالتّقدير، وأخذت المعرفة القديمة بالاتّساع والتّطوّر. ازدهرت الخلافة الإسلاميّة في فترة هارون الرشيد وبني العبّاس في أواخر القرن الثّامن الميلاديّ، فيما يُعتبر بداية عصر الإسلام الذّهبيّ. استُثمرت الضّرائب التي تدفّقت من شتّى أرجاء العالم الإسلاميّ بصورة حكيمة وغير مسبوقة، في تطوير الفنون والهندسة المعماريّة والعلوم والفكر الدينيّ. كان إنشاء المكتبة الكبيرة، التي سُمّيت فيما بعد بيت الحكمة، ذروة مشاريع هارون الرشيد الثقافية. اتّسعت هذه المكتبة في عصر خلافة المأمون، نجل هارون الرشيد، وأصبحت مركزًا عامًّا للمطالعة والتّفكير والمعرفة. أصبح بيت الحكمة، بتشجيع الخليفة المأمون، مركزًا يرتاده العلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي. استضاف بيت الحكمة، بروح التّسامح الدينيّ الذي ساد آنذاك، العديد من اليهود والمسيحيّين النسطوريّين الذين أسهموا بما لديهم من المعرفة والثقافة، خاصّةً ترجمة الكتابات الكلاسيكيّة من لغات بلاد ما بين النّهرين والشرق القديم إلى العربيّة. أصبح بيت الحكمة في أواسط القرن التّاسع الميلاديّ أكبر مكتبة وأكثرها تنوعًا، وأكبر وأهم مراكز الثقافة والعلوم في العالم.
عاش المثقّفون والعلماء حياة رغيدة بفضل التمويل الحكوميّ السّخيّ الذي حظي به بيت الحكمة، إلى جانب التبرعات الكثيرة من التجار والعسكريين. شكّل بيت الحكمة في تلك الأيام جزءًا لا يتجزأ من حياة الخلفاء اليومية، وهو ما أتاح للكثير من المتعلمين والمثقفين العمل كموظفين أو كمهندسين معماريين لدى الخلفاء العباسيين وتقاضي الأجر وكسب الرزق. اشترك الخليفة المأمون بشكل فعّال في النشاط الثقافي الذي شهده بيتُ الحكمة، وبادر إلى عقد اجتماعات للعلماء والمثقفين في سبيل المشاريع الفكرية الهامة مثل رسم خريطة العالم، ودراسة واستكشاف الحجم الحقيقي للعالم، ودراسة واستكشاف الأهرام في مصر.
المعرفة في شتّى المجالات. طبيب يتعلم الجراحة. رسم توضيحي من مخطوطة تركية من القرن الخامس عشر | المصدر: ويكيبيديا، متاح للجميع
من قِمّةٍ إلى قِمَّة
كانت الإنجازات الفكريّة هائلة، وهي التي منحت الإنسانيّة الحرّيّة العلميّة وأجواء المطالعة واستقاء العلوم في بيت الحكمة. أُنجزت في بيت الحكمة أعمالٌ أصليّة كثيرة جنبًا إلى جنب مع الأعمال الضخمة، التي تمثّلت في الحفاظ على الكتابات الكلاسيكيّة التي ضاع جزءًا منها على مرّ السّنين، ولم تبق غير نسخها العربية. كان محمّد بن موسى الخوارزمي، عالِم الرياضيات المسلم فارسيّ الأصل، من أبرز الشّخصيات في ذلك الوقت. أعاد الخوارزميّ ابتكار فكرة الخوارزمية يونانيّة الأصل (ألجوريتم - مفهوم تَشَكّل من تحريف غربيّ لاسم الخوارزميّ) وطوّر أسس علم الجبر (الذي اكتسب اسمه من عنوان كتابه الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة). وكان الخوارزميّ من أوائل من اعتمدوا طريقة الأعداد العشريّة الهندية، التي ما زلنا نستخدمها حتّى اليوم.
دأب علماء بيت الحكمة على مرّ قرونٍ عدّة، على تطوير علم الجغرافيا ورسم الخرائط والعلوم الفلكيّة. مهّدت الخرائطُ، التي أُعدّت بمساعدة البحّارة المسلمين، جنبًا إلى جنب مع أدوات الملاحة مثل الأسطرلاب الذي أعادوا تطويره على أساس من المعرفة اليونانية، الطريقَ لبدءِ عصر المستكشفين الأوروبّيّين الكبار مع بداية القرن الرابع عشر الميلاديّ.
عمل العلماء في بيت الحكمة في الفيزياء والكيمياء والبصريات والفلك والتنجيم - الذي اعتُبر أحد العلوم آنذاك. طوّر الأخوة الثّلاثة محمد وأحمد وحسن موسى، الملقّبون ببني موسى، في القرن التّاسع الميلاديّ أدوات قياس وأجهزة متطوّرة أخرى، ودفعوا بالهندسة والحساب إلى الأمام. بنى المأمون قبل ذلك، في سنة 829 للميلاد، مرصدًا كبيرًا للنّجوم استخدمه علماء بيت الحكمة في تحديث نموذج بطليموس الفلكي القديم.
هناك من يعتبر هذا الجهد الأكاديميّ المشترك لعلماء الفلك واحدًا من أول المشاريع البحثيّة الكبرى بتمويل من الدّولة عبر التّاريخ. توقّف ازدهار بيت الحكمة في منتصف القرن التاسع الميلاديّ، تحت ولاية الخليفة المتوكّل الأوّل. لم يُبدِ المتوكّل محبّةً للعلوم والفنون، بل اعتبر سعي المثقفين والعلماء المتلهف نحو الثقافة اليونانيّة كُفرًا بالإسلام. استمرّ العمل في بيت الحكمة منذ ذلك الحين حتّى الغزو المغوليّ، وظلّ بيت الحكمة مركز الفكر والعلوم، إلّا أنّه لم يسترجع ذروته التي بلغها في القرن التّاسع الميلاديّ. أقيمت في ذلك الوقت مراكز أخرى خارج الإمبراطوريّة العبّاسيّة أو في أكنافها، في القاهرة والأندلس، حتّى الاحتلال المسيحيّ والفارسيّ، وحكم الإمبراطوريّة العثمانيّة فيما بعد.
كان سقوط بغداد في أيدي المغول وتدمير بيت الحكمة نهاية حقبة من الازدهار الفكريّ والعلميّ، والعسكريّ والاقتصاديّ لِلإمبراطوريّات الإسلاميّة، امتدّت على فترة بلغت قرونًا عِدّة من الزمن. يَعتبر العالَم الإسلاميّ هذا الحدث نهاية حقبة، بالرّغم من أنّ بعض المراكز الثقافيّة الأخرى واصلت وجودها بعد هذه الفترة. انتقلت الهيمنة العسكريّة والسياسيّة والعلميّة غربًا بشكل تدريجيّ، إلى القوى الأوروبيّة الناشئة، التي اعتمدت إنجازات العلوم الإسلاميّة، ودأبت على تعزيزها وتطويرها. أمّا المسلمون فقد غرقوا في النّزاعات الداخليّة الانفصاليّة والحروب الأهليّة والتّشرذم، وأهملوا السّعي وراء المعرفة إهمالًا كبيرًا، ذلك السّعي الذي قادهم نحو الإنجازات العظيمة في العصور الوسطى.