يستحيل الحديث عن الفكر الرّياضيّ في أيّامنا دون التّطرّق إلى المساهمة الفريدة من نوعها الّتي قام بها محمد الخوارزميّ في القرن التّاسع للميلاد.
وُلِد أبوعبدالله محمّد بن موسى خوارزمی في نهاية القرن الثّامن ميلاديًّا في مدينة خوارزم الواقعة في آسيا الوسطى. أُشتهر تاريخيًّا في كنية "الخوارزمي" نسبةً لمسقط رأسه - مدينة الخوارزم. خلال أعوام حياته السّبعين أصبح أحد أعظم علماء الرياضيّات. ليس فقط في بلده وزمانه فحسب، بل صار اسم عَلمٍ يُشار إليه بالبنان عبر التّاريخ.
وُلِد الخوارزميّ وعاش بعد فترة وجيزة من انتهاء الحكّام المسلمين الأوائل، حيث نجحوا في غضون 200 عام من فتح مساحات شاسعة امتدّت من شمال الهند، بلاد الرّافدين والشّرق الأوسط، عبر شمال أفريقيا وصولًا إلى معظم إسبانيا. في القرن الثّامن، تأسّست مدينة بغداد، الّتي تحوّلت لاحقًا إلى عاصمة هذه الإمبراطوريّة العظيمة والّتي أُعتبرت في حينه أكبر المدن وأكثرها تطوّرًا خارج الصين. غدت بغداد مركزًا ثقافيًّا حصريًّا لكلّ الفضاء الإسلاميّ، حيث لم يكن هذا أمرًا سهلًا. إضافة إلى مساحة البلد الضخمة، نجحت في استبدال الثّراء الثّقافيّ الّذي سيطر آنذاك - فقد شهدت البلدان الّتي كانت تحت سيطرة الإسلام ثقافات عديدة منها بابل ومصر القديمة، وحتّى جزء من العالم الهلنستيّ القديم.
في القرن التّاسع، كانت الإمبراطوريّة الإسلاميّة في فترة الخلفاء الأوائل من الخلافة العبّاسيّة في أوج ازدهارها وقوّتها. أسّس الخليفة المأمون "بيت الحكمة" في مدينة بغداد فغدت دارًا للعلوم، وضمّت في داخلها معهدًّا ضخمًا للتّعلّم ومجمع لمؤلفات المعرفة القديمة الّتي جُمِعَت من جميع أنحاء الإمبراطوريّة وتُرجمت إلى العربية. درّة التّاج الإنسانيّة عبارة عن مجموعة مقالات عديدة في الرّياضيات. أثار مشروع المأمون باقية حتّى يومنا هذا، معظم ما صمد ونجح في الوصول إلينا من مؤلّفات في الرّياضيات اليونانيّة وصلت بفضل ترجمتها إلى العربيّة.
توافد العلماء إلى بيت الحكمة من كلّ أنحاء العالم الإسلاميّ ومن خارجه. فكان من بينهم الخوارزمي. حيث أمضى فيه معظم سنوات حياته، محاطًا بمعرفة القدماء المترجمة الآن إلى لغته. وفي وسط كلّ هذه الثّروة الثّقافيّة شقَّ طريقًا جديدة في علوم الرياضيات لم يخطها قبله أحدٌ.
الثروة الفكرية كركيزة للنمو. العلماء يقرأون كتبا في بيت الحكمة ، القرن الثالث عشر | المصدر: ويكيبيديا ، المجال العام أبو الجبر
أسهم الخوارزميّ في علوم عديدة، الحساب (دراسة الأعداد)، علم المثلّثات، علم الفلك ومجالات متعدّدة ومتنوّعة أخرى في علوم رياضيات. كانت ذروة انجازاته، مقالة نموذجيّة وعبقريّة، والّتي بفضلها لُقِّبَ "أبو الجبر": الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة (الكتاب المختصر لحساب الاستعادة/التّعويض/الإكمال والمقابلة/الموازنة).
في مقدّمة المقال، بعد كلمات الشّكر للخليفة، أوضح أنّه كتاب عمليّ، يهدف إلى المساعدة في إيجاد حلول للمشكلات الرّياضيّة وإجراء عمليّات حسابيّة. الإكمال والموازنة المذكورة في العنوان ليست إلّا عمليتي نقل الأطراف واختزال القيمة في المعادلات. اعتُبر الخوارزميّ من أوّل من شرحها بشكل عامّ ومنهجيّ.
ركز الكتاب بشكل أساسيّ على إيجاد حلول المعادلات التّربيعيّة. على سبيل المثال: "جذر تربيع واثنا عشر جذرًا يساوي 28 عددًا". ما المقصود؟ على الرّغم من اختصاص الكتاب في المعادلات الحسابيّة إلّا أنّه مكتوب كاملًا بالكلمات. لم تتوفّر للخوارزميّ شكل الكتابة الحسابيّة السّهلة المتوفّرة لدينا اليوم، على الرّغم من توفّر أساسيّاتها في كتابات سابقة لعهده، إلّا أنّه على ما يبدو لم يكن مطَّلعًا عليها. على أيّة حال، طريقة كتابة المعادلات المألوفة اليوم تشكّلت في عصور لاحقة.
لكي نفهم مقصد الخوارزميّ بشكل أوضح، سنقوم بترجمة كلامه: مربّع العدد (تربيع) - هو المجهول للقوى اثنين. "الجذور" هي العدد x، جذر التّربيع أي x2 . أمّا الأرقام فهي مجرّد أرقام عاديّة. لذلك، "جذر تربيع واثنا عشر جذرًا يساوي 28 عددًا" ليست إلّا المعادلة الحسابيّة التّالية:
x2+12x=28
ماذا نفعل؟ الخوارزمي يقدم شرحًا:
-
قسّم ال-12 عددًا إلى 4، ستحصل على 3 أعداد.
-
اضرب ال3- أعداد في 3 أعداد، ستحصل على 9 أعداد.
-
اضرب 9 في 4، ستحصل على 36 عددًا.
-
أضف إلى ال-36، 28 عددًا من العمليّة الأصليّة، وستحصل على 64.
-
احسب جذر ال64، ستحصل على 8
-
قم بطرح نصف الجذور (أي المجاهيل x - في حالتنا العدد 12) من العدد 8، أي 8 ناقص 6 سنحصل على 2.
هذا هو الجواب.
x=2 وهو حلّ هذه المعادلة. قبل ظهور نظريّات الخوارزميّ نجحوا في حلّ هذه المعادلات فقط في حالات معيّنة وسهلة بشكل خاصّ. لاحقًا، في عهد الخوارزميّ تغيّرت الأمور، قدّم منهجًا عامًّا يصلح من خلاله التّعامل مع أيّ رقم نضعه في المعادلة.
وهذا صحيح، لأنّ الخوارزميّ لم يكتف في عرض طريقة الحلّ فقط، إنّما قدّم شروحات هندسيّة مذهلة لذلك. أمعنوا النظر
وفق المعادلة المعطاة لدينا x2+12x=28، فإنّ طول ضلع المربّع الأخضر الظّاهر في مركز الصّورة هو x، بالتّالي مساحته تربيع ال-x، أي x2 .
مساحة كلّ مستطيل أزرق تساوي 3x، لذلك مجموع مساحات المستطيلات الأربعة هي بالضّبط 12x. لذا فإنّ مجموع مساحتي الأشكال الهندسيّة، الأخضر والأزرق يساويان معًا 28.
نضيف إلى ذلك مساحة المربّعات الأربعة الحمراء، مساحة كلّ واحد منهما هو 9، لذا مجموع الأربعة معًا يساوي 36. في المحصّلة حصلنا على العمليّة الحسابيّة التّالية، 28+36 = 64 وهي مساحة المربّع الكبير الكلية.
من خلال هذه العمليّة يمكن حساب طول ضلع المربّع الكبير. فإنّ مساحته تساوي 64، إذًا طول ضلعه يجب أن يكون مساويًا ل-8. لكي نجد قيمة ال-x، تبقّت لدينا القيام بطرح طول ضلع المربّع الأحمر (أي 3) مرتين (أي 6)، من طول ضلع المربّع الكبير (أي 8)، ممّا يعني 8-6 وسنحصل على 2.
كلّ الخطوات الموصوفة في معادلات الخوارزميّ قائمة بناءً على اعتبارات ومقادير هندسيّة.
مقال مبتكر مصمم للمساعدة في العمليات الحسابية وحل المشكلات. صفحة من "كتاب الجبر" الكتاب المختار في حساب الجبر والمقابلة | المصدر: ويكيبيديا ، المجال العام
من الجبر إلى الألغوريتم
المعروف في أيّامنا، إنّ هناك معادلة عامّة لحلّ المعادلات التّربيعيّة المعروفة باسم صيغة الجذور. لم ينجح الخوارزميّ في توحيد كلّ المعادلات التّربيعيّة معًا، لأنّ في عهده لم يكن معروفًا سوى الأعداد الإيجابيّة. لذلك اضطرّ إلى تقسيم المعادلات التّربيعيّة إلى 6 أنواع، و قدّم لكلّ نوع قائمة خطوات واضحة ومنظّمة للمساعدة في عمليّة الحلّ. ألغوريتم حقيقيّ!
إنّ التّشابه بين لفظ ألغوريتم واسم عالم الرّياضيات "الخوارزميّ" مثير للدّهشة. في الحقيقة إنّها ليست مصادفة. لفظ "ألغوريتم" المعروف في أيّامنا والّذي يصف عمليّة منظّمة تشمل خطوات لحلّ مشكلة حسابيّة، ليس إلّا لفظ مغلوط تمّ اشتقاقه من اسم الخوارزميّ، تغيّر نتيجة عمليّة نسخ إشكاليّة للّغات الأوروبيّة الّتي قام بها الخوارزميّ. كما هو معروف فإنّ حرف "الخاء" مفقود لدى لغات أوروبيّة عديدة، لذلك استبدل بحرف "الغين"، وهكذا التصق اسم "الخوارزميّ" بالعمليّة الحسابيّة المعروفة لدينا اليوم والّتي قام في تطويرها بذاته.
إضافة إلى نسب لفظ "ألغوريتم" إلى اسم الخوارزميّ، اشتقَّ مصطلح "الجبر" المعروف من مصطلح "الجابر" المشتقّ أساسًا من كتاب "الجبر والمقابلة"، والّذي هو في الحقيقة اسم آخر لعمليتي "التّعويض والموازنة" الموجودات في صلب كتابه.
يُعتبر الخوارزميّ أبا الجبر بفضل مساهمته الجوهريّة. جوهر الجبر يتجلّى في عمليّة التّبسيط، حيث يقوم الكتاب على مبدأ التّقسيم إلى أنواع ونماذج، ممّا يُسهّل استعمال جمل بسيطة وقابلة للقراءة. هذه الإسهامات هي غير مسبوقة في تاريخ الرّياضيات، ويمكن اعتبارها خطوة ثوريّة حقيقيّة مقارنةً مع الرّياضيات اليونانيّة الّتي تخصّصت غالبًا في الهندسة.
كان الخوارزميّ أوّل من استعمل "النماذج الجبريّة" العامّة، مثل: المعادلة، المتغيّر وغيره. تطرّق إلى أنواع عامّة من المسائل مقارنة بالسّابق، حيث تلخَّصت الإشكالات آنذاك في "مسائل وحلول"، ممَّا سهَّل تحويلها إلى موضوعات مبسَّطة بحدِّ ذاتها، تمَّ الانشغال بها وبحثها أكثر. في أيّامنا نحن نعتبر هذه العمليّات الحسابيّة أمرًا مفهومًا ضمنيًّا، لكنّ حتّى مجيء الخوارزمي لم يكن ذلك أمرًا سهلًا. لم تكن المعادلة ذريعة من ناحيته لعدم الانشغال بمسائل الأرقام، إنّما تحوّلت بحدّ ذاتها إلى هدف للبحث الرّياضيّ.
خطوة الخوارزميّ الأولى في عالم الجبر تبعتها خطوات عديدة قام بها ثلّة من علماء الجبر، الّذين زادت دراستهم لموضوع المعادلة وانتقلوا بها إلى مستويات أخرى من التّعقيد. لاحقًا توسّعت الرّؤية وطوّر العلماء نماذج جبريّة إضافيّة، أكثر عموميّة وتجريديّة، حيث دفعت علوم الرّياضيات نحو التّحليق إلى آفاق جديدة. لكن علينا التّذكّر دائمًا، إنّ بداية كلّ شيء كانت في بيت الحكمة في مدينة بغداد.