بمناسبة "اليوم العالميّ للشّيخوخة" الّذي يحلّ علينا هذا الشّهر، سنتحدّث عن حيثيات مادّة اكتُشِفت في عيّنة من تربة جزيرة غامضة، في قلب المحيط الهادئ، وأصبحت دواءً رائدًا لرفض الأعضاء لدى زارِعي الأعضاء، والّتي قد تكون لها استخدامات مستقبليّة في مجال مكافحة الشّيخوخة

تعتبر جزيرة الفصح في جنوب شرق المحيط الهادئ أكثر المستوطنات عزلةً في العالم. وقد تمكَّن المستوطنون الأصليِّون، وهم البولينيزيّون الّذين وصلوا إلى الجزيرة منذ حواليْ ألف عام، من إدارة ثقافة مزدهرة هناك، والّتي كانت تسمى في لغتهم "رابا نوي" (Rapa Nui)، حتّى وصول الأوروبّيّين في القرن الثّامن عشر. وفي وقت لاحق، أصبحت الجزيرة محميّة تشيلية، وما تزال كذلك حتّى اليوم. إنّها جزيرة مليئة بالغموض التّاريخيّ والأثريّ، ويعود الفضل في ذلك إلى تماثيل مواي (Moai) الضّخمة، المألوفة لدى من شاهد أفلام "ليلة مجنونة في المتحف"، إلى نظام الكتابة الّذي استخدمه سكّان الجزيرة منذ أجيال، نصّ هيروغليفي غير مفكك يُسمّى Rongo-Rongo. معلومة أقلّ شهرةً هو أنَّ تربة هذه الجزيرة هي مصدر أحد الأدوية الرّائعة لدينا.


أعطتنا الجزيرة المشهورة بمنحوتاتِها العملاقة مصدر دواء الرّاباميسين. تماثيل مواي في جَزيرة الفصح | Shutterstock, Alberto Loyo

وفدٌ إلى جزيرة الفصح

تبدأ قصّتنا منذ وقت ليس ببعيد، على الأقلّ من النّاحية التّاريخيّة لجزيرة الفصح. يصل في عام 196 وفد طبيّ من كندا، بقيادة باحث السّرطان ستانلي سكورينا (Skoryna)، وعالم الأحياء الدقيقة جورج نوجرادي (Nogrady) إلى الجزيرة. في ذلك الوقت، بدأت الحكومة التّشيلية ببناء مطار على الجزيرة، وأراد الوفد التّحقيق في كيفيّة تأثير التّعرّض للعالم الخارجيّ على السّكّان المعزولين. لذلك، سعى الباحثون إلى توثيق الكائنات الحيّة الدّقيقة الموجودة في الموقع، بالإضافة إلى الخصائص الجينيّة لألف من سكّان الجزيرة وعاداتهم وثقافتهم. في المقابل، كان هناك أيضًا خوف كبير من أن يؤدي تطوير الجزيرة إلى الإضرار بالعجائب الطّبيعيّة للمكان.

واحد من أهمّ الأسئلة الّتي واجهت الباحثين: كيف يمكن لسكّان الجزيرة أن يتجوّلون حفاةً دون إزعاج ولا يصابون بالتّيتانوس؟ التّيتانوس (بالعربية الكزّاز) هو مرض تسبّبه مادّة سامّة تفرزها بكتيريا Clostridium tetani المطثيّة الكزازيّة، وتصيب الجهاز العصبيّ. تظهر في البداية أعراض تقلّصات طفيفة في عضلات الفكّ والوجه، تليها صعوبات في البلع وتشنّجات مستمرّة في عضلات أخرى في الجسم، مثل عضلات البطن والظّهر.

قد تحدث العدوى بالبكتيريا من خلال إصابة، مثل جرح أو طعنة عميقة، ويمكن الوقاية منها من خلال التّطعيم بلقاح مناسب وعلاج وقائيّ بعد التّعرّض. قد تحدث عدوى الكزّاز عند ملامسة المواد الملوّثة بالبكتيريا، مثلًا، التّربة الزّراعيّة أو براز الحيوانات مثل الخيول. كانت الخيول شائعة جدًّا في الجزيرة.


تمكّنت أحد أنواع البكتيريا الموجودة في العيّنات الّتي جمعتها البعثة من قتل الفطريّات وكذلك تأخير تكاثر الخلايا. البكتيريا العقديّة المسترطبة Streptomyces hygroscopicus بالمجهر الإلكترونيّ |  Dennis Kunkel Microscopy / Science Photo Library

نحو باطن الأرض

اعتقد أعضاء البعثة، واسمها الرسمي METEI (وهو اختصار للبعثة الطّبّيّة إلى جزيرة الفصح)، أنّ الإجابة مخبّأة في الأرض. وقاموا بتقسيم الجزيرة إلى 64 منطقة مسيّجة، وأخذوا عيّنات من التّربة من كلّ منطقة. أُرسِلت العيّنات إلى مختبرات إيرست في مونتريال. وهناك حدّد الباحثون أبواغًا مختلفة، وبدأوا في زراعتها واختبارها.

البوغ عبارة عن خليّة نائمة تنتجها الكائنات الحيّة الدّقيقة، مثل البكتيريا والفطريّات، وهي شديدة المقاومة للحرارة الشّديدة وظروف الجفاف. عندما تتحسّن الظّروف البيئيّة، ينشط البوغ حتّى يتكاثر. إحدى البكتيريا الموجودة في العيّنات الّتي جمعتها البعثة، Streptomyces hygroscopeus، بحيث كانت قادرة على قتل الفطريّات ومنع تكاثر الخلايا. في عام 1972، عُزِلت المادّة الفعّالة منها وأطلق عليها اسم الرّاباميسين، نسبةً لثقافة الربا نوي.

ماذا عن مسألة مناعة سكّان الجزيرة ضدّ مرض التّيتانوس؟ لسوء الحظّ بالنّسبة للبعثة، لم يُعثَر على أيّ دليل تقريبًا على وجود بكتيريا المطثيّة الكزّازيّة Clostridium tetani في عيّنات التّربة، وما يزال السّؤال دون جواب.

خلال سنوات السّبعينيّات، بعد أن وضّحت الإمكانات الكامنة في هذه البكتيريا، وصلت مزارع خلويّة منها إلى المعهد الوطنيّ الأمريكيّ للسّرطان. هناك فُحصت على نطاق واسع في مزارع الخلايا، لمعرفة ما إذا كان يمكن للرّاباميسين العمل ضدّ الأورام السّرطانيّة. في الواقع، ليس من المستغرب أن يكون الرّاباميسين فعّالًا أيضًا، في تثبيط تطوّر بعض أنواع السّرطان. وهكذا عُثِرَ على علاج للسّرطان، ومنذ ذلك الحين اختفى المرض. لحظةً واحدةً....! 

في عام 1982، أُغلِقت مختبرات إيرست، وتوقّف البحث على الفور. مع ذلك، وبمهارة كبيرة خلافًا للإجراءات، قام أحد الباحثين، سورين سيغال (Sehgal)، بأخذ المزارع الخلويّة إلى منزله. وهناك، وفقًا لما قيل، رقدت المزارع الخلويّة بجوار الآيس كريم ومكعّبات الثّلج، في ثلّاجة عائلة سيجال، في انتظار إنقاذها من وضعها اليائس.


كشف مسح شامل لمزارع الخلايا أنَّ الرّاباميسين فعّال أيضًا في تثبيط تطوّر عدّة أنواع من السّرطان. هيكل الراباميسين | Juan Gaertner / Science Photo Library

شرارة أمل

وظلّ الوضع في حالة جمود، حرفيًّا، لمدّة خمس سنوات كاملة حتّى عام 1987، توحّدت مختبرات أيرست مع مختبرات ويث القديمة. وجد سيجل أُذنًا صاغيةً بين أعضاء إدارة الشّركة التّجديديّة، وتمكّن من إقناعهم بإعادة بدء التّجربة باستخدام الرّاباميسين.

في البحث المتجدّد الذي أُجريَ طوال سنوات التّسعينيّات، اكتشفوا أنَّ الراباميسين له خاصّيّة أخرى - تثبيط جهاز المناعة. عندما يتعلّق الأمر بدواء ضدّ عدوى فطريّة، فإنَّ هذه الخاصّيّة تعتبر سلبيّة، لذلك تضاءَل الاهتمام البحثيّ بالرّابامايسين كعامل وقائيّ للعدوى. لكن سيجل وآخرين رأوا بحكمتهم ميزة استخدام الرّاباميسين، كمثبّط لجهاز المناعة لدى متلقّيي زرع الأعضاء، لمنع رفض العضو المزروع. تعتبر الأدوية المضادّة للرّفض ضروريّة، لمن يخضع لعمليّة زرع الأعضاء، لأنّها تمنع الجهاز المناعيّ للمريض من التّعرّف على العضو الغريب ومهاجمته.

وبدون هذه الأدوية، فإنَّ جهاز المناعة، الّذي يتمثّل دوره في حماية الجسم من الغزاة مثل البكتيريا أو الفيروسات، سوف يتعرّف على العضو الجديد باعتباره تهديدًا، ويعلن الحرب عليه، ممّا قد يؤدّي إلى إضعاف وظيفته، وحتّى تدميره.

في عام 1999، بعد سنوات قليلة من تجديد البحث، وافقت إدارة الغذاء والدّواء الأمريكيّة (FDA) على الرّاباميسين، المعروف الآن بالاسم العام سيروليموس، أو بالاسم التّجاري راپاميسين (rapamycin)، كدواء لزارعي الكلى. وفي وقت لاحق، حُدِّدت استخدامات أخرى مثل طلاء دعامات الأوعية الدّمويّة (الدّعامات) والعلاج المضادّ للسّرطان.


بعد سنوات قليلة من استئناف البحث، وافقت إدارة الغذاء والدّواء الأمريكيّة FDA على الرّاباميسين كدواء لزارعي الكلى. طبيب ومريضة تعاني من مرض في الكلى |  Shutterstock, Peakstock

فطريّات لا تتجمّد

بموازاة البحث في مختبرات آيرست-وايث، بدأ الباحث مايكل هول (Hall) من جامعة بازل وشركاء آخرون في أوائل التّسعينيّات، بتتبّع البروتين المستهدف الّذي يعمل عليه الرّاباميسين. أُجري البحث الأوليّ على الخميرة، حيث حدّدوا البروتين المستهدف وأطلقوا عليه اسم هدف الرّابامايسين، target of rapamycin أو TOR. في الثّدييات (mammalian) يطلق عليه mTOR. بروتين TOR هو إنزيم يشارك في عمليّات التّمثيل الغذائيّ وانقسام الخلايا، وبالتّالي يؤثّر أيضًا على طول عمر الخليّة وشيخوخة الخلايا. عندما يرتبط الرّاباميسين بالإنزيم، فإنّه يمنع نشاطه ويؤخّر شيخوخة الخلايا.

في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، تضاعفت الأبحاث الّتي سعت إلى فهم هذه الميزة الفريدة لتأخير الشّيخوخة بعمق، لأنَّ البشريّة بحثت منذ الأزل عن سرّ للشّباب الأبديّ. رأى الباحثون أنَّ الراباميسين هو المفتاح لتأكيد ادعاء قديم قدمه كلايف ماكاي (McCay) في عام 1935، والّذي بموجبه فإنَّ تجويع شديد لكائن حيّ من شأنه أن يطيل عمره. في الواقع، يتمتّع الرّاباميسين، باعتباره مثبّطًا لنشاط mTOR، بقدرة مماثلة ويحاكي تأثير نظام التّجويع الّذي اتّبعه ماكاي.

في عام 2009، ظهرت إحدى المقالات الرّائدة حول هذا الموضوع، عندما أظهر مجموعة من الباحثين الأمريكيّين لأوّل مرّة أنّه من خلال إعطاء الرّاباميسين للفئران البالغة، يمكن إطالة عمرها بنسبة 9 في المائة (في الذّكور) و14 في المائة (في الإناث). وكانت هذه هي المرّة الأولى الّتي يتمكّن فيها الباحثون من إطالة عمر الثّدييات بشكل مصطنع باستخدام آليّة دوائيّة. وفي السّنوات الأخيرة، أثيرت تكهّنات حول احتمال استخدام الرّاباميسين في مرض الألزهايمر، لكن حتّى الآن، لم تُجرى أيّ تجارب سريريّة لاختبار هذا الاتّجاه.


أدّى إعطاء الرّاباميسين للفئران البالغة إلى إطالة عمرها. فأرة مختبر | Janson George, Shutterstock

أين السّحر؟

السّؤال الّذي يطرح نفسه، لماذا لم يصبح الرّاباميسين دواءً في مجال مكافحة الشّيخوخة بعد؟ بداية، ينطوي استخدام الدّواء على آثار جانبيّة متعدّدة، من بينها التّعب، فقر الدّم، انخفاض الصّفائح الدّمويّة، زيادة نسبة الدّهون في الدّم وتلف الكبد. تُضاف إلى ذلك حقيقة أنَّ الراباميسين يتمتّع بمعدل عمر طويل إلى حدّ ما، ولا يمكن للجمسم التّخلّص منه إلّا بعد يومين أو ثلاثة أيّام، ممّا قد يؤدّي إلى تفاقم الآثار الجانبيّة، ويجعل من الصّعب ضبط الجرعة المطلوبة. 

في الواقع، لم تُكتشف الجرعة الصّحيحة لمكافحة الشّيخوخة بعد، على الرّغم من ذِكر مقال نُشر مؤخّرًا - بناءً على تجارب على ذباب الفاكهة والفئران- أنَّ جرعة دوائيّة في المراحل الأولى من البلوغ، قد يكون فعّالًا في سياقات مواجهة الشّيخوخة، لا يقلّ عن الاستهلاك المستمرّ للدّواء، لكن مع انخفاض كبير في الآثار الجانبيّة.

البحث في أوجهِه، ومن المحتمل جدًّا أنّه لم يتمّ اكتشاف جميع المزايا الكامنة في الرّاباميسين بعد. لها ماضٍ رائع، وأقلّ ما يمكن قوله هو أنّ مستقبلها مثير للاهتمام وربّما يؤدّي إلى ثورة. بالنّسبة للمهتمّين بإلقاء نظرة تاريخيّة متعمّقة على اكتشاف الدواء، والّذي يدرس أيضًا الجوانب الأخلاقيّة الحيويّة لاكتشافه، مثل الاستعمار الّذي كان جزءًا لا يتجزّأ من بعثة METEI، أو سياسة الحرب الباردة في خلفيّة الاكتشاف، نوصي بالاطّلاع على كتاب "حلم ستانلي"، بقلم جاكلين دوفين (Duffin)، الّذي رأى النّور في عام 2019، ويُظهِر حبكة مركّبة، الّتي لم يُعرَض أمامكم سوى جُزءًا صغيرًا منها.

 

0 تعليقات