كان عالمًا عظيمًا، يُعتبَر أبا الفيزياء الرّياضيّة، لكنَّ معظم ما يُعرَف عنه يأتي من مصادر غير مباشرة. من يقف وراء هذا العدد الضّخم من الخرافات والأساطير المرتبطة باسم أرخميدس؟
عندما نسمع اسم أرخميدس، قد يعلو في أذهاننا مقولته "أعطنِي نُقطةً لأرتكِزَ عليها، وسأحرّك العالم". سيتذكّر آخرون قصّة حكيم ملتحٍ، قفز من حوض الاستحمام وركض عاريًا في الشّوارع وهو يصرخ "يوريكا!". يظهر أرخميدس أيضًا في جميع القوائم الّتي تضمّ أعظم علماء الرّياضيّات في التّاريخ، ويُعتبَر أبا الفيزياء الرّياضيّة وأوّل من كتب ورقةً بحثيّةً. يُروى أيضًا أنّه أصبح بطل حرب مجيدًا في السبعينيّات من عمره، عندما دافع بقوّة عقله واختراعاته البارعة لعدّة أشهر، عن بلدته الصغيرة، أمام جيش الامبراطوريّة الرّومانيّة عند بداية نشأتها.
نحن نعرف الكثير عن أرخميدس، لكن هناكَ أمور خفيّة أكثر من المعروفة. إنَّ تتبّعه عبر ضباب الزّمن، وتصفية الحقيقة من عدد لا يُحصى به من المبالغات والأساطير، هي عمليّة بوليسيّة حقيقيّة. من المعروف أنَّ صديقه هرقليدس كتب سيرته الذّاتيّة، ولكن مثل معظم كتابات أرخميدس ذاته، فإنَّ هذه السّيرة فُقِدت أيضًا مع مرور السّنين.
الكثير ممّا نعرفه عن أرخميدس، لا يصل عبر معلومات مباشرة، إنّما عبر انعكاسات الانعكاسات، وبعض هذه المرايا بالضّرورة مشوّهة. يمكن رؤية ذلك بشكلٍ رمزيّ حتّى في الصّورة المرئيّة الشّائعة لأرخميدس، والّتي تظهر على الأوراق النّقديّة، الطّوابع البريديّة ومجموعة متنوّعة من اللوحات والمنحوتات. إذا قمنا بزيارة المتحف الأثريّ الوطنيّ في نابولي، وتوجّهنا إلى التّمثال الّذي يجسّد صورة أرخميدس، وقرأنا المكتوب على اللوحة الموجودة تحته، سوف نكتشف أنَّ التّمثال يعود إلى أرخيداموس الثّالث، والّذي كان ملك إسبارطة في القرن الرّابع قبل الميلاد، الّذي مات قبل ولادة أرخميدس ب 51 عامًا. أرخميدس، أرخميدس...لِمَ الوقوف على التّفاصيل؟
لا يُعرَف الكثير عن شخصيّة أرخميدس. لا نعرف ما إذا كانت لديه عائلة، أين دُفِنَ، وحتّى شكله. لكنّ البصمة العظيمة الّتي تركها في عالم الرياضيّات والعلوم، إلى جانب الانطباع الكبير الّذي أحدثته الآلات الّتي بناها، تُمكّننا من تشكيل صورة حول مهنته، حتّى وإن كان من الصّعب الفصل بين الواقع والخيال وبين التّاريخ والأساطير. في السّنوات الأخيرة، تمّ استخدام تكنولوجيا متقدّمة في عمليّات استعادة غير مسبوقة لكتاباته، بما في ذلك استخدام مسرّعات الجسيمات.
على اليسار: تمثال أرخيداموس الثّالث; أسفل اليمين: صورة حديثة مستوحاة منه، أعلى اليمين: طابع بريد إيطاليّ بورتريه | المصادر: المتحف الأثريّ الوطنيّ في نابولي، المجال العامّ; A.Sich, Shutterstock
بين سرقوسة والإسكندريّة
وُلِد أرخميدس في عام 287 قبل الميلاد في مدينة سيراكوز السّاحليّة (سرقوسة اليوم)، في شرق صقلية. كانت آنذاك، واحدة من أهمّ المدن اليونانيّة، وقد وصفها رجل الدّولة الرّومانيّ شيشرون، في كتاباته، بأنّها "أكبر وأجمل المدن اليونانيّة". كان موقعها استراتيجيًّا بشكلٍ خاصٍّ، على الحدود بين الإمبراطوريّة القرطاجيّة والجمهوريّة الرّومانيّة.
سيطرت قرطاج (تونس اليوم) على غالبيّة السّاحل الجنوبيّ للبحر الأبيض المتوسّط، وادّعت الملكيّة على جزيرة صقلية. في مقابل ذلك، كانت روما في بداية صيرورة طويلة، حوّلتها إلى إمبراطوريّة ضخمة تسيطر على البحر المتوسّط بأكمله، واعتبرت صقلية المجاورة لها من الجنوب وجهة طبيعيّة للتوسّع والاحتلال. وجدت المُطوَّقة الهلنستيّة الصّغيرة القائمة على الجزيرة، مدينة الدّولة اليونانيّة، سرقوسة، نفسها بين المطرقة والسّنديان.
سرقوسة، الجمهوريّة الرّومانيّة، وقرطاج في القرن الثّالث قبل الميلاد. | المصدر: Herrias, ويكيبيديا
لم يحد أرخميدس الكبير في شبابه عن عوالم اهتمامات الإيطاليّين، وكانت الجبهة هادئة نسبيًّا. تمّ إرسال الفتى اللامع لتحصيل تعليمه في أفضل مكان في العالم الهلنستيّ - مدينة الإسكندريّة في مصر، أكبر مركز للمعرفة والتّعلّم في العالم. قبل ذلك بأقلّ من 60 عامًا، أسّس إسكندر المقدونيّ مدينة الإسكندريّة هادفًا إلى تخليد ذاته، حيث لم يكن هناك من قبل إلّا قرية صيد صغيرة، وفي غضون بضعة عقود أصبحت واحدةً من أكبر وأغنى المدن في العالم. كانت المكتبة الكبيرة الّتي تمّ إنشاؤها هناك، واحدة من أكبر المكتبات في العالم القديم، وبجانبها تمّ إنشاء "المتحف" - بيت الملهمات، والّذي كان مُخصّصًا للإبداع والدّراسة.
توافد المُثقّفون (المفكّرون) العظماء في تلك الفترة بأعدادٍ هائلة إلى الإسكندريّة، ومن الممكن أن يكون أرخميدس قد تعلّم من الشّخصيّات الملهمة الّتي درسَت في حينه في "المتحف". كان من بينهم إقليدس، أبو الهندسة، وعالم الرّياضيّات والفلك والجغرافيّ إراتوستينس، الّذي لم يدرك فقط أنَّ الأرض كانت بالفعل كرويّة، وإنّما أيضًا قام بحساب مداها وقطرها بدقّة مذهلة نسبةً للفترة آنذاك.
عندما عاد أرخميدس إلى مسقط رأسه عند انتهاء دراسته، استثمر وقته في ما اعتبره أنبل المهن، الرّياضيّات والفيزياء البحتة. بناءً على رسائله وعبر كل ما قيل عنه، من الواضح أنّه ركّز على تحسين فهمه للرّياضيّات وقوانين الفيزياء. لكنّ ذاكَ الشّاب المتعلّم لم يستطع أن يغلق على نفسه في ورشته ويتعمّق في الهندسة؛ لأنّه كانَت لدى هيرون الثّاني ملك سرقوسة خططٌ خاصّة به، يقوم بتجهيزها للعبقريّ الّذي بدأ اسمه في اللمعان.
يعرض أرخميدس أحد اختراعاته للملك هيرون الثّاني، لوحة لدومينيكو وكارو، ربّما من بداية القرن الثّامن عشر | المصدر: ويكيبيديا، المجال العامّ.
مسار أرخميدس اللولبيّ (البرغي)
عند عودته من مصر، أحضر أرخميدس الشّاب معه اختراعًا ثوريًّا: مسمار أرخميدس اللولبيّ (برغي)، أوّل مضخّة مياه تظهر في أوروبا. لقد جعلتها قدرتها على ضخّ المياه الموحلة أو المتّسخة أداة عمل أساسيّة وحيويّة. حتّى يومنا هذا، تُستخدم براغي مماثلة في البطاريّات الواقية في هولندا، وفي محطّات معالجة مياه الصّرف الصّحيّ في الولايات المتّحدة، وفي حقول الرّيّ في العالم الثّالث وغيرها.
آليّة مسمار أرخميدس اللولبيّ وضخّ المياه بواسطته في نهر ألتاي في منغوليا | تصوير: oroch, Shutterstock, رسم توضيحيّ: Sergey Merkuloc, Shutterstock
لقد تمّ تسمية المنشأة على اسم أرخميدس ولكن في الحقيقة تمّ اختراعها قبل ذلك بمئات السّنين. تُخبِر الألواح القديمة، المكتوبة بواسطة الكتابة المسماريّة الّتي تعود إلى القرن الثّامن قبل الميلاد، أنَّ حدائق بابل المُعلّقة، إحدى عجائب الدّنيا السّبع في العالم القديم، تمّ إنشاؤها بمساعدة البراغي اللولبيّة. تكوّنت المنشأة من برغي كبير، موضوع داخل أنبوب مُجوّف. في الجزء العلويّ للمنشأة، كان هناكَ مقبض يُمكِّن المسمار من الدّوران، وجزؤه السّفليّ مغمورٌ في الماء. بسبب المبنى اللولبيّ للبرغي، تكوَّنت خلايا صغيرة بينه وبين جدار الأنبوب، وعندما قاموا بتدويره، حُصِر الماء في الخلايا وتمّ دفعه إلى أعلى الأنبوب حتّى يصل إلى القمّة وينسكبب للخارج..
بقدر ما هو معروف، لم يزعم أرخميدس أبدًا في كتاباته أنّه صاحب هذا الاختراع، لكنّ هذا لم يمنع أهالي سرقوسة من التّفاخر بابن بلدهم وإطلاق اسمه على المنشأة. من هناك، انتشر استخدام البراغي في جميع أنحاء أوروبا وتمّ ترويج اسم أرخميدس. على ما يبدو، أنَّ التّوتر بين الحقيقة والأسطورة رافقت أرخميدس خلال حياته أيضًا.
كم عدد حبّات الرّمل اللازمة لملء الكون؟
يبدو أنّها نشأت علاقة خاصّة بين العالِم والملك، كونه افتتح كتابه حاسب الرّمل "The Sand Reckoner" بمخاطبة ابن الملك مباشرة: "سيقول البعض (الملك جيلون)، إنَّ عدد حبّات الرّمل في العالم لا نهائيّ". ومن هناك انتقل إلى ما يُعتبَر اليوم، كأوّل مقال للبحث العلميّ في التّاريخ.
تمّ استخدام مصطلح "الرّمل" في الحضارات القديمة كاستعارة عن "عدد لا يمكن إحصاؤه". تظهر الكلمة في الكتاب المُقدَّس اليهودي 12 مرّة بهذا المعنى - على سبيل المثال، في وعد الله لإبراهيم: "أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً، وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ تَكْثِيرًا كَنُجُومِ ٱلسَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ ٱلَّذِي عَلَى شَاطِئِ ٱلْبَحْرِ" (التّكوين 22 ، 17). لكنَّ أرخميدس أراد أن يثبت أنَّه لا يوجد حدّ لقوّة الرياضيّات والهندسة، وأنّه من الممكن حتّى حساب عدد حبّاتالرّمل المطلوبة لملء الكون بأسره. لهذا الغرض، حاول حساب كبر الكون وعدد حبيبات الرّمل اللازمة لملئه.
كانت حسابات أرخميدس خاطئة تمامًا، نظرًا لمحدوديّة التّكنولوجيا الّتي كانت موجودة تحت تصرّفه، ولكنّها كانت أيضًا عبقريّة وذات طموح للغاية. تقتصر الورقة على تفصيل جميع الابتكارات الرياضيّة والبحثيّة الّتي قام بها في ثماني صفحات قصيرة.
على سبيل المثال، كان العدّ في اليونانيّة في حينه باستخدام الحروف، على غرار علم الأعداد العبريّ Gematria. كان أكبر عدد يمكن تمثيله بهذه الطّريقة هو 10,000، والّذي رمزت إليه الكلمة اليونانيّة ميرياد (عشرات الآلاف: في اليونانيّة μυριάς). لأجل حساباته، اخترع أرخميدس طريقة عدّ جديدة، والّتي سمحت له بالعدّ حتّى 1 و- 80 كوادريليون (مليون مليار) صفرٍ من بعده. تجاوزت القدرة الحسابيّة الّتي تطوّرت بأعقاب الطّريقة الأرخميدسيّة الجديدة كلّ الطّرق الأخرى الّتي سبقتها. حتّى أنَّ عدد الذّرّات في الكون يُعتَبَر ضئيلًا مقارنةً بالأرقام الّتي يمكن التّعبير عنها بواسطة طريقة أرخميدس.
في المرحلة التّالية، افترض أرخميدس أنَّ الأرض كرويّة، تدور حول محورها وتدور حول الشّمس، وذلك وفقًا لنظريّة أرسطرخس. وأجرى تجارب لقياس قطر الكرة الأرضيّة وقياس المسافة بينها وبين الشّمس. لم تسمح وسائل القياس الّتي توفّرت في ذاك العصر بالحصول على نتائج دقيقة، لكنّ التّجارب كانت لامعة. خلال تلك الفترة، أسّس أيضًا علم الفيزياء النّفسيّ، والّذي حصل على هذه التّسمية بعد 2100 عام، آخذًا في عين الاعتبار، تأثير حجم حدقة عين النّاظر على نتيجة إحدى التّجارب.
حساب زاوية الشّمس كما تبدو من الأرض، كحساب مساعد للتوصّل إلى حجم الكون | المصدر: "حاسب الرّمل لأرخميدس", 1897. ترجمة: توماس إل هيث (Heath)
يوريكا! لغز التّاج الذهبيّ
تخوض إحدى القصص الأكثر شهرة عن أرخميدس، في تاج الملك هيرون الثّاني الذّهبيّ. أوّل من ذكرها كان المهندس المعماريّ الرّومانيّ فيتروفيو (Vitruvius)، وذلك في كتابه "في العمارة"، عام 20 قبل الميلاد. روى هناكَ، أنَّ هيرون أراد بعد تتويجه أن يهب الآلهة تاجًا من الذّهب الخالص. تحقيقًا لهذه الغاية، قام بوزن الكميّة المطلوبة من الذّهب ونقلها إلى أفضل صائغ في سرقوسة، والّذي سلّمه التّحفة الفنيّة الّتي أعدّها في الوقت المُحدَّد. وللتأكّد من أنَّ الصائغ لم يحتفظ ببعض الذّهب لنفسه، قام الملك بوزن التّاج وتأكّد أنّه يزن تمامًا نفس وزن الذّهب الّذي تمّ تسليمه.
لكن سرعان ما انتشرت الشّائعات بأنّ الصّائغ أخذ بعض الذّهب لنفسه واستبدله بمعدن فضّيّ أرخص، بنفس الوزن. أنكر الصّائغ بالطّبع ووجد الملك نفسه في ورطة؛ بما أنَّ التّاج كان مُقدَّمًا للآلهة، لم يُرِد تعريضه للأذى بغرض الاختبار. ببالغ الأسى أرسل هيرون لأكثر الأشخاص حكمةً في المملكة، وسلّمه التّاج وجعله يُقسِم على إيجاد حلّ دون الإضرار بالعمل.
يسلّم الملك التّاج للحكيم المُسنّ. في الواقع، كان أرخميدس أصغر من الملك ب-20 عامًا | رسمة: فنّان غير معروف
وفقًا للرّواية، بنى أرخميدس تصوّرًا للمشكلة، لكنّه لم ينجح في حلّها. عندما تعب، ذهب إلى الحمام العموميّ. وفق فيتروفيوس، عندما دخل حوض الاستحمام المليء بالماء، رأى أنَّ سطح الماء يرتفع حتّى انسكب خارجًا، صدمَه إدراكُه لِما رأى: كان الحلّ أمام عينيه. صرخ "يوريكا!" (ευρηκα؛ "وجدتها" باليونانيّة)، قفز وهو عارٍ نحو الشّارع وركض إلى منزله. هذه لحظة "يوريكا"! الحقيقيّة، على الأقلّ وفق الأسطورة.
عندما وصل أرخميدس إلى منزله، صنع سبيكتين بنفس الوزن، إحداهما من الفضّة والأخرى من الذّهب، وغمر كلًّا منهما في إناءٍ مملوءٍ بالماء، وقاس كميّة الماء الّتي دفعت كلًّا منهما خارج الإناء. وهكذا أصبح أرخميدس أوّل شخص يقيس الوزن النّوعيّ. حتّى اليوم، يتمّ قياس الوزن النّوعيّ للموادّ نسبةً للماء.
اكتشف أرخميدس أنَّ الوزن النّوعيّ للذّهب هو ضعف الوزن النّوعيّ للفضّة، ممّا يعني أنّه لا يشغل سوى نصف حجم الفضّة من نفس الوزن، وبالتّالي فهو يدفع نصف كميّة الماء الّتي تدفعها الفضّة إلى الخارج.
حاملًا هذه المعرفة الجديدة سارع إلى القصر - هذه المرّة بكامل هندامه - وكرّر التّجربة أمام الملك، تاج في أحد الأواني المملوءة بالماء وكتلة من الذّهب من نفس الوزن في إناءٍ ثانٍ. لقد رأوا على الفور أنّ التّاج دفع كميّة أكبر من الماء مقارنةً بالكتلة الذّهبيّة، والاستنتاج: التّاج ليس مصنوعًا من الذّهب الخالص، إنّما يحتوي أيضًا على الفضّة الّتي زادت من حجمه نسبةً لوزنه، كان الملك سعيدًا. وماذا عن الصّائغ؟ وجد نفسه في زنزانة.
هل ركض أرخميدس فعلًا عاريًا في الشّوارع، صارخًا: "يوريكا"؟ وُلد فيتروفيوس بعد 131 عامًا من وفاة أرخميدس، لذلك من المحتمل أنّه حتّى وصول القصّة إليه، أُضيف إليها عدد من الزخرفات والمبالغات. من المفترض أنَّ الحدث لم يحدث إطلاقًا، وليس له أيّ توثيق من تلك الفترة. لكن إذا بحثنا في محرّك البحث "جوجل" عن الصّور المستوحاة من الأسطورة، فإنّنا لا نرى شابًّا يقفز من حوض الاستحمام، إنّما شيخًا ملتحيًا أصلع، تمامًا كما بقيَت شخصيّته ثابتة في الذّاكرة.
على الرّغم من أنّه تمّ تضخيم تفاصيل القصّة على ما يبدو، تُظهِر أعمال أرخميدس الثّوريّة أنّه انشغل كثيرًا بموضوع الوزن النّوعيّ للموادّ وفي إمكانيّة حسابه عن طريق الغمر في الماء. لو أردنا البحث عن شخص من العالم القديم، بحيثُ يكونُ قادرًا على حلّ لغز تاج هيرون الذّهبيّ، فسيكون أرخميدس.
كان صغيرًا لحظة الاكتشاف. تمثال لأرخميدس في حوض الاستحمام مع التّاج في "ساحة أرخميدس" في متحف مداعتك، حيفا | تصوير: PHOTOSTOCK-ISRAEL / SCIENCE PHOTO LIBRARY
أكبر سفينة في العالم
غاص أرخميدس عميقًا، إلى داخل علم الأجسام المغمورة في الماء. كان فضوليًّا تجاه قوّة الرّفع لدى الماء، والّتي تسمح للأجسام الثّقيلة في الهواء أن تطفو. قاده بحثه لكتابة جزئي عمله الرّائد، "حول الأجسام الطّافية"، لتحديد ما يُعرَف حتّى يومنا هذا بمبدأ أرخميدس، وإلى تأسيس علم الحركة (الدّيناميكا) المائيّة.
كان هيرون الثّاني معجبًا جدًّا بأرخميدس لدرجة أنّه تمّ تكليفه بمهمّة ضخمة، بناء سيراكوزيا - سفينة عملاقة أكبر 50 مرّة من السّفن الحربيّة العاديّة. كان الهدف من هذه العمليّة الهندسيّة غير المسبوقة أن تكون هديّة عظيمة لحاكم مصر بطليموس الثّالث. روى الكاتب اليونانيّ أثينوس إنّها كانت كبيرة جدًا لدرجة أنّه كان بها مساحة كافية لإسطبل لعشرين حصانًا، ومعبدًا للآلهة أفروديت، مكتبة، صالة للألعاب الرّياضيّة، ومكان يتّسع لما يقارب ألفَي راكب، ومنجنيق ضخم.
هناك أيضًا لمحة عن الموضوع، عبر محاضرة TED للبروفيسور ويليام نويل (التّرجمة العبريّة)، والّذي يصف التّكنولوجيا المتطوّرة المُستخدَمة للكشف عن كتابات أرخميدس، والّتي شملت أيضًا استخدام أشعّة المُسرِّع الدّورانيّ التّزامنيّ (السّنكروترون)، من أقوى مصادر الضّوء في النّظام الشّمسيّ:
استغرق بناء سفينة سيراكوزيا عدّة سنوات من العمل قام بها مئات العمّال. عندما تمّ إطلاقها أخيرًا، أصبح من الواضح أنَّ أرخميدس كان دقيقًا في حساباته، على الرّغم من وزنها الهائل والحمولة الثّقيلة المُحمّلة عليها، طفت السّفينة بشكلٍ جيّد. نظرًا لأنّ صقلية لم تملك ميناءً كبيرًا كافيًا لها، فقد أبحرت السّفينة على الفور إلى الإسكندريّة.
تركت سيراكوزيا انطباعًا كبيرًا لدى المصريّين. امتلأ بطليموس الرّابع بالغيرة، وعندما وصل إلى السّلطة قام ببناء سفينة التّجديف تيساركونتريس Tessarakonteres، والّتي كانت أكبر، ولكن حسب الفيلسوف اليونانيّ بلوتارخ، فإنّها لم تكن قادرة على الإبحار، وتمّ استخدامها فقط للاستعراض. يتّضح أنَّ كلّ ملك يحتاج إلى أرخميدس لينجح في تحقيق حماقاته.
سيراكوزيا، رسمة تعود لفنّان غير معروف، 1798 | المصدر: ويكيبيديا، المجال العامّ
أعطوني نُقطةً لأرتكِزَ عليها، وسأحرِّكُ العالم
عمل أرخميدس في مجال هندسة آخر، هو البكرات والرّافعات. في عمله الرّائد "في توازن الأشكال المستوية"، صاغ أرخميدس قوانين الرّافعة وطوّر طرقًا رياضيّة لإيجاد مركز ثقل الأجسام. بالإضافة إلى حقيقة أنّه أرسى في عمله قواعد علم السّكونيّات بأكمله، واخترع البكرة المزدوجة، حيث كانت طريقة عمله أيضًا ثوريّة. كان أوّل من حاول تطوير قوانين فيزيائيّة لا تعتمد على الاستدلالات الشّرعيّة المأخوذة من القياسات والتّجارب، بل على العكس، بحيث بدأ بوضع بعض القوانين الأساسيّة (البديهيّات)، والّتي بموجبها عمل على تطوير وإثبات جميع الظّواهر الطّبيعيّة. وفقط بعد ما يقارب ألفَي عام أعاد إسحاق نيوتون إحياء أساليب وأدوات أرخميدس من خلال كتابه "الأصول".
اخترع أرخميدس العديد من الاختراعات، من بينها، البكرة المزدوجة، والّتي تُمكّن من مضاعفة القوّة مرارًا وتكرارًا عند إضافة البكرات. روى بلوتارخ إنّه عند انتهاء أرخميدس من كتابة مقالته العلميّة، أرسل رسالة إلى هيرون متفاخرًا بأنّه لا يوجد وزن في العالم لا يستطيع تحريكه بقوّة يديه فقط، بشرط أن تتوفّر لديه فقط نقطة يتّكِئ عليها خارج العالم. كتب أرخميدس: "لو كان هناك كوكب أرض آخر كنت سأتمكّن من الوقوف عليه وتحريك كوكبنا".
بدا لهيرون أنَّ هذا التّصريح مبالغٌ فيه. فأجابه: "إذا كان الأمر كذلك، فأثبته لي".
في يوم العرض، دُعِيَ الملك إلى الميناء، هناك رأى أرخميدس جالسًا على كرسي في حافّة الرّصيف وبيده حبلٌ مربوط بمنظومة بكرات، رُبِطَ بشدّة بسفينة أخرى مُحمَّلة بحمولة وعلى متنها العديد من البحّارة. "وعندها"، قال بلوتارخ: "دون بذل أيّ جهد، وبدون أن يستعين بأيّ شيء سوى البكرة، سحب أرخميدس الحبل، وانزلقت السّفينة بكلّ حمولتها إلى الأمام كما لو كانت قد أبحرت على ظهر الماء". اندهش الملك لدرجة أنّه أمر أرخميدس على الفور، بأن يبني له آليّات مناسبة لجميع أدوات الحصار المُعدَّة للهجوم والدّفاع معًا".
بانتاباستوس: رافعة تُمكِّن مشغلها برفع وزن أكبر 40 مرّة من الممكن بدونها | المصدر: Eric Gaba, ويكيبيديا
العدوان على سرقوسة
بعد 55 عامًا من الحكم، تُوُفِي الملك هيرون الثّاني، وورَّثَ عرشه لحفيده البالغ من العمر 15 عامًا. كان هيرون حريصًا على الحفاظ على ولائه لروما، ولكن بعد هزيمتها في عام 216 قبل الميلاد على يد حنبعل قائد الجيش القرطاجي في معركة كاناي، اتّخذ خليفته الشّاب قرارًا متسرّعًا بالمقامرة على قرطاج. خلال عام انقسمت سرقوسة بين الفصيل المُوالي للرّومان وبين المُوالي لقرطاج. في المُحصِّلة، تضرّر سكّانها من كلا الطّرفين، تمّ تفريق فصيل أنصار قرطاج، واُغتِيل الملك، وفقدَت روما الثّقة في قيادة المدينة. تمّ إرسال القائد ماركوس كلاوديوس مارسيلوس على رأس أسطول حربيّ كبير لاحتلال المُطوّقة اليونانيّة في شرق صقلية.
كان مارسيلوس بطل حرب، حائزًا على جائزة بـ "Opima Spolia" - وهو أعلى وسام عسكريّ في روما، حيث مُنحَ لثلاثة جنرالات فقط في تاريخها بأكمله. قلّة هم الّذين اعتقدوا أنَّ سرقوسة الصّغيرة قادرة على الصّمود في وجه الجيش الرّوماني العظيم، صاحب الخبرة في قهر التّحصينات والّذي يرأسه قائد متمرّس كهذا.
كانت تحت إمرة مارسيلوس قوّة عسكريّة كبيرة مُسلَّحة بأسلحة مُعدَّة للهجوم البحريّ على المدن السّاحليّة. وصف المؤرّخ بوليبيوس السّفن الحربيّة الهائلة بأنّها كانت مُجهَّزة بأحدث التّحسينات، مثل: السّامبوكا Sambuca- وهي سلّم ضخم، أحد جوانبه مُثبَّت في السّفينة والآخر يتمّ إنزاله على الجدران، وأبراج حصار عائمة في أطرافها خطافات وكبش للخبط، ومجموعة من الأدوات المدمّرة الأخرى الّتي بدا أنّه لا يمكن مجاراتها. لكن كان لدى السرقوسيين سلاحٌ أكثر خطورة وفعاليّة - عالم رياضيّات مُسنّ، في السّبعينيّات من عمره.
بوليبيوس، في كتابه "التّاريخ العامّ للجمهوريّة الرّومانيّة"، وصفَ المئة سفينة المُحمَّلة بمحاربي مارسيلوس وهم يبحرون في طريقهم: "لقد كانوا واثقين من أنّه سيتمّ حسم المعركة في غضون خمسة أيام، وذلك من دون معرفة قدرات أرخميدس وحتّى دون الافتراض أنَّ عبقريّة شخص واحد ستكون قادرة على تحقيق أكثر من أيّ جيش".
بالفعل، وعلى بعد كبير من السّاحل، فوجئ الأسطول البحريّ الرّومانيّ برشقة دقيقة من الصّخور الّتي كان يصل وزنها إلى 10 طالنط (أكثر من ربع طن)، تمّ إطلاقها من العرادات (نوع من المجانيق) الّتي طوّرها أرخميدس حتى يتمكّنوا من إطلاق المقذوفات بسرعة أكبر لكل مدى. حتّى ذلك الحين، كان نطاق العرادة ثابتًا، وعند اقتراب الهدف، كانوا مُجبرين على جرّ القاذفة المعقّدة إلى الخلف. كلّ هذا أدّى إلى إبطاء وتيرة إطلاق المقذوفات وصعَّب من إمكانيّة إصابة هدف متحرّك.
أرخميدس على رأس عرادات سرقوسة | رسمة: توماس رالف سبنس، حصار سرقوسة، 198، الملك العامّ.
واجهت السّفن الّتي تمكّنت من الاقتراب من الجدار وإنزال السّلالم عليها وابلًا من الرّماح الحديديّة الّتي أسقطت العديد من القتلى. أرسل أرخميدس رجالًا لحفر ثقوبًا يبلغ قطرها حوالي 10 سم في الجدران السّميكة، ثبّتَ عليها بنادق الأسهم (العقرب) والّتي تمّ شدّ خيطها بواسطة نوابض الالتواء الّتي مكّنت من إطلاق سهام حديديّة ثقيلة.
عندما حاول الجنود اليائسون الهروب إلى مؤخّرة السّفينة، قام المدافعون عن المدينة بتوجيه عشرات الرّافعات الضّخمة المُخبّأة في أعلى الجدران، حيث وضعت فوق قوس السّفن. في ظاهره يبدو باقي الوصف وفقًا لبوليبيوس ومؤرّخين رومانيّين آخرين مثل بلوتارخ مبالغًا فيه تمامًا. ومع ذلك، قام فريق مشترك من قسم الرّياضيّات والهندسة في جامعة دريكسيل في فيلادلفيا بالتّحقّق من نتائج البحث، التّكنولوجيا والموادّ الّتي توفّرت لدى أرخميدس، وخلصوا إلى أنّ الأوصاف كانت صحيحة. حتّى أنّه نجح الباحثون باستعادة إنشاء نموذج مماثل للآلة، أُطلِق عليه لاحقًا اسم "مخلب أرخميدس الحديديّ".
إعادة إنشاء مخلب أرخميدس الحديديّ. فيديو قصير ثلاثيّ الأبعاد HBO:
كتب بوليبيوس: "سلسلة في طرفها قبضة حديديّة تتدلّى من سقف الرّافعة ومثبَّتة بقوس السّفينة. ثمّ تمّ الضّغط من طرف الجدار الدّاخليّ الّذي أدّى إلى رفع السّفينة، وعندما انتصبت عارضة السّفينة في الهواء، تمّ تحرير القبضة الحديديّة بواسطة الحبال والبكرات، عندها انزلقت السّفينة دفعة واحدة. سقطت بعض المراكب البحريّة على جوانبها، وانقلب بعضها وغرق معظمها في الماء من ارتفاعات شاهقة".
اقتبس بوليبيوس كذلك عن القائد الرّومانيّ السيّد هنفش كوبل ما يلي: "استخدم أرخميدس سُفُني لصبّ مياه البحر في كؤوس النّبيذ الخاصّة به".
في نهاية المطاف تراجعت القوّة الغازية النّاجية مليئة بالخزي، وأدركوا أنّهم لن يقدروا على احتلال المدينة بقوّة السلاح. وبدلاً من ذلك، فرضوا عليها حصارًا طويلًا.
قبضة حديديّة متشبّثة بقوس السّفينة. مخلب أرخميدس الحديديّ | صورة توضيحيّة: بتصرّف Danial
شعاع الموت
يصف بعض المؤرّخين سلاحًا آخر اُستُخدِم ضدّ السّفن. على سبيل المثال، هذا ما كتبه كاسيوس ديو: "وأخيرًا بطريقة لا تُصدَّق أحرق أرخميدس الأسطول الرّوماني بأكمله، حيث ركّز شعاع الشّمس من خلال بعض المرايا الّتي أشعلت شعلة ناريّة كبيرة والّتي أحرقت السّفن حتّى التهمتها بالكامل."
كانت الأوصاف مشكوكًا فيها من جميع النّواحي. على الرّغم من أنَّ بعض المؤرّخين الموثوق بهم - بوليبيوس وليفيوس وبلوتارخ قد ذكروا أنَّ أرخميدس أحرق بعض سفن الأسطول البحريّ الرّومانيّ؛ لكنّهم لم يتحدّثوا عن مرآة ولم يُعرَف عن مثل هذه الأسلحة في سرقوسة أو في أيّ مكان آخر في العالم القديم. يُعتقَد أنّ أرخميدس أطلق قنابل متفجّرة شبيهة بالزّجاجات الحارقة (مولوتوف) باستخدام مقاليع صغيرة، أو أطلق مادّة صمغيّة (راتنج) مشتعلة.
من الصّعب تخيّل كيف يمكن إشعال جسم بعيد، يهتزّ طوال الوقت، وديناميكي، وأحيانًا مبلّل بالماء مثل السّفينة في خضم معركة، من خلال تركيز الضّوء عليه. يظهر من وصف المعركة أيضًا أنَّ المقاليع صدّت المهاجمين أثناء النّهار بعيدًا عن أسوار المدينة، وفقط في الليل تجرّؤوا على الاقتراب - وهي ليست بالضّبط أكثر الظّروف (الودّيّة) الملائمة لمثل هذه الأسلحة الّتي تعتمد على ضوء الشّمس.
لكنّ القصة كانت جيّدة للغاية. مثل أساطير أرخميدس الأخرى، أي أنّه تألّق في العديد من الأعمال الفنيّة، ومع مرور الوقت تمّت إضافة المزيد من الطّبقات إليها. على مدى ال 300 عام الماضية، حاول الباحثون تخمين ما إذا كان هذا السلاح قائمًا أصلًا. نجح الكونت الفرنسي بوفون (Buffon) عام 1747 في حرق عوارض خشبيّة من مسافة 50 مترًا بواسطة مجموعة من 128 مرآة مُقعّرة، حاول طاقم البرنامج التّلفزيونيّ "مدمّرو الخرافات" (Mythbusters) لكنّهم فشلوا مرّتين. وحقّق أعضاء قسم الهندسة في معهد ماساتشوستس للتّكنولوجيا (MIT) نتائج متباينة. يمكن العثور على ملخّص لفيزياء الجهاز ومحاولات تطبيقه في تقرير صادر عن وزارة الطّاقة الأمريكيّة.
يشعل بحّارة يونانيّون النّار في نموذج لسفينة رومانيّة من مسافة 50 مترًا، باستخدام ألواح نحاسيّة مصقولة عاكسة لضوء الشّمس | من تجربة قام بها العالم اليونانيّ يوانيس ساكاس، عام 1973
حول الأشياء المهمّة حقًّا
اكتسبت اختراعات أرخميدس الهندسيّة وابتكاراته التّكنولوجيّة والعسكريّة شهرةً عالميّة. لكن بالنّسبة له، كلّ هذا فقط صرف انتباهه عن الأشياء المهمّة حقًّا - تطوير الرّياضيّات. في جميع كتاباته المحفوظة، لم يذكر أرخميدس على الإطلاق أيًّا من الآلات الّتي بناها، لكنّه طوّر تقنيّات رائدة لحساب المساحات والأحجام ومراكز جاذبيّة الأشكال وحلّ الألغاز الرّياضيّة المعقّدة. كتب عنه بلوتارخ: "كانت عاطفته وطموحاته خاضعتَيْن للفكر الصّافي، حيث لا توجد أيَّة إشارة إلى احتياجات الحياة الفجّة". يقول المؤرّخون إنَّ أرخميدس أمر بوضع تمثال حجريّ على قبره عبارة عن كرة وأسطوانة متطابقتَيْن في الارتفاع والقطر يُجسِّد الدّلالة الرّياضيّة لديه.
فُقِدَت معظم كتابات أرخميدس مع مرور السّنين. نجا 11 كتابًا فقط وليس بشكلٍ كامل. يظهر من تلك الكتب أنّه في كلّ مجال رياضيّ خاض به، كان متقدّمًا على عصره بمئات السّنين إن لم يكن أكثر من ذلك.
نحن نعلم اليوم، أنَّ أرخميدس ربّما كان أوّل من أجرى العمليّات الحسابيّة في التوافقيّات. طوّر رياضيّات اللوالب والدّوائر، الأسطوانات والقطوع المخروطيّة، حسب (لم يقِس) قيمة الباي (π) بدقّة تصل إلى الآلاف العشريّات، بل أسّس ما أسماه "الطّريقة" - استخدم أحجامًا غير قابلة للقسمة لحلّ المشكلات من مجال حساب التّفاضل والتّكامل. قبل ما يقارب ألفي عام من تطويرغوتفريد لايبنتس ونيوتون لحساب التّفاضل والتّكامل. يُنسَب إلى لايبنتس القول: "من يفهم أرخميدس سوف يقلّل من تقديره لإنجازات العظماء في هذا العصر".
تمّ فكّ شيفرة جزء من مبنى العمل الأصليّ فقط في القرنَيْن العشرين والحادي والعشرين، وذلك في أعقاب اكتشاف طرسيّة أرخميدس (Palimpsest) وعمليّة إعادة ترميمها. الطّرسيّة عبارة عن لفيفة مخطوطة تمّ نزعها لإعادة استخدامها، وخلال العصور الوسطى تمّ مسح العديد من الرّوائع الكلاسيكيّة لإفساح المجال لكتابة كتب الصّلاة والسّجلّات المختلفة. اليوم، تُمكّن الأدوات الحديثة من استعادة المحتوى القديم، والّذي صمد أمام مشاقّ التّاريخ، أشبه بمسافر متخفٍّ في كتب الصّلاة.
على اليسار: خبر اكتشاف طرسيّة أرخميدس في نيويورك تايمز، 16.07.1907؛ في الوسط: صفحة من الطّرسيّة؛ على اليمين: المصدر، في الوسط: الصّفحة بعد مسح ضوئيّ أظهر الكتابة المخفيّة تحت كتاب الصّلاة من القرن الثّالث عشر. المصدر: متحف والترز للفنون
تلخّص ورقة كتاب هنا قصّة العمليّة الرّائعة لإعادة إنشاء طرسيّة أرخميدس - لقاء قمّة بين الجبهة العلميّة من القرن الثّالث قبل الميلاد والجبهة العلميّة من القرن العشرين. كُتِبت كتب كاملة عن التّدويرات العديدة للنّصّ، وكيف تمّت استعادة كتابات أرخميدس المخفيّة تحت طبقات من الحبر والطّلاء والغراء والعفن. يكفي أن ننوّه بأنَّه لإزالة الصّمغ المضاف بإهمال إلى غلاف الكتاب بعد اكتشافه فقط استغرق الأمر أربعة أعوام. يمكن قراءة المزيد عن القصّة من على شبكة الإنترنت في موقع "Digital Palimpsest"، وهناك أيضًا، يمكن الاستمتاع بمحاضرة TED للبروفيسور ويليام نويل (التّرجمة العبريّة).
نهاية أرخميدس
ربّما انتهت معركة سرقوسة بهزيمة الغزاة، لكنّها في النهاية لم تستطع الصّمود أمام تفوّق روما العسكريّ. وفقًا لبلوتارخ، بعد حصار دام حوالي عامًا ونصف، استغلّ الرّومان ليلة الاحتفالات بالآلهة أرتميس (ديانا) لاقتحام المدينة.
أيقن مارسيلوس أنَّ أهمّ سلاح في المدينة هو عقل أرخميدس، وأمر جنوده بعدم إيذائه. وعلى الرّغم من ذلك، قُتِل أرخميدس بالسّيف خلال الأربع والعشرين ساعة الممنوحة للجنود لنهب المدينة، وفق أعراف جنود جيش الاحتلال.
نسب المؤرّخون مشهد وفاة أرخميدس إلى مجموعة متنوّعة من الأماكن والسّياقات، ولكن كانت جميعها بذات الأسلوب. وصف البعض كيف رسم أرخميدس أشكالًا هندسيّة على الرّمال وانفجرت في وجه جنديّ داس عليها. وفي وصفٍ آخر، تعارك مع الجنود الّذين جاؤوا لنهب أدوات القياس الخاصّة به، وفي وصفٍ آخر، قيل إنَّ جنديًّا طلب من أرخميدس القدوم معه إلى مارسيلوس، لكنّ عالم الرّياضيّات العجوز رفض لأنّه أراد إنهاء إحدى حساباته. الشّيء الوحيد الّذي يتّضح من هذه الأوصاف هو أنَّ أرخميدس مات في يوم سقوط سرقوسة.
يرفض أرخميدس مرافقة جندي رومانيّ. فسيفساء من القرن الثّاني من الميلاد | المصدر: المجال العامّ، تمّ مسحه ضوئيًّا من كتاب "Kelet-Ázsia és a klasszikus Görögország"، عن ج.م روبرتس
بعد حوالي 140 عامًا، انطلق الكاتب ورجل الدّولة الرّومانيّ شيشرون، الّذي عاش في صقلية آنذاك، باحثًا عن قبر أرخميدس. قال في مذكّراته إنَّ المكان "كان مغطى بالشّجيرات والأعشاب وحتّى أنَّ سكّان سرقوسة نفوا أيّة معلومة تتعلّق بوجوده. فقط بفضل عمود، ثُبِّتَت عليه كرة وأسطوانة، والّذي كان بارزًا فوق الشّجيرات تمكّنتُ من التّعرّف على القبر"(صفحة 187). هذا كان آخر توثيق تمّ تركه على القبر الحقيقيّ للعبقريّ اليونانيّ. في هذه الأيّام يتمّ دعوة السّوّاح الوافدين إلى سرقوسة لرؤية "قبر أرخميدس اليونانيّ"، كيفما تُظهر اللافتة المُعلَّقة بجوار شيءٍ، هو ليس قبرًا، ليس يونانيًّا وبالتّأكيد ليست له علاقة بأيّ شكل من الأشكال بأرخميدس. إنّه مكان للصّلاة الرّومانيّة، يعود تاريخه إلى القرن الأوّل من الميلاد، أي بعد سنوات عديدة من وفاة أرخميدس.
ليس حقًّا قبرًا. "مقبرة أرخميدس" في حديقة نيابوليس الأثريّة في سرقوسة | تصوير: كارلو باجالي ، ويكيبيديا
المفاجأة الأخيرة (في الوقت الحالي)
عظَمَة أرخميدس رسمَت له هالةً شجّعت المؤرّخين على تضخيم أعماله حتّى في حياته، وأكثر من ذلك بعد وفاته. لقد غَذَّت سلسلة إنجازاته العظيمة في العديد من المجالات صناعة كاملة من القصص المبالغ فيها؛ لذلك يمكن فهم الشّكوك المُثارة تجاه شيشرون الّذي وصف في كتابه "الجمهوريّة" آليّتين رائعتين قام أرخميدس بصنعهما، جلبهما مارسيلوس كغنائم من سرقوسة. يروي شيشرون أنّهم عندما حدّدوا التّاريخ والوقت بواسطتهما أشارت الآلات بدقّة إلى مكان وحركة الشّمس والقمر والكواكب الخمسة في السماء والّتي كانت معروفة آنذاك.
لإنشاء مثل هذا الكمبيوتر الميكانيكيّ لا تكفي المعرفة الرّياضيّة والفلكيّة المتعمّقة فقط، وإنّما تتطلّب أيضًا تقنيّة متقدّمة بالتّروس وآليّة التّروس التّفاضليّة، والّتي لم تكن وفق ما هو معروف في ذلك الوقت في أيدي اليونانيّين. ولكن في عام 1901، تمّ استخراج جسم قديم مصنوع من الحجر والمعدن من بقايا سفينة شحن، غرقت قبل حوالي 2300 عامًا قبالة ساحل جزيرة أنتيكيثيرا اليونانيّة. بعد مضي عام ونصف، لاحظ عالم آثارٍ شيئًا، يُذكِّر برأس ترس صدئ عالق في هذا الجسم غير المألوف.
على اليسار: جزء من آليّة أنتيكيثيرا الأصليّة، على اليمين: الآليّة المُعاد بناؤها | المصادر: Mogi Vicentini، ويكيبيديا، المتحف الأثريّ الوطنيّ اليونانيّ، أثينا
على مدى عقود، قام مشروع دولي كبير بمسح الآليّة باستخدام التّصوير المقطعيّ المحوسب (CT) والتّصوير الشعاعيّ (أشعّة رنتجن) وأشعّة غاما وطرق التّصوير الشعاعي الأخرى. من خلالها تمكّنوا من استعادة هيكل يشمل عشرات التّروس وآليّات تروس تفاضليّة. سيتمّ العثور على مثل هذه التّكنولوجيا مرّة أخرى فقط في أجهزة تمّ تصنيعها في القرن الثّامن عشر وما بعده، أي بعد حوالي ألفَي عام. استطاعت النّماذج الجديدة الّتي استندت على الآليّة القديمة محاكاة حركة الشّمس والقمر بدقّة كبيرة والتنبّؤ بالعيوب.
فيديو قصير: نموذج حديث لآليّة أنتيكيثيرا خلال عملها:
أثبت الكشف المفاجئ عن الآليّة رواية شيشرون الّتي بدت مبالغًا بها عن أجهزة الحاسوب التّماثليّة لأرخميدس. من يدري ما هي المفاجآت الأخرى الّتي تركها لنا أرخميدس، عبقريّ العصور القديمة العظيم، والّذي لا يزال يؤثّر ويفاجئ حتّى يومنا هذا.