قبل أن نُصدّق التحذيرات حول "الإشعاع الخلويّ" وما شابه، من الأفضل فهم نوع الإشعاع الذي نتحدّث عنه في كلّ حالة، وما الذي يمكن أن يفعله حقًّا.

كم مرّة سمعتم أنّ الإشعاع الصادر من الهاتف الخلويّ ضارّ، وبصورة أكبر من الهوائيّات، أنّ فرن الميكروويف خطر أو يجب عليكم الابتعاد عن المُحوّل الموجود في كابل شحن جهاز الحاسوب؟ ربّما عشرات المرّات على الأقلّ. في الواقع، إنّ العديد من هذه التحذيرات مبالغ فيها في أحسن الأحوال، وتستند إلى نقصٍ في الفهم العلميّ في أسوأ الأحوال.

لفهم ما إذا كان هناك أساس للقلق، وإذا كان الأمر كذلك - متى؟ يجب علينا إدراك أنّ هناك أنواعًا عديدة من الإشعاع في الكون، والأكثر صلةً بنقاشنا هذا هو الإشعاع الكهرومغناطيسيّ. يُعدّ هذا إشعاعًا شائعًا ومتنوّعًا جدًّا، بحيث يتضمن، من بين أشياء أخرى، الضوء الذي نراه بأعيننا، بالإضافة إلى موجات الراديو، الأشعة السينيّة والمزيد. أمّا القاسم المشترك بينها جميعًا هو أنّها تقلّبات دوريّة في شدّة المجالات الكهربائيّة والمغناطيسيّة. باختصار، يمكن القول إنّ هذه الحقول تصف شدّة القوى الكهربائيّة والمغناطيسيّة التي ستعمل في كلّ نقطة في الفراغ، إذا كان هناك جسم متأثّر بها.

يمكن وصف التقلّبات في الشدّة على أنّها موجة تمتدّ في الفراغ، ترتفع وتهبط في أيّ نقطة. مثل أي موجة، للإشعاع طول موجيّ - المسافة بين قمّتين متجاورتين للموجة، وله أيضًا تردّد - عدد الارتفاعات والانخفاضات، أو الدورات، التي يحدثها الإشعاع عند نقطة معينة في وحدة زمنيّة (غالبًا ثانية). ناتج ضرب هذين الحجمين ثابت، ويساوي سرعة انتشار الموجة في الفراغ: سرعة الضوء. من هُنا فإنّه كلّما زاد الطول الموجيّ، يقلّ التردّد والعكس صحيح.

هذه الخصائص مهمّة لنقاشنا، لأنّها تشير إلى طاقة الإشعاع - يشير الطول الموجيّ القصير والتردّد العالي إلى طاقة عالية، بينما يشير طول الموجة الطويل والتردّد المنخفض إلى طاقة منخفضة. هذا مهمّ، لأنّ الطاقة التي يحملها الإشعاع تملي كيفيّة تأثيره على الأشياء التي تُصيبها. يحدّد هذا التأثير بدوره، ما إذا كانت هناك ظروف قد يعرِّضنا فيها إشعاع مُعيّن للخطر.

אילוסטרציה של גל קרינה אלקטרומגנטית | Carlos Clarivan, Science Photo Library
للإشعاع طول موجي - المسافة بين قمتين متجاورتين للموجة، وكذلك التردد - عدد الدورات عند نقطة معينة في وحدة زمنية. رسم توضيحي لموجة إشعاع كهرومغناطيسي | Carlos Clarivan, Science Photo Library

عندما نقوم بتقسيم الإشعاع الكهرومغناطيسيّ إلى أنواع حسب الطاقة التي يحملها، يكون الإشعاع الراديويّ عند أدنى حدّ له. في المرّة الأخيرة التي ضبطتم فيها محطة في راديو FM، لاحظتم بكلّ تأكيد أنّ المحطات مُرقّمة بين 80 و 120 تقريبًا. هذا الرقم هو تردّد الموجة بوحدات ميغا هرتز، أي ملايين الدورات في الثانية. هذا مجال صغير من النطاق الكامل للإشعاع الراديوي، والذي يتراوح تردّده بين 3000 هرتز إلى 300 ميغا هرتز.

يليه الإشعاع الميكروي، تتراوح تردّداته بين 300 ميغا هرتز إلى 300 جيغا هرتز (300 مليار هرتز). يتواجد هنا الإشعاع الذي يسخن الطعام في فرنكم الميكروويف وكذلك الإشعاع المنبعث من جهاز التوجيه (راوتر) الذي يسمح لكم بالتّصفّح لاسلكيًا في المنزل - 2.4 جيغا هرتز أو 5 جيغا هرتز.

إذا ذهبنا خطوة أخرى إلى الأمام، سنصل إلى الأشعة تحت الحمراء، التي يتراوح تردّدها بين 300 جيغا هرتز حتّى 400 تيرا هرتز (400 تريليون هرتز). نستخدمه، من بين أشياء أخرى، في أجهزة التحكّم عن بعد للأجهزة الإلكترونيّة. ثمّ يأتي الضوء المرئيّ، الذي سمّي بهذا الاسم لأنّ هذا نطاق الإشعاع الكهرومغناطيسيّ الذي تستطيع أعيننا إدراكه، بين 400 تيرا هيرتز (الضوء الأحمر) و 790 تيرا هيرتز (البنفسجي). خطوة أخرى للأمام ستقودنا إلى الأشعّة فوق البنفسجيّة، تليها الأشعّة السينية (أشعة X)، وأخيرًا، أشعّة غاما التي تحمل أكبر قدر من الطاقة.

הספקטרום של קרינה אלקטרומגנטית | Friedrich Saurer, Science Photo Library
يشير الطول الموجي القصير والتردّد العالي إلى طاقة عالية، بينما يشير الطول الموجي الطويل والتردّد المنخفض إلى طاقة منخفضة. طيف الإشعاع الكهرومغناطيسيّ | Friedrich Saurer, Science Photo Library

إشعاع مؤين

لفهم العلاقة بين كلّ هذا والخوف من الإشعاع، يتعيّن علينا أن نفصل بين نوعين من الإشعاع، اللذين يختلفان عن بعضهما البعض في الطاقة التي يحملانها. الإشعاع المؤين هو إشعاع يحتوي على طاقة كافية لفصل إلكترون عن ذرّة أو جزيء، أي لتحويلها إلى أيونات - جسيمات ذات شحنة كهربائيّة. قد يؤدّي فصل الإلكترون إلى تغيير بنية الجزيئات وبالتالي يؤثّر أيضًا على وظيفتها. عندما تتسبّب مثل هذه الكمّيّة العالية من الإشعاع في إتلاف جزيء DNA في أجسامنا، قد تخلق فيه طفرات تسبّب السرطان وأضرارًا أخرى.

صنّفت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان الإشعاع المؤين في المجموعة 1 من عوامل الخطر، والتي تشمل المواد والحالات التي من المعروف أنّها تزيد من خطر الإصابة بالسرطان. تشمل المجموعة نفسها أيضًا المشروبات الكحوليّة واللحوم المصنّعة، لكنّ التصنيف نفسه ينصّ فقط على وجود الخطر، بغضّ النظر عن درجة الخطر، والتي في حالة الإشعاع المؤين تزداد مع الطاقة في الإشعاع.

في المقابل، الإشعاع غير المؤين هو إشعاع لا يحتوي على طاقة كافية للتأثير على بنية المادة. تأثيره الأساسي علينا هو أنّه يمكن أن يسخن الجسم الذي يصيبه، كما يفعل فرن الميكروويف للطعام الموجود داخله، أو ضوء الشمس للكرة الأرضيّة.

يعتمد الحدّ الدقيق بين الإشعاع المؤين وغير المؤين على التعريف، لكنّه موجود على أيّ حال في مكان ما داخل النطاق التردّدي للإشعاع فوق البنفسجيّ. لأنّ كلّ الإشعاع الذي يصل إلينا من الأجهزة المنزليّة، مثل الهواتف المحمولة، أجهزة الراديو وأفران الميكروويف، هو إشعاع غير مؤين، لا تشكل خطرًا على خلايا جسمنا ولا يوجد سبب لتوقّع أن تؤدّي إلى حدوث عمليّة سرطانيّة فيها.

אילוסטרציה של נזק לחומר גנטי | Equinox Graphics, Science Photo Library
عندما تتسبّب كمّيّة كبيرة من الإشعاع المؤين في إتلاف جزيء DNA في أجسامنا، يمكن أن تخلق طفرات فيه. رسم توضيحي للضرر الذي لحق بالمادة الوراثية | Equinox Graphics, Science Photo Library

تريدون أرقامًا؟ يبثّ موجه الإنترنت اللاسلكيّ إشعاعًا دقيقًا في تردّدات تبلغ 2.4 أو 5 مليار هرتز؛ تبعث الهواتف المحمولة إشعاعات ميكرويّة في نطاق يتراوح بين بضع مئات ملايين هرتز حتّى عدة مليارات هرتز، ولا تشكّل خطورة حتّى في المصعد؛ في حين أنّ الألواح الشمسيّة، المركبات الكهربائية ومواقد الحثّ ينبعث منها إشعاع في نطاق تردّدات الراديو.

وفقًا لمركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) في الولايات المتّحدة، فإنّ الإشعاع غير المؤين ليس خطيرًا في حدّ ذاته. يمكن أن يؤدّي التعرّض لكمّيّات كبيرة جدًّا منه إلى ارتفاع درجة الحرارة، لكن لا يوجد قلق حقيقيّ حيال ذلك في بيئة المنزل. الاستثناء هو الأشعة فوق البنفسجية. جزء منها، كما ذكرنا، هو الإشعاع المؤين، وبالتالي فهي خطيرة، لكن حتّى الأشعة فوق البنفسجيّة غير المؤينة يمكن أن تلحق بنا ضررًا. يساعد التعرض القصير لها، حتى ربع ساعة لمرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، الجسم على إنتاج فيتامين د. بالمقابل، عند التعرض العالي، على سبيل المثال بسبب التعرض لأشعة الشمس لفترة طويلة في ساعات الظهيرة أو استخدام أسرّة التسمير، قد تسبّب حروقًا في الجلد وضعفًا في الرؤية بل وتسبّب السرطان.

אילוסטרציה של מקורות קרינה שונים בבית | Shutterstock, elenabsl
كل الإشعاع الذي يصلنا من الأجهزة المنزلية هو إشعاع غير مؤين. رسم توضيحي لمصادر الإشعاع المختلفة في المنزل | Shutterstock, elenabsl

الحذر الوقائي

لماذا إذًا لا تزال السلطات تفرض قيودًا على انبعاثات الإشعاع من الأجهزة الكهربائية؟ يكمن الجواب في المبدأ الوقائيّ، الذي ينصّ على أنّه من الأفضل توخّي الحذر عند استخدام أدوات لا نعرف على وجه اليقين أنّها غير ضارّة، حتّى لو لم نكن على دراية بأيّ آليّة يمكن أن تسبّب الضرر بها.

على سبيل المثال، عندما دخلت الهواتف المحمولة حيّز الاستخدام الشامل منذ أكثر من عشرين عامًا، لم نكن نعرف على وجه اليقين ما إذا كان الإشعاع المنبعث منها يمكن أن يؤثّر سلبًا على صحتنا. على الرغم من عدم وجود طريقة معروفة يمكن أن تكون فيها الإشعاعات الميكروية التي تنبعث منها ضارّة، لكن لا يمكن استبعاد احتمال وجود طريقة كهذه والتي ببساطة لم نعرفها بعد. على هذا النحو، من المفضل التصرّف بحذر حتّى نعرف المزيد، حتى لا نأسف لاحقًا. لم تجد العديد من الدراسات التي أجريت على مرّ السنين أيّ صلة بين استخدام الهواتف الخلوية والإصابة بالأمراض، لذلك يمكن الآن تحديد بيقين شبه كامل أنّها آمنة، باستثناء احتمال تسبّبها في ضرر طويل الأمد للغاية، لعدة عقود - لأنّ التكنولوجيا لم تكن موجودة في السوق لفترة زمنيّة طويلة.

מדען מודד קרינה אלקטרומגנטית מאנטנה של טלפונים סלולריים | Philippe Psaila, Science Photo Library
لم تجد العديد من الدراسات التي أجريت على مر السنين أيّ صلة بين استخدام الهواتف الخليوية والمرض. عالم يقيس الإشعاع الكهرومغناطيسي من هوائي الهواتف الخليوية | Philippe Psaila, Science Photo Library
 

للتأكّد من أنّ الإشعاع المنبعث من الأجهزة لا يسبّب ضررًا، تُحدّد العديد من الدول معاييرًا للتردّدات الإشعاعيّة المنبعثة من الأجهزة الكهربائيّة التي يمكن بيعها لمزوّديها. بالتالي فهي تحدّ من كمّيّة الطاقة الموجودة فيها والحرارة التي يمكن أن تنشرها، على التوالي.

تستند المعايير في دولة إسرائيل إلى توصيات منظّمة الصحّة العالميّة (WHO)، لكنّها تفرض تشديدات أكثر منها، وفق نوع الإشعاع والوقت المقدّر للتعرّض له. على سبيل المثال، عندما يتعلّق الأمر بالإشعاع الراديوي في منطقة عامّة، حيث تكون مدّة تعرّض الناس للإشعاع قصيرة نسبيًا، فإنّ الحدّ الأقصى المسموح به من الإشعاع في إسرائيل هو 30 بالمائة من عتبة الخطر التي حدّدتها منظّمة الصحّة العالميّة لأسباب وقائيّة مانعة. في أماكن العمل أو في بيئة المنزل، حيث يتعرّض الناس للإشعاع لفترات أطول من الوقت، فإنّ المعيار في دولة إسرائيل يقف عند 10 بالمائة من الحدّ الدوليّ المعترف به. المعيار الإسرائيليّ للتعرّض للإشعاع من شبكة الكهرباء هو 1/250 من توصية منظّمة الصحة العالمية(WHO). لذلك حتّى فيما يتعلّق بالإشعاع غير المؤين الذي لا يعتبر خطيرًا، فإنّ المعيار الإسرائيلي صارم جدًا ولا يسمح لنا بالتعرض للإشعاع شديد المستوى. يمكنكم الاطمئنان.

0 تعليقات