هل تتجلّى الحقيقة من خلال العيون؟ أم من خلال طريقة الحديث أو حركات الوجه؟ يتّضح أنّنا غير متفوّقين في كشف متى يتمّ خداعنا

ربّما قد واجهتم حالة فيها حدّقتم بشخص أمامكم وطلبتم منه أن ينظر إلى أعينكم ويقول لكم إنّه لا يكذب. من المحتمل أنّه ردًّا على ذلك، قام أو قامت بتحديق النظر إلى أعينكم مؤكّدين بهذا أنَّهم يقولون الحقيقة. وبهذا  فإنّكم بالطبع قد ارتحتم. وأنتم كاشفو كذب رائعون. لن يتمكّن أحد من خداعكم!

الثقة في قدرتنا على اكتشاف الأكاذيب مشتركة بين معظم الناس. والشيء الآخر الّذي ربّما نشترك فيه جميعًا هو عدم قدرتنا على القيام بذلك بالفعل.

لماذا من المهمّ جدًّا بالنسبة لنا معرفة ما إذا كان يتمّ الكذب علينا؟ عندما نتواصل مع الآخرين، نحاول بطبيعة الحال فهم مشاعر، أفكار، احتياجات ونوايا الشخص الّذي أمامنا. القدرة على فهم وتحليل ما يدور في رأس شخص آخر، أو على الأقلّ تطوير فرضيّات حوله، هو ما يسمح لنا بالتعاون مع الناس بغية تقديم الثقة،  أو التفوّق على خصومنا في مواقف التنافس.

إنَّ الاعتقاد بأنَّ الكذّابين يوقعون بأنفسهم من خلال إشارات سلوكيّة لا يمكن السيطرة عليها له جذور قديمة. يظهر مكتوبًا بالتأكيد في نصّ هندوسيّ قديم، يعود تاريخه إلى 900 قبل الميلاد، أنَّ الشخص الّذي يكذب يميل إلى اللعب بشعره، أو يرتجف قليلًا أو يفرك أصابع قدميه على الأرض في تلك اللحظة. ادّعى الأب الروحيّ للتحليل النفسيّ، سيغموند فرويد، بعد ما يقرب من 2800 عام، أنَّ أجساد الكاذبين تخونهم، وأنَّ الكذبة تتسرّب من كلّ مسامات أجسادهم. قال إنَّ أيّ شخص فطن سيتمكّن من كشف الكاذب الّذي يقف أمامه.

حاول العديد من الباحثين منذ بداية القرن العشرين، الإجابة عن السؤالين الرئيسين المنبثقين عن هذه الادّعاءات: هل يعرف الناس حقًّا كيفيّة تحديد متى يُكذب عليهم؟ وما هي الإشارات الجسديّة الّتي تُميّز الأشخاص الّذين يكذبون؟ الاستنتاجات مثيرة للدهشة.


هل يعرف البشر حقًّا كيفيّة تحديد متى يُكذَب عليهم؟ عندما لا يبذلون جهدًا لتحديد ذلك  كما هو الحال في الصور هنا، كما يبدو، لا | Shutterstock, pathdoc

كاشف الكذب مُعطَّل

في تجربة نموذجيّة لاختبار قدرة الأشخاص على اكتشاف الكاذبين، يُطلَب من الأشخاص تحديد ما إذا كان الأشخاص الآخرون، الّذين يقفون أمامهم جسديًّا أو يظهرون في الفيديو، يقولون الحقيقة أم يكذبون. على سبيل المثال، في دراسة أُجريت عام 1991، كلّف الباحثون مختّصين تتمثّل وظيفتهم في الكشف عن الأكاذيب- كمحقّقي الشرطة، والقضاة والأطباء النفسيّين- بالحكم على ما إذا كان الطلّاب الّذين شاهدوا فيلمًا مثيرًا للهدوء أو للاكتئاب، قد وصفوا المشاعر الحقيقيّة الّتي أثارتها المشاهدة لديهم. فشل المشاركون الّذين لم يعرفوا ما شاهده الطلّاب فشلًا ذريعًا.

على الرغم من خبرتهم وتدريبهم المهنيّ، فإنَّ ادّعاءاتهم لم تنحرف إحصائيًّا عن مجالات التخمين. أظهرت العديد من الدراسات المماثلة نتائج متطابقة، سواء كان المشاركون أشخاصًا مهنيّين ذوي صلة أو أشخاصًا يفتقرون إلى أيّ تدريب.

ظهرت في السنوات الأخيرة فكرة أخرى يمكننا بموجبها اكتشاف الأكاذيب ضمنيًّا، بناءً على حركات صغيرة لا إراديّة لم ننتبه بأنّنا قد رأيناها. أي، يُفترض أنّه عندما يكذب شخص ما يتمّ التعبير بحركات صغيرة أو تعابير وجه سريعة لدرجة أنّنا لا نلاحظها مسبقًا. ومع ذلك، وفقًا للفرضيّة، ينجح دماغنا في إدراك أنّها كذبة. لكن، تُظهر الدراسات أنّه حتّى بطريقة غير مباشرة نفشل في اكتشاف الأكاذيب. إذا لم يكن ذلك كافيًا، فعندما صوّروا رجلًا يتحدّث وفحصوا مقطع التسجيل بعناية، لم يتمّ العثور على أيّ شيء مهمّ. في الواقع، اتّضح أنَّ الأشخاص يقومون بحركات قليلة جدًّا أثناء التحدّث، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا يقولون الحقيقة أو يكذبون.


أظهرت العديد من الدراسات أنَّ الأشخاص غير قادرين على اكتشاف الأكاذيب، سواء  كانوا أشخاصًا مهنيّين ذوي صلة أو أشخاصًا يفتقرون لأيّ تدريب. صورة تفّاحة "كاذبة" تخفي جانبها الفاسد | Shutterstock, Gustavo MS_Photography

تفسيرات لظاهرة غير قائمة

إذا كنّا فاشلين للغاية في اكتشاف الأكاذيب، فلماذا ما زلنا نعتقد أنّه من الممكن التمييز بين من يقول الحقيقة ومن يكذب  وفقًا لسلوكهم؟ ربّما إذا فهمنا ما يدور في أذهان الناس عندما يكذبون، سنعرف أين نبحث عن علامات تشير للغشّ؟

عرض عالما النفس والاس فريزين (Friesen) وبول إيكمان (Ekman) في عام 1969، أوّل نظريّة مُركّبة سعت إلى شرح العلاقة المفترضة بين الخداع والسلوك غير اللفظيّ. افترضوا استنادًا إلى نماذج التحليل النفسيّ لنظريات فرويد عن المشاعر اللاواعية، أنَّ الفشل في قمع المشاعر المرتبطة بالخداع تمامًا- القلق أو الخوف أو حتّى المتعة من احتماليّة خداع ناجح- قد يدفع الشخص إلى الكشف عن الكذبة من خلال إشارات غير لفظيّة.

وفقًا لهذا التفسير، والّذي يُعرَف باسم "فرضيّة التسرّب"، عندما نكذب، تنتابنا مشاعر لا يمكننا إخفاؤها ويتمّ التعبير عنها بحركات جسديّة يمكن التعرّف عليها. من بين هذه العلامات المفترضة، ذكروا خفض الرأس، وميلًا متزايدًا للوميض في اللفظ، بحّة في الحلق وتغيّر في نبرة الصوت.

على الرغم من اكتساب النظريّة شعبيّة كبيرة بين عامّة الناس، إلا أنَّ المجتمع العلميّ لم يثق بدقّتها. ادّعى منتقدوها أنّها لا تفسّر على الإطلاق سبب ظهور هذه المشاعر ومتى، وأنَّ التعريفات الواردة فيها عامّة للغاية ولا تسمح بإجراء تنبّؤات فعّالة. وإذا لم يكن ذلك كافيًا، لم يتمّ العثور فعليًّا على إشارات غير لفظيّة كافية للكشف عن الكذب.

أهملت النظريّات الجديدة التركيز على العاطفة، وتحوّلت إلى دراسة العلاقة المحتملة بين الأكاذيب والحمل المعرفيّ الّذي تسبّبه، أي، نوع من فيضان الأفكار. ومع ذلك، على الرغم من اكتشاف أنَّه يمكن للكذب أن يؤدّي إلى إجهاد فكريّ بالفعل، لم يتمكّن الباحثون من تحديد السلوكيّات الناتجة عن ذلك والّتي تشير بوضوح إلى الكذب.

ظهرت النظريّات التالية من مجال علم النفس الاجتماعيّ. تستند هذه التوجّهات على فهم مفاده أنَّ الأكاذيب تُقال في سياق اجتماعيّ، وأنَّ السلوك هو نتيجة للشخص والبيئة الموجود فيها معًا.

كان النهج الأوّل الّذي تناول البعد المتبادل في فعل الكذب، هو نظريّة الخداع بين الأشخاص (Interpersonal deception theory)، والّتي نصّت على أنَّ الخداع هو تفاعل ديناميكيّ بين مُرسِل الرسالة ومتلقّيها. ومع ذلك، لم تطرح النظريّة أيّة فرضيّات قابلة للاختبار. وضّحت نظريّة اجتماعيّة أكثر تقدّمًا، تُسمَّى "نظريّة التقديم الذاتيّ" (Self-presentational theory)، أنَّ الكاذبين والصادقين  يتقاسمون هدفًا مشتركًا- أن يُنظر إليهم على أنّهم يقولون الحقيقة.

ولهذه الغاية، قد يحاولون التصرّف بطريقة تُظهر المصداقيّة. لكن على الرغم من الهدف المتشابه، هناك اختلاف جوهريّ بينهما، لأنَّ الكاذبين، على خلاف الصادقين، يعرفون أنّ المصداقيّة الّتي يحاولون إيصالها قائمة على أساس غير متين. قد تؤدّي هذه الفجوة إلى تغييرات في السلوك تشير إلى الاحتيال. واجه هذا التفسير أيضًا نفس المشكلة الّتي واجهها سابقوه: لم يتمكّن الباحثون من تحديد السلوكيّات الّتي تشير إلى الكذب.


وفقًا لإحدى الفرضيّات، عندما نكذب، تنتابنا مشاعر لا يمكننا إخفاؤها ويتمّ التعبير عنها بحركات الجسم وأيضًا في نبرة الصوت. لكن فشلت هذه الفرضيّة أيضًا بصنع تنبّؤات فعّالة. رسم توضيحيّ لقياس صوت شخص كوسيلة لاكتشاف الكذب  | Shutterstock, Elymas

الحقيقة في الآلة

في غياب القدرة البديهيّة على التعرّف متى يُكذب علينا، ربّما يكون من الممكن تطوير آلة أكثر حساسيّة منّا، وهي أداة تكنولوجيّة موضوعيّة لاكتشاف الأكاذيب. تتعقّب هذه الآلة المؤشّرات الفسيولوجيّة وتسمح باستخلاص استنتاجات حول دقّة التصريحات الّتي أدلى بها الأشخاص  أثناء القياس.

يُعتبر هذا النهج قديمًا جدًّا. أصرّ الطبيب اليونانيّ إيراسيستراتوس سنة 300 قبل الميلاد تقريبًا، على أنَّ الحالة العقليّة والعاطفيّة للشخص تؤثّر أيضًا في أداء النظام البيولوجيّ لجسمه. وبالتالي، فمن الممكن أن ينعكس الانزعاج الّذي يشعر به الشخص من الكذب في التغيّرات الفسيولوجيّة اللاإراديّة الّتي تنشأ في الدماغ. وإذا كان الأمر كذلك، فمن الممكن قياس وتقدير هذه التغييرات بدقّة بمساعدة المعدّات المناسبة. هكذا ظهر جهاز كشف الكذب في القرن العشرين، والّذي سرعان ما أطلق عليه اسم "آلة كشف الحقيقة".

يرصد جهاز كشف الكذب (Polygraph) مجموعة من المؤشّرات المتعلّقة بمستوى الإجهاد واليقظة لدى الإنسان: ضغط الدم، النبض، حركة الصدر والحجاب الحاجز أثناء التنفّس، والتوصيل الكهربائيّ للجلد، والّذي يرتبط بالتعرّق. من هنا يأتي اسم الجهاز، وهو ما يعني "تسجيل متعدّد القنوات"، ما يعني التتبّع المتزامن لمقاييس متعدّدة.

على الرغم من اللقب الجذّاب، فإنَّ البوليغراف ليس حقًّا "آلة كشف الحقيقة". يدور الحديث عن جهاز يختبر ردود فعل الشخص الفسيولوجيّة اللاإراديّة من أجل تشخيص ردود الفعل الّتي تميّز الكذب، وليس ردود الفعل الّتي تميّز قول الحقيقة. لا يتفاعل جسم الإنسان بطريقة نموذجيّة أو خاصّة لقول الحقيقة. من ناحية أخرى، عندما يكذب الشخص ويعرف أنّه قد يتمّ القبض عليه لعدم قول الحقيقة، يبدأ الجهاز العصبيّ الودّيّ في العمل- سلسلة من الآليّات اللاإراديّة، مثل التعرّق، تسريع معدّل التنفّس ومعدّل ضربات القلب وأكثر من ذلك، والّتي يتمّ تفعيلها لتهيئة الجسم لحالات الطوارئ أو التوتّر أو التهديد. هذه هي ردود الفعل الّتي يختبرها البوليغراف.

إنَّ قدرة جهاز كشف الكذب على اكتشاف الأكاذيب تتجاوز بكثير القدرة الطبيعيّة للإنسان على القيام بذلك، ولكن له أيضًا بعض المحدوديّة. على الرغم من صعوبة التحكّم في المؤشّرات الفسيولوجيّة مقارنةً بالحركات الإراديّة والنظرات، تشير الدراسات إلى أنَّ هناك أشخاصًا يمكنهم الكذب في اختبار كشف الكذب دون اكتشاف أيّ تقلّبات في المؤشّرات. المشكلة أكثر خطورة في الاتّجاه المعاكس- قد يجزم الجهاز وباحتمال كبير أنَّ الشخص الّذي يقول الحقيقة قد كذب في الاختبار. قد يحدث شيء كهذا، على سبيل المثال، عندما يشعر في الضغط جرّاء فكرة الاختبار ذاتها، والخوف يؤثّر في المؤشّرات ويخلق تقلّبات سيتمّ تفسيرها على أنّها كذب.

لتحسين موثوقيّة الاختبار، من المعتاد عدم الاكتفاء بـ "الأسئلة الساخنة"، الّتي تتعامل مباشرة مع الموضوع المتنازع عليه، إنّما إرفاقها بنوعين آخرين من الأسئلة. الأوّل هو "الأسئلة الباردة"، والّتي لا تتعلّق بالموضوع والغرض منها قياس ردود أفعال الأشخاص على الأسئلة الّتي لا ينبغي أن تثير ردّ فعل عاطفيّ قويّ، على سبيل المثال "هل اسمك كذا وكذا؟"، لتوفير أساس للمقارنة مع الإجابة عن الأسئلة المهمّة. بالإضافة إلى ذلك، يتمّ استخدام أسئلة المقارنة، والّتي تكون بمثابة أسئلة مرجعيّة ذات صلة. إضافة إلى ذلك، يشير الفاحصون أيضًا إلى الطريقة الّتي يجيب بها الأشخاص عن الأسئلة، بحيث يبدأ التشخيص بمجرّد دخول الشخص إلى الغرفة.

نظرًا لقيودها، فإنَّ اختبارات البوليغراف بشكل عامّ غير مقبولة قانونيًّا. ومع ذلك، فإنَّ الحاجة إلى اختبار كذب موضوعيّ، حتّى لو لم تكن مثاليّة، كبيرة. لذلك مثل هذه الاختبارات لا تزال تستخدم كأداة في تحقيقات الشرطة أو التأمين، فهي تُستخدم لفحص المرشّحين للوظائف الحسّاسة وفي مقابلات العمل، وحتّى للتحقّق من دقّة المصادر في التحقيقات الصحفيّة الحسّاسة.


إنَّ قدرة جهاز كشف الكذب على اكتشاف الأكاذيب تتجاوز بكثير القدرة الطبيعيّة للإنسان على القيام بذلك، ولكن لديه أيضًا بعض القيود. شخص موصول بجهاز كشف الكذب | Shutterstock, Standret

الجميع يعلم أنَّ…

تمّ تكريس العديد من التفسيرات والنظريّات لأكثر من مائة عام من البحث لإيجاد سبب الظاهرة الّتي لا يزال وجودها موضع شكّ. ومع ذلك، هناك بعض العلامات الّتي ما زلنا نتوقّع أن نجدها لدى شخص يكذب. وأشهرها هو الميل إلى عدم إدامة النظر. إضافةً للأرق، والميل للعب بأطراف الشعر وغيرها.

إذًا، فلماذا لم يتمّ العثور على هذه العلامات في البحث؟ أحد الاحتمالات، بالطبع، هو عدم وجود أساس للقائمة. بدلاً من ذلك، يمكن القول إنَّ هذه العلامات للغشّ معروفة جيّدًا لدرجة أنّ معظم الكذّابين يعرفون ببساطة كيفيّة تجنّبها، على سبيل المثال، فإنّهم يحافظون على نظرة ثابتة باتّجاه الشخص الّذي أمامهم.

حاوِلوا أن تتذكّروا، متى كشفتم شخصًا يكذب أو تمّ كشفكم تكذبون؟ يكاد لا يحدث أبدًا، على الرغم من أنّنا جميعًا نكذب كثيرًا. حتّى في الحالات القليلة الّتي يتمّ فيها الكشف عن الكذبة، قد تكون المشكلة في المحتوى وليس في السلوك- أي إنَّ الكذبة نفسها لم تكن ناجحة. هناك تفسيران محتملان فقط لهذا: إمّا أنّه لا توجد علامات سلوكيّة موثوقة للكذب والغشّ، أو أنّها موجودة، لكنّنا لا ندرك وجودها وبالتالي ليس بمقدورنا التصرّف وفقًا لها. وربّما... ربّما عندما نؤمن بقدرتنا على اكتشاف الكاذبين فنحن فقط... نكذب على أنفسنا؟

0 تعليقات