على الرّغم من المخاوف من المخدِّرات الّتي تؤثّر على الوعي، يتوقّع الباحثون أنّها قد تكون مسؤولة إلى حدّ كبير عن تطوّر الثّقافات البشريّة المعقّدة والمتطوّرة

استخدمها البشر منذ آلاف السّنين – المخدِّرات، وهي موادّ الّتي تؤثّر على نشاط الدّماغ والجهاز العصبيّ. تعتبر آليّات عمل المخدّرات متنوّعة، لكنّها تؤثر عامَّةً على الوعي، كما وتغيّر إدراكنا الحسّيّ.

يتغيّر الوضع القانونيّ لاستخدام المخدّرات من فترة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر. مع ذلك، من الواضح تمامًا أنّ استخدامها ليس ابتكارًا حديثًا. تشير العديد من الاكتشافات المستندة على مواقع ما قبل التاريخ، إلى أنّ البشر قد تناولوا المخدّرات في العصور القديمة، بهدف تغيير إدراكهم الحسّيّ ومشاعرهم، وربّما كان للمخدرات دورًا رئيسيًّا في تكوين المجتمع البشريّ كما نعرفه اليوم.


يحوي السيلوسيبين (Psilocybin) الّذي يرتبط بمستقبلات السيروتونين في عدّة مناطق من الدّماغ. الفطر المهلوس | Cordelia Molloy, Science Photo Library

استعمال يحيط العالم

عُثِر على بقايا هياكل عظمية، لمئات الأشخاص في موقع دفن كبير من العصر البرونزيّ، منذ حوالي 3000 عام، في كهوف كاريتكس (Càrritx) بجزيرة مينوركا الإسبانيّة. وُجِدَت بعض هذه البقايا في حاويات مغلقة ذات أغطية مزخرفة برسومات دائريّة، والّتي كانت محفوظة في مكان منفصل عن البقيّة. أتاحت هذه الحاويات المغلقة الحفاظ على بقايا عضويّة مثل الشّعر بحالة جيّدة نسبيًّا.

استغلّت مجموعة من الباحثين من إسبانيا وتشيلي البقايا الموجودة في هذا الموقع، وفحصوا الشّعر البشريّ. فُحِصَت هذه العيّنات في تقنية الاستشراب، والتي تُدعى أيضًا بالكروماتوغرافيا (Chromatography)، والّتي تسمح بفصل المواد بناءً على خصائصها الكيميائيّة. كشف الفحص عن وجود تركيز عالٍ من المواد الّتي تؤثّر على الوعي، والّتي يُعتقد أنّها مخدّرات مشتقّة من النّباتات، الَّتي اُستُهلِكت في مراسم طقوسيّة معيّنة. عُثِر على مركّبات من مواد ذات تأثير على الوعي، في ثلاث عيّنات من الشّعر. أوّل مُركّبيْن هما الأتروبين (Atropen) والسّكوبولامين (Scopolamine) أو ما يُعرف بمصل الحقيقة - وهي مواد مستخرجة من نباتات فصيلة الباذنجانيّات (Solanales) مثل الداتورة (Datura)، والّتي تسبّب الهلوسة والشّعور بالانفصال عن الواقع، وتغيّرات في الإدراك الحسّيّ. أمّا المادّة الإضافيّة الّتي عُثِر عليها فهي الايفيدرين (Ephedrine)،  التي تُستَخدم من من نبات شائع يسمّى العلندي (Ephedra)، ويؤدّي استهلاكها لزيادة الإثارة العاطفيّة والفسيولوجيّة. 

بالإضافة إلى ذلك، عُثر على بقايا عبر المحيط الأطلسيّ، في جبال الأنديز في جنوب بيرو، والّتي تعود لهياكل أطفال محنّطة كانوا أفرادًا من ثقافة الإنكا (Inca أو Inka)، الّتي حكمت المنطقة حتّى القرن السّادس عشر الميلاديّ، والّتي تقوم بالتّضحية بالأطفال كجزء من طقوس تسمّى كاباكوتشي. كشف الفحص على مستويات عالية من الكوكايين والكوكايثيلين (Cocaethylene) المستخرج من نبات الكوكا (Erythroxylum coca) في بقايا شعر المومياوات وأظافرها لهؤلاء الأطفال. كما عثروا على بقايا المخدّر مسكالين (Mescaline) الموجود في صبّار البيوت وصبّار سان بيدرو الّذي ينمو في أمريكا الجنوبيّة.

يرتبط المسكالين بمستقبلات النّاقل العصبيّ السيروتونين في الدّماغ، ويسبِّب الهلوسة، بحيث يؤثر على الإحساس بالوقت ويسبّب تغيّرات في المدخلات البصريّة - على سبيل المثال، يجعل الألوان تبدو أكثر كثافة. بينما يرتبط الكوكايين بمستقبلات النّاقل العصبيّ الدّوبامين في الدماغ، ويمنع إعادة امتصاصه، وبالتّالي يبقى مستوى الدّوبامين مرتفعًا لفترة طويلة. لهذا السبب، يشعر متعاطي الكوكايين بالنّشاط والنّشوة. يتمتّع الكوكايين أيضًا بإمكانيّة عالية للتّسبّب في الإدمان، لأنّ الدّوبامين هو النّاقل العصبيّ الّذي يعمل في نظام المكافأة في الدّماغ - وهي الآليّة الّتي تجعلنا نريد المزيد والمزيد، ممّا يمنحنا شعورًا جيّدًا.

جنوبًا، في طقوس يعود تاريخها إلى حوالي 1000 ميلاديّ في بوليفيا، عُثِرَ على بقايا العديد من المركبات، بما في ذلك الهارمين و ثنائي مثيل التربتامين (Dimethyltryptamine وباختصار DMT)  المستخرجات من نبات الآيا واسكا (Banisteriopsis caapi)، المعروفة أيضًا باسم كرمة الأرواح أو كرمة الآلهة. يرتبط الـ DMT بمستقبلات السيروتونين في الدّماغ وينشطها بكثافة عالية، بينما تمنع مادّة الهارمين تحلّل مادّة الـ DMT. لذلك، مزيج هاتيْن المادّتين يطيل مدّة نشاط مادّة DMT، الّتي تستهلك أكلًا أو شُربًا.  يُنتَج مشروب الآيا واسكا من طبخ النّباتات، والّذي يستخدم حتّى اليوم في طقوس العبادة والشّفاء، الّتي تمارس في مجتمعات معيّنة في أمريكا الجنوبيّة والوسطى. يشعر من يشربونه بالهلوسة البصريّة والشّعور بالنّشوة الّتي تستمرّ لعدّة ساعات، ويعود ذلك للنشاط المتزايد للـ DMT.

حتّى في إسرائيل، عُثِرَ على أدلّة أثريّة تشير إلى استهلاك المواد المؤثّرة على الوعي. خلال حفريات تل عراد، عُثِرَ على بقايا مواد عضويّة على مذبح موجود في معبد من فترة الهيكل الأوّل في مملكة يهوذا. حدّد الفحص الدّقيق لهذه البقايا وجود المكوّنات النّشطة في نبات القنّب (Cannabis)، المسؤولة عن آثار نفسيّة وجسديّة للمستهلكين.


أبلغ الأشخاص الّذين يشربون هذا المشروب عن تعرّضهم للهلوسة البصريّة والشّعور بالنّشوة الّتي تستمرّ لعدّة ساعات. شامان في الإكوادور خلال حفل آيا واسكا |Ammit Jack, Shutterstock

"القرد المنتشي"

إذا كان الأمر كذلك، تُشير العديد من النّتائج إلى أنّ البشر قد استهلكوا العديد من المواد الّتي فعلًا تؤثر على الوعي في الماضي البعيد، كجزء من طقوس العبادة، وربّما لاستخدامات أخرى أيضًا. ولكن لماذا فعلوا ذلك؟ وما هو الدّور الّذي لعبته هذه المواد في تطوّر الحضارة الإنسانيّة كما نعرفها اليوم؟

اقترح عالم الأحياء والمؤلّف تيرينس ماكينا (Terence McKenna)، الّذي درس العلاقة بين الثّقافات البشريّة والنّباتات، في كتابه "طعام الآلهة" (Food of the Gods)، أنّ الفطر المهلوس كان بمثابة حافزًا لتطوّر المجتمع البشريّ. وادّعى ماكينا، الّذي اشتهر من بين أمور أخرى بدعمه للاستخدام المسؤول للفطر المهلوس، أنّه عندما هاجر الإنسان البدائيّ شمالًا من القارّة الأفريقيّة بسبب الجفاف، وصلوا إلى مناطق ينمو فيها الفطر المحتوي على مادّة السيلوسيبين المهلوسة بشكل طبيعي وأستهلكوه. يرتبط السيلوسيبين بمستقبلات السيروتونين في مناطق عديدة من الدّماغ. وعليه فإنّ تأثيرها على الوعي واسع ومتنوع، ويحدث تغيّرات في الإدراك الحسّيّ والعواطف والوعي.

عند تناول جرعات منخفضة، يمكن أن يعزّز السيلوسيبين من حدّة الحواس، وبالتّالي يفيد الصّيادين وجامعي الطّعام في الحصول على الغذاء. أمّا عند تناول جرعات أعلى، فيقوم بتحفيز الرغبة الجنسيّة، وأحيانًا يمرّ الأشخاص الّذين استخدموا جرعات عالية جدًّا بتجارب روحانيّة، مثل انعدام أهمّيّة الذّات والشّعور بالوحدة مع الكون. ولم تحظ نظريّة ماكينا، الّتي أطلق عليها اسم "القرد المنتشي"، بدعم كبير في المجتمع البحثيّ، بل تمّ تهميشها. ولكن في السّنوات الأخيرة، تجدّد الاهتمام بالموادّ المخدّرة.

تؤثّر الموادّ المخدّرة على حالة الوعي والإدراك الحسّيّ وغيرها، وتسبّب في بعض الأحيان الهلوسة وتغيّرات في الشّعور الذّاتيّ. نشر علماء الأنثروبولوجيا مايكل وينكلمان (Michael Winkelman) وخوسيه آرس (José  Arce) عام 2021، مقالًا يحوي نتائج متنوعة تشير إلى أنّ استهلاك المواد المخدّرة كان له مزايا تطوريّة - أي أنّ الأفراد والمجتمعات البشريّة التي استهلكت هذه المواد استفادت من تأثيرها، الّذي سهّل عليهم التّكيّف مع بيئتهم و العالم المتغيّر من حولهم.

مع ذلك، هناك مشكلة في هذا الادّعاء: عادة يصف التّطوّر انتقال الخصائص بيولوجيًّا من جيل إلى آخر – أي عن طريق الجينات. لكن الموادّ المخدّرة لا تغيِّر المادّة الوراثيّة في خلايانا. لذلك لا يتعلّق الأمر هنا بخصائص وراثيّة، بل بأنماط سلوكيّة اجتماعيّة الّتي لربّما قد منحت مستهلكيها ميزة البقاء على قيد الحياة. على سبيل المثال، يمكن للسيلوسيبين، المادّة الفعّالة في الفطر المهلوس، أن تكون مفيدة في التّعامل مع التّوتّر والقلق، وتشجيع المرونة العقليّة والإبداع. قد تشجّع الظّواهر مثل انعدام أهمّيّة الذّات على التّعاطف، وتقوّي الرّوابط الاجتماعيّة بين الأفراد في المجموعة. في حين أنّ الشّعور بالوحدة يمكنه أن يلعب دورًا في الاحتفالات الطقسيّة القبلية، وتشكيل القيم المشتركة واتّخاذ القرارات كمجموعة.

الإنسان هو مخلوق اجتماعيّ. اعتمد الإنسان البدائيّ على أبناء قبيلته أو مجموعته للبقاء على قيد الحياة. حتّى في المجتمع الحديث، ذكّرتنا جائحة الكورونا مؤخّرًا بمدى أهمّيّة روابطنا الاجتماعيّة لرفاهيّتنا الجسديّة والنّفسيّة. وفقًا للباحثين، فإنّ استخدام الموادّ المؤثّرة على الوعي، وخاصّة المخدّرات مثل السّيلوسيبين، عزّزت وسرّعت من تطوير العلاقات الاجتماعيّة المعقّدة والتّعاون بين البشر. تمتّعت المجتمعات البشريّة الّتي تبنّت القدرات، العادات والأعراف الّتي شجَّعت العلاقات الاجتماعيةّ بميزة تطوّريّة، وبالتّالي أُنشِئت حلقة ردود فعل إيجابيّة، والّتي مع مرور الوقت أتقنت أنماط التّواصل بين البشر، حتّى التّواصل اللّغويّ الغنيّ اليوم.

لقد شهدنا في السّنوات الأخيرة إحياءً متجدّدًا لمجالات البحث والعلاج الطّبّيّ والنّفسيّ، باستخدام مواد تؤثّر على الوعي. توضّح الاكتشافات أنّه عند استخدام هذه المواد بحكمة، فإنّها قد تفيد مجموعات معيّنة من السّكّان. في الوقت الحالي، تضع معظم دول العالم قيودًا صارمة على استخدام معظم هذه المخدرات وتوزيعها. مع ذلك، فإنّ الوضع القانونيّ لهذه المواد قد تغيّر بالفعل في الماضي، ومن الممكن أن يتغيّر حتّى في أيامنا هذه، إذا تمّ إجراء دراسات جديدة كافية لإثبات إيجابيّات استخدام هذه المواد. وإلى جانب المخاوف بشأنها، ومع الوعي المتزايد بالإمكانات العلاجيّة والطّبّيّة، يجدر بنا أن نتذكّر أنّ استخدام المواد ذات التّأثير على الإدراك، موجودة منذ فجر التّاريخ البشريّ.

 

0 تعليقات