أحدثت الشّبكات العصبيّة ثورة كبيرة في تطوير الذّكاء الصناعيّ. ومع ذلك، ليس من الواضح للمُبرمجين حتّى كيف تتوصّل هذه الشبكات لِحلّ المشاكل وما هي انعكاساتها علينا

عندما نشاهد صورة لحيوان فرويّ بِذَيل، فإنّنا جميعًا نستطيع بسهولة التّمييز ما إذا كان قطّة أم كلبًا. لكن إذا توقّفنا للحظة وفكّرنا في الأمر، سنجد أنّنا لا ندرك حقًّا كيف قمنا بذلك.

عندما نحاول شرح الفرق بين القطّة والكلب، نتطرّق عادةً إلى الخصائص مثل بُنيَة الأنف، ومواصفات الوجه، وغيرها من الصّفات المماثلة. الفرضيّة غير المفهومة ضمنًا من وراء هذا التّفسير هي أنّنا نعرف ما هي أعضاء الوجه لدى القطط والكلاب. ولكن عندما يريد المبرمج إنشاء خوارزميّة (وصفة تتكوّن من سلسلة تعليمات وشروط)، من شأنها أن تمكّن جهاز الحاسوب من التّمييز بين القطط والكلاب، فإنّه لا يسمح لنفسه أن يفترض مثل هذه الفرضيّة. يستطيع الحاسوب معالجة المِيزات الأساسيّة والبسيطة للصور فقط. 

ابتكر الفيزيائيّ الشّهير ريتشارد فاينمان (Feynman) تجربة ذهنيّة توضّح جيّدًا صعوبة شرح شيء ما بمساعدة خصائصه الأساسيّة فقط. تخيّلوا أنّكم تتحدّثون بالهاتف مع كائنٍ فضائيّ من مجرّة بعيدة، يعرف لغتكم ولكنّ جسمه مختلف تمامًا عن أيّ شيء نعرفه. إذا حاولنا أن نقول له "لدى القطّة وجه مسطّح أكثر من الكلب" فسوف يجيب متسائلًا: "ما هو الوجه؟". ومن المحتمل أن نحصل على نفس الإجابة بخصوص العَينين، والأنف والأذنين. يمكننا الاستمرار ومحاولة شرح ماهيّة جميع أجزاء وجوه الكلاب والقطط، لكنّها ستكون محادثة طويلة ومُضنية.

لو تمكّنا من إرسال الصّور إلى المخلوق الفضائيّ، لكانت مهمّتنا أسهل بكثير. إذا أرسلنا صور كلاب وقطط، حينها سيتعلّم كيف يعرف كلّ واحدٍ منها. لكن سَيُعيدنا هذا إلى نقطة البداية. رغم أنّ المخلوق الفضائيّ سيعرف كيف تبدو الكلاب والقطط، إلّا أنّه لن يستطيع شرح كيفيّة التمييز بينها عِوضًا عن التّعميم المستند على الأمثلة. 

نوفّر اليوم للحاسوب القدرة على التمييز بين الحيوانات ومهارات متنوّعة كثيرة أخرى بواسطة طريقة التّعلّم الذاتيّ القائم على العديد من الأمثلة. إنّ الفرع العلميّ الّذي يتعامل مع هذا المجال يُدعى "التّعلّم الآليّ"، وإحدى الطّرق الرئيسة لتطبيق عمليّة التّعلّم هي من خلال نموذج يهدف إلى محاكاة طريقة عمل الدماغ: شبكة عصبيّة. 

אבל איך בעצם אנחנו עושים את זה? חתול וכלב |  KDdesignphoto, Shutterstock
من السّهل جدًا علينا التمييز بين الكلب والقطّ. لكن كيف نفعل ذلك فعليًّا؟ قطّ وكلب | KDdesignphoto, Shutterstock 
 

كيف تعمل هذه الشّبكة؟

العَصَبُون (الخليّة العصبيّة) هي الخليّة العصبيّة الرئيسة الّتي يتكوّن منها الدّماغ وشبكتنا العصبيّة بأكملها. تحوي الخليّةُ جسمًا مركزيًّا يخرج منه العديد من الفروع الصّغيرة، تسمّى الزائدة الشجريّة (التّغصّن)، تستقبلُ الخليّة من خلالها إشاراتٍ من الخلايا العصبيّة الأخرى. المحور العصبيّ هو امتداد آخر أطول، يقوم بنقل الإشارات إلى الخلايا العصبيّة البعيدة. وبهذا الشّكل، هناك شبكة متشابكة ذات ديناميكيّات معقّدة للغاية، حيث تستجيب كلّ خليّة عصبيّة للمحفّزات الكليّة الّتي تتلقّاها من جيرانها وتؤثّر في الآخرين. 

تعمل الشّبكات العصبيّة الصناعيّة المطبّقة في أجهزة الحاسوب بطريقة مشابهة. يمكن أن تتكوّن شبكة من الخلايا العصبيّة الّتي تميّز بين القطط والكلاب من طبقات، ولكلٍّ منها عدد مختلف من "الخلايا" من أنواع مختلفة، تعالج المعلومات الموجودة في الصورة بطرقٍ مختلفة. مثلًا، يمكن أن تحوي الطّبقة الأولى خليّة واحدة لكلّ عددٍ من وحدات البكسل (نقاط) في الصّورة، وآلاف الخلايا في المجمل، بينما تتضمّن الطّبقة الأخيرة خليّة واحدة تتنبّأ إن كانت الصورة تعرض قطّةً أم كلبًا. هنالك العديد من أشكال الشّبكات العصبيّة، ولكلّ منها مزاياها وعيوبها.

يمكن مقارنة هذه الديناميكيّة بعمليّة خَبز الكعكة. نبدأ ببعض المكوّنات، وفي كلّ خطوة نقوم بخلطها، ونستمرّ في استخدام مَنتوج الخطوات السّابقة في الخطوات الّتي تليها. كلّ مكوّن لهُ وزن مختلف في كلّ مرحلة، على سبيل المثال، قد لا تكون كميّة السّكر في الخليط ضروريّة للتحضير، لكنّ نقصًا في مسحوق الخبز قد يفسد الكعكة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن نستخدم بعض المكوّنات في عدّة مراحل مختلفة وفي كلّ منها بجرعة مختلفة. 

ومع ذلك، هناك فرق جوهريٌّ بين الشبكة العصبيّة الصناعيّة وخبز الكعكة. فالكعكة تحوي وصفة تحدّد جرعة كلّ مكوّن، بينما في الشّبكة العصبيّة يجب إيجاد الوزن المناسب الّذي سينتج تنبّؤات دقيقة وصحيحة من الواقع. تُدعى هذه العمليّة "التّدريب"، وهي تتمّ بالطريقة الّتي يتعامل بها طبّاخ ماهر مع وصفة جديدة؛ فهو يفحص بعناية ما إذا كان عليه زيادة تركيز مكوّنٍ ما من شأنه أن يُسهم في تكوين الكعكة والتقليل من مكوّن آخر يسيء لمذاقها. وبشكلٍ مشابه، عندما يتمّ تدريب شبكة عصبيّة، يتمّ تغيير الوزن الّذي يُمنَح لكلّ مكوّن من مكوّناتها من أجل أن تعطي تنبّؤات دقيقة قدر الإمكان وِفق الأمثلة الموجودة لديها.

رغم أنّ فكرة استخدام الشّبكات العصبيّة معروفة ودُرِست منذ عقود، فإنّها لم تُستخدَم حتّى إلى وقتٍ قريب، ويرجع ذلك أساسًا إلى العديد من الصّعوبات الملازمة لعمليّة التدريب. تُشبه هذه العمليّة موقف الخبّاز الّذي يفتقر إلى وصفة الكعكة، ولكن لديه فقط مجموعة من المكوّنات، ويجب عليه معرفة الكعكة الّتي سيقوم بخبزها. في مثل هذه الحالة، سيحتاج إلى وقتٍ طويلٍ وسَيعاني من إخفاقاتٍ عديدة قبل أن يتمكّن من خبز أيّة كعكة يرغبها. 

وبشكل مشابه، سيتطلّب كتالوج القطط والكلاب عددًا هائلًا من الأمثلة، وإلّا فقد لا تعرف الشّبكة كيفيّة تعميم تنبّؤاتها على الصّور الجديدة الّتي لم يتمّ عرضها عليها أثناء التدريب. وفي النّهاية، من الممكن أن يقوم خبّازنا المُتخيَّل، بعد تدريبٍ طويل، بتطوير وصفةٍ مشابهة لوصفةٍ مألوفة لكعكة حقيقيّة. ولكن هنالك احتمال آخر- هو أن يكوّن لنفسه وصفةً مختلفة، تُنتج الكعكة المرغوبة، لكنّ الخبّازين ذوي الخبرة سيجدون صعوبةً في فهم كيفيّة الحصول على كعكةٍ في النّهاية. الحالة الثّانية هي الأكثر شيوعًا في تدريب الشّبكات. في حال عدم وجود وصفة أوّليّة، تعتمد الشّبكات العصبيّة على التّعلّم الآليّ- وهو عبارة عن طريقة تسمح للحاسوب بتطوير مجموعة أنماط (خوارزميّات) لازمة لحلّ مشكلة ما.

بدأ الاستخدام واسع النّطاق للشّبكات العصبيّة المُحَوْسَبة في العقد الماضي فقط، بسبب صعوبات عمليّة التّعلّم. هناك عدّة أسباب لهذا التّطوّر، ومن بينها الإنترنت، الّذي أنتج قواعد بيانات ضخمة غنيّة بالصّور والمعلومات الأخرى، وتعزيز القدرة الحسابيّة لأجهزة الحاسوب في القرن الميلاديّ الحادي والعشرين.

רשת של תאי עצב | מקור: NOBEASTSOFIERCE, Science Photo Library
تحاكي الشّبكات العصبيّة الصناعيّة المطبّقة في أجهزة الحاسوب بوسائل عديدة الشّبكات العصبيّة في الجسم. شبكة من الخلايا العصبيّة | المصدر: NOBEASTSOFIERCE, Science Photo Library
 

مجال استخدامها

بسبب نجاحها المذهل في المهامّ الّتي فشلت فيها العقول السّابقة، من الصّعب اليوم العثور على صناعة مهمّة لا تستخدم الشّبكات العصبيّة. يتمّ استخدامها للتنبّؤ بالفيضانات وتشغيل المركبات المستقلّة الّتي تعرف كيفيّة تحديد مركبات أخرى ومخاطر على الطّريق، وَتحديد أقساط التأمين، وتشخيص الأمراض والمتلازمات وأكثر من ذلك بكثير. 

كان أحد الاستخدامات الأولى للشّبكة العصبيّة هو معرفة الأرقام في الصّورة. فقد أعطوا الشّبكة صورة ذات جودة سيّئة، وتركوها تحدّد بنفسها احتمال ظهور كلّ رقم من الأرقام، من الرقم صفر حتّى الرقم تسعة. لإتمام هذا الأمر، كان عليهم ملاءمة هندسة الشّبكة- مبنى الرّوابط ووظيفة كلّ خليّة عصبيّة في داخلها من أجل إتمام هذه المهمّة الخاصّة. بدأت البنوك في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في سنوات التسعين في استخدام مثل هذا النّظام لتحليل الخطّ المدوّن على ملايين الشيكات، واليوم توجد بالفعل أنظمة آليّة فعّالة للموافقة على الشّيكات دون الاستعانة ببني البشر. 

تمّ تحقيق مَعلم آخر مهمّ في إثبات قدرات الشّبكات العصبيّة في سنة 2016م، عندما هزمت هذه الشّبكة الفنّان الكوريّ لي سي دول في اللّعبة الاستراتيجيّة جو. ومع أنّه قبل 19 سنة تمكّن نظام ذكاء صناعيّ أكثر تبسيطًا من التّغلّب على بطل الشّطرنج العالميّ آنذاك، جاري كاسباروف، لكنّ عدد الحركات الممكنة في لعبة جو أكثر ممّا هو عليه في لعبة الشّطرنج، ويتجاوز القدرة الحسابيّة لأنظمةٍ من هذا النّوع. 

حَدَث الاختراق الكبير عندما طوّرت شركة الذّكاء البريطانيّة DeepMind شبكة تحاول تحديد ما إذا كانت سلسلة من الخطوات في جو مُجزية أم لا؛ ما يجعل من الممكن إلغاء خطواتٍ بشكل أكثر نجاعةً. عندما نجح البرنامج في التّغلّب على اللاعبين البارزين في العالم واحدًا تلو الآخر، اعتبره بعض الخبراء علامة فارقة نحو تطوير "الذّكاء الصناعيّ العامّ"، القادر على أداء أعمال ذكيّة متنوّعة مثل بني البشر. 

بعد أربع سنوات، توصّل DeepMind إلى إنجاز أكثر أهميّة، وكان ذلك في مجال الكيمياء الحيويّة، عندما طوّرَ نظامًا يجمع بين العديد من الشّبكات العصبيّة، يتنبّأ بنجاح كيف تتحرّك البروتينات في الفراغ. يتكوّن كلّ بروتين في الجسم الحيّ من سلسلة من الأحماض الأمينيّة، ويقوم شكله الفراغيّ بتحديد طريقة عمله. هذه المعلومات ذات أهميّة كبرى في علم الأحياء والطّب، ومن أجل اكتشافها مخبريًّا يجب استثمار الكثير من الوقت والمال. يُعدّ هذا النّظام الّذي طُوّرَ أكثر دقّةً من أيّة طريقة وُجِدت قبله، لذلك سرعان ما تمّ استخدامه في المؤسّسات البحثيّة وشركات التكنولوجيا الحيويّة. ومع ذلك، نظرًا لكونه تنبّؤًا جيّدًا ولكن غير كامل، فإنّه لا يزال بحاجة في بعض الأحيان إلى التحقّق منه تجريبيًا. 

לוח גוֹ | מקור: Dilaudid, Wikipedia
عدد الخطوات الممكنة في لعبة جو أعلى بكثير ممّا هو عليه في لعبة الشّطرنج؛ لذا فقد شكّلت اللّعبة تحدّيًا كبيرًا لشركات الذّكاء الصناعيّ. لوحة جو | المصدر: Dilaudid, Wikipedia
 

القيود والمخاطر

يثير التوسّع المستمرّ في استخدام الشّبكات العصبيّة أيضًا بعض المخاوف. أحد مصادر القلق هو طبيعة التكنولوجيا ذاتها، وخاصّة حقيقة كونها "صندوقًا أسود" محكم الإغلاق، إذ يعطي نتائج يصعب فهم كيف توصّل إليها. هناك قلق آخر يتعلّق بالمواجهة بينها وبين البشر، لأنّ الكثيرين لا يعرفون كيفيّة التّعامل بشكل صحيح مع أنظمة الذّكاء الصناعيّ المتقدّم، وعلى سبيل المثال يميلون إلى الاعتماد عليها بشكل مفرط. 

إذا تمّ التّعامل مع القرارات الّتي تنتجها الشّبكات كما لو كانت حقيقة مطلقة، وليس مجرّد توقّع مع مقدار معيّن من الشّكّ، فسيُفتح الباب لحدوث إخفاقات خطيرة. حدثت مثل هذه الإخفاقات مثلًا في نظام فحص الشيكات، حيث أخطأ النّظام ولم يتمّ تصحيح الخطأ لعدم وجود رقابة بشريّة على عمليّاته. تبيّن إهمال مشابه لدى سائقي سيّارة تِسلا، حيث بسبب الثّقة المفرطة في نظام القيادة الذاتيّة للسيّارة، لم يمسكوا المقود بأيديهم أثناء القيادة. عندما حصل فشلٌ في النّظام، لم يكن لديهم الوقت الكافي ليقوموا بردّ فعلٍ، وتسبّب ذلك بوقوع حادث طرق. 

تعاني الشّبكات العصبيّة الحاليّة من عائقٍ خطير آخر: من الصعب تكييفها لِمهامّ جديدة بعد أن اعتادت على إنجاز مهمّة خاصّة. في سنة 2020م، تمّ عرض نظام التّعلّم الآليّ المسمّى GPT-3، القادر على إكمال جملة جزئيّة إلى جملة كاملة، وفقرة، وحتّى عدّة فقرات، وينجز ذلك بأسلوب إنسانيّ ومتناسق.

من أجل الوصول إلى هذه القدرات، قمنا بتدريب الشّبكة على قاعدة بيانات ضخمة تبلغ 45 تيرابايت أُخِذَت من الإنترنت. للمقارنة، يبلغ المحتوى الكامل لموسوعة ويكيبيديا على الإنترنت باللّغة الإنجليزيّة حوالي 21 جيجابايت، أي أقلّ من جزء من الألف من حجم المعلومات الّتي قمنا بتدريب الشّبكة عليها. كلّفت عمليّة التدريب هذه 12 مليون دولار، لكنّ إمكانيّات النظام محدودة. تكمن إحدى أكبر المشكلات بالتّقادم: نظرًا لكون التّدريب عبارة عن عمليّة لمرّة واحدة، و GPT-3 لا يتمّ تحديثها بآخر التطوّرات، وعندما تُسأل على سبيل المثال "من هو رئيس وزراء بريطانيا؟" فسوف تجيب بـ "تيريزا ماي"، رغم تغيير رئيسَينِ آخرين للوزراء في المملكة في هذه الأثناء. بالإضافة إلى ذلك، فهي تفشل في الإجابة عن أسئلة بسيطة مثل "ما هو حاصل جمع 32+45؟" لأنّ هذا ليس نوعًا من النّصّ الّذي يظهر كثيرًا على شبكة الإنترنت. لذا فهي شبكة ذات إنجازات كبيرة، لكنّ درجة نجاحها تعتمد بشكل كبير على الهدف المطلوب تحقيقه. 

נהג ברכב אוטונומי סומך על מערכת הנהיגה | Flystock, Shutterstock
الشبكات العصبيّة ليست خالية من الإخفاقات، ويجب التّعامل مع نتائجها بدرجة من الحذر. يثق سائق في مركبة ذاتيّة التّحكم على نظام القيادة| Flystock, Shutterstock 
 

ما الّذي يختبئ في الصّندوق؟

لكن، ومع كلّ الإخفاقات التكنولوجيّة والمشاكل النابعة من طبيعة البشر، فإنّ مشكلة الصّندوق الأسود هي عدم قدرتنا معرفة الأمر الذي اعتمد عليه النّظام لاتّخاذ قراراته. التّدريب الشبكيّ لا يُعتبَر تعلّمًا بالمعنى الإنسانيّ للكلمة، لأنّه يعتمد على إيجاد روابط وعلاقات بين الأمور فقط، وليس على فَهمِها. لذلك، عند تدريب شبكة لتحقيق هذا الهدف أو ذاك، فإنها عادةً ما تختار الطّريقة "الغبيّة"- على سبيل المثال، من أجل معرفة صورة بِناءً على الخلفيّة بدلًا من الهدف المصوَّر نفسه. نظرًا لأنّ الحشرات تصوّر عادةً على الأوراق أو الزهور، فقد تستنتج الشبكة أنّ أيّ كائن تمّ تصويره في الحقل هو عبارة عن حشرة. 

مشكلة أخرى لدى الصّندوق الأسود قد تكون "الكسل". مثلًا، قمنا بتدريب شبكة على لعب لعبة تسمّى "Coast Runners"، حيث يتعيّن قيادة قارب سباق على طول مسار من أجل تسجيل النّقاط. ولكن اتّضح أنّ الشّبكة اكتشفت أنّ الطريقة الأكثر فاعليّة لتسجيل النّقاط بسرعة هي التّخلّي عن نجاح المسار بأكمله، وبدلًا من ذلك، تكرار مناورة واحدة تمنح عددًا قليلًا من النقاط

يبدو المثال الأخير ساذجًا عندما يتعلّق الأمر بلعبة حاسوب، لكنّه يشير إلى خطر حقيقيّ موجود في المواقف الّتي يتمّ فيها تكليف الذكاء الصناعيّ بمهامّ مهمّة يجب أداؤها بطرق محدّدة جدًّا فقط. إذا كان الهدف من النّظام هو إحضار كوب من الماء إلى الطّاولة بأسرع ما يمكن، فقد تؤدّي سرعة العمليّة إلى كسر بعض الأغراض. وإذا عرّفنا كسر الأغراض على أنّه فَشَل، فقد نجد أنّ النّظام يقوم الآن بنقل الأغراض من مكانها بحيث لا تشكّل عائقًا في طريق تقدّمه، وبالتالي انتقل الفشل إلى مكان آخر. هناك العديد من الحالات الّتي تعمل فيها الشّبكة بطرقٍ لا نفهمها، ولذلك لا ندرك سبب الإخفاقات الموجودة من وراء النّتائج الّتي تقدّمها لنا. 

الشّبكات العصبيّة عُرضة للأخطاء الّتي تنتج عن تغيّرات صغيرة لا يستطيع البشر ملاحظتها، نظرًا لطريقة عملها غير البشريّ. على سبيل المثال، من السّهل جدًّا تدريب شبكة من أجل التّخلّص من شبكة أخرى- فأيّ تغيير صغير في الشّبكة الأصليّة يؤدّي إلى نتائج سخيفة. على سبيل المثال، قد تتسبّب التغييرات الطفيفة في لون وحدات البكسل في صورة كلب إلى أن تعرّفه الشبكة كقطّ، مع أنّها صنّفته جيّدًا قبل تلك التغييرات. إذا عُدنا إلى مثال وصفة الكعكة السّابقة، فهذا الأمر يُعتبر كإعطاء الطّاهي ذرّة ملح إضافيّة، نحصل بسببها على كعكة مختلفة تمامًا. 

مثل هذه الأخطاء، وغيرها من الأخطاء المشابهة، تشكّك في قدرتنا على الاعتماد على هذه الأنظمة، والمكانة المتزايدة الّتي نمنحها لها في حياتنا. من الممكن مثلًا أن تتسبّب السّيّارات ذاتيّة القيادة في وقوع حوادث أقلّ من تلك الّتي يتسبّب فيها السائقون البشر، ولكن لا تتوفّر لدينا اليوم أدوات عمليّة أو قانونيّة للتأكّد من درجة أمانها. إنّ طبيعة الصّناديق السّوداء، الّتي في غياب وصفةٍ تمكّننا من متابعتها خطوة بخطوة، تؤدّي إلى إنجاز عمليّة الفحص بشكلٍ أكثر تعقيدًا. من أجل إثبات أنّ السّيّارة ذاتيّة القيادة آمنة ليس أقل من السّائق البشريّ، سيتعيّن علينا اختبارها وقت القيادة لآلاف السّاعات دون وقوع حوادث في عدّة ظروف وحالات مختلفة. تُعتبر هذه المهمّة شاقّة ومكلفة، وستكون صعبة بشكل مضاعف إذا اضطررنا إلى تكرارها مع كلّ تحديث للإصدار. 

اكتشفت الشّبكة في لعبة CoastRunners طريقة ناجعة ولكنّها غير عادلة لتسجيل نقاط بسيطة:

 

معرفة ما يفكّر الحاسوب

لماذا من الصّعب علينا فهم ما يفكّر فيه الحاسوب؟ لو عرفنا سبب وصول الشّبكات العصبيّة إلى النّتائج الّتي تصل إليها، وما هي أسباب أخطائها، فيمكننا بسهولة التّأكّد من أنّها آمنة للاستخدام، بل وتحسينها بشكل أكبر. تُبذَل اليوم جهودٌ كبيرة من النّاحية التكنولوجيّة والقانونيّة للإجابة عن هذه الأسئلة. 

على مستوى الإشراف والتّنظيم، يفتقر العالم إلى تشريع مُحدّث ينظّم استخداماتنا في الذّكاء الصناعيّ . في بريطانيا على سبيل المثال، يتمّ التستّر على غياب القوانين المتعلّقة مباشرة بالذّكاء الصناعيّ من خلال تنفيذ القوانين الّتي تهدف إلى تنظيم استخدام تقنيّات أخرى. يناقش الاتّحاد الأوروبيّ حاليًّا اقتراح قانون لِتنظيم استخدام الذّكاء الصناعيّ، الّذي وصل إلى درجة متقدّمة من التّشريع، لكنّه لا يخلو من المشاكل، مثل الاهتمام غير الكافي بالتّطبيقات الخطرة الجديدة الّتي قد يتمّ اكتشافها. وسيكون لها قيود على التّطبيقات الّتي تشكّل خطرًا على المجتمع- على سبيل المثال، نظام الائتمان الاجتماعيّ الصينيّ، وهو نظام حكوميّ يصنّف مواطنيه، ووفقًا له يتمّ منحهم المزايا والعقوبات. يتجاهل القانون المقترَح كذلك العواقب المحتملة جرّاء الاستخدام الخاطئ للمستخدم النّهائيّ لأنظمة الذّكاء الصناعيّ. 

على الرّغم من الحاجة الملحّة الحاليّة لإتمام التّشريع، يسعى العديد من الباحثين إلى فهم عميق لكيفيّة عمل الشّبكات العصبيّة. هذا مجالُ بحثٍ مثمر لكنّه معقّد بسبب طبيعة المشكلة. إنّهم يسعون جاهدين لفهم وصفة الكعكة بالتّفصيل، ولِوصف الاختلافات في مظهر الكلاب والقطط بشكل دقيق. إذا وجدوا طريقة ناجعة للقيام بذلك، ولو في أنظمة الشّبكات العصبيّة فقط، فستكون تبعاته واسعة المدى. يمكننا تدريب الشّبكات على التّعامل مع المشكلات الّتي يصعب حلّها، وبذلك نحصل على "الوصفات" من أجل حلّها. قد تكون الوصفة خرقاء غير متناسقة، لكنهاتبقى الوصفة المعروفة أفضل من الصّندوق الأسود المُبهَم الّذي بحوزتنا. 

من الممكن أيضًا أن نتقبّل معرفة غير كاملة لهذه الأنظمة. عندما يتمّ تطوير دواء جديد، فإنّ الأساس العلميّ لفهم عمله يكاد لا يكتمل أبدًا. تتضمّن عمليّة الموافقة على الأدوية والعلاجات الطبيّة الحديثة آليّات اختبار دقيقة والعديد من التّجارب الخاضعة للرّقابة يتمثّل دورها في اختبار كم هو فعّالٌ وآمنٌ استخدام هذا الدّواء. تحدث المفاجآت في بعض الأحيان، لكنّ هذه العمليّة تجعل تناول الدواء أكثر أمنًا.

من الممكن تخيّل وضع يتطلّب فيه كلّ نظام ذكاء صناعيّ الخضوع لعمليّة مماثلة، لكنّ احتماليّة حدوث ذلك منخفضة. كما ذُكر سالفًا، فإنّ معظم الدّول ليست جاهزة أبدًا للإشراف على التّقنيّات الّتي تعتمد على الذّكاء الصناعيّ، وهناك أيضًا خوف حقيقيّ من أنّ التّنظيم المفرط للموضوع سيكون له تأثير مقيّد في التّطوّرات التّكنولوجيّة. تستغرق عمليّة تطوير دواء جديد (بالمتوسّط) أكثر من عشر سنوات من الاختبارات المكثّفة. إنّ حدوث تأخير مشابه في تنفيذ التّطوّرات التكنولوجيّة ستكون له تكلفة ماليّة باهظة، وعلى الأغلب لن تتمّ تغطية الفحوصات المطلوبة. 

يُعتبَر التّعامل مع الصّعوبات الّتي يفرضها علينا التّقدّم الهائل في مجال الذّكاء الصناعيّ من أكبر التّحدّيات الّتي تواجه البشريّة في السّنوات القادمة. نحن الآن في خِضم ثورة لم يتّضح بعد إلى أين ستقودنا وإلى متى ستستمرّ؟ لهذا، عندما تخبزون الكعك، فكّروا كم أنتم محظوظون لوجود الوصفة بحوزتكم.

 

0 تعليقات