التّكنولوجيا الّتي دخلت حيّز الاستخدام منذ أكثر من مئة عام، غيّرت وجه الرّسوم المتحركة وصمّمت مستقبل السّينما

ما هو القاسم المشترك بين فيلم "من ورط الأرنب روجر"، والفيديو الموسيقيّ لأغنية Take On Me للفرقة النّرويجيّة A-ha، والعديد من أفلام الرّسوم المتحرّكة الأخرى؟ الجواب هو تقنيّة رسم فريدة تُدعى "روتو سكوبينج" (Rotoscoping)، والتي تمّ تطويرها لأوّل مرّة منذ حوالي مئة عام، وقد أحدثت ثورةً حقيقيّةً في عالم الرسوم المتحرّكة، منذ ثلاثينياّت القرن العشرين.

لسنوات طويلة، حاول الإنسان أن يرسم وهم الحركة السَلِسة والمنسابة بواسطة الرسومات. في منطقة بلاد فارس، عُثر على وعاءٍ فخاريّ عمُره أكثر من 5,000 عام، وقد تمّ برسومات مُتسلسلة من أجل خلق وهمٍ بسيط للحركة. وفي الصّين، قبل حوالي 2,000 عام، تمّ تطوير جهاز يجمع بين مصباح وحزام دوّار، عليه صورٌ لعصافير وحيوانات. هذا الاختراع سبق جهاز الزّويتروب (الدّولاب الحيّ)، وهو جهاز اختُرع في القرن التّاسع عشر، وكان مشابهًا تمامًا لسّلفه الصّينيّ.


يؤدّي تدوير الجهاز إلى خلق وهم الحركة بسبب الاختلافات الصّغيرة بين الصّور. زويتروب يُظهر رسمًا متحرّكًا لحصان راكض | تصوير: Javier Jaime, Shutterstock

انضمّت إلى الزويتروب مجموعة أجهزة أخرى ذات أسماء مضحكة مثل الفيناكيستوسكوب، الزوبراكسكوب والبراكسينوسكوب؛ والّتي كانت كلّها ألعاب بصريّة مثيرة للاهتمام في حدّ ذاتها. الزوبراكسكوب على سبيل المثال، اخترعه رائد التّصوير الفوتوغرافي إدوارد مويبريدج (Muybridge)، وقد سبق هذا الجهاز جهازُ عرض السينما بعدة سنوات. حاول مويبريدج من خلاله الإجابة على سؤالٍ قديم: هل هناك لحظة تكون فيها أرجل الحصان الراكض الأربعة معًا، مرتفعةً عن الأرض؟ (الجواب: نعم!).

بشكل عام، تعتمد الرّسوم المتحرّكة على الوهم البصريّ. الزّمن في واقعنا هو مستمرّ، لأنّه لا يمكن تقسيم أيّة لحظة إلى لحظات أصغر بطريقةٍ لا نهائيّة. بينما على شاشة السينما، فالزّمن مُنفصل، لأنّ كلّ فيلم يتكوّن من سلسلة من الأُطر (Frames). نظرًا لكون الجهاز البصريّ والدّماغ البشريّ معتادان على فكرة الوقت المستمرّ والحركة المستمرّة، فإنّنا قادرون على "إكمال" الحدث من إطار (Frame) إلى آخر - تمامًا كما اعتدنا تقليب صفحات الدفتر عندما كنا صغارًا.


التّكنولوجيا الّتي سبقت السّينما. صور لحصان يقفز، لأحد رواد التّصوير الفوتوغرافيّ إدوارد مويبريدج | المصدر: Everett Collection, Shutterstock

من التّسلية إلى السّينما

تمّ اختيار اليوم العالميّ للرّسوم المتحرّكة والّذي احتُفي به الشّهر الماضي، موعدًا لإصدار أوّل ثلاثة أفلام رسوم متحرّكة، ابتكرها "أبو الرّسوم المتحركة" إميل رينو (Reynaud)، مخترع البراكسينوسكوب (دولاب الحياة) - وهو جهاز متطوّر ميكانيكيًا عن الزويتروب. تسمّى ثلاثيّة أفلام رينو "البانتومايم المشعّ"، ويستمرّ كلّ واحد منها حوالي 10-15 دقيقة، في الوقت الّذي كانت تُعزف الموسيقى المصاحبة لها بشكل مباشر أمام الجمهور - للمرّة الأولى في 28 أكتوبر 1892.

إنّ أفلام الرسوم المتحرّكة الّتي تلتها هي أيضًا لم تكن كاملة الطّول، ومعظمها كان من دون قناة صوتيّة متزامنة، لكنّها وبالنّسبة لوقتها كانت مثيرة جدًّا للإعجاب، لا شكّ في ذلك أبدًا. النّقص الّذي بدا واضحًا كان عندما عُرضت الحركات البشريّة - كما حدث تقريبًا في جميع أفلام الرّسوم المتحرّكة الأولى - حيث كانت تبدو غالبًا مقطوعةً وغير متتالية.

الأيّام هي أيام العصر الذّهبيّ لهوليوود - العقد الثّاني من القرن العشرين: الأخوان ديف وماكس فليشر (Fleischer)، رسّاما رسوم متحركة، يهوديّان أمريكيّان أصلهما من مدينة كراكوف في بولندا (الإمبراطوريّة النّمساويّة المجريّة آنذاك)، أدركا جيّدًا هذه المشكلة، كما أنّهما وجدا لها عقارًا بسيطًا وعبقريًّا للغاية.

وضع ماكس شقيقه الأصغر ديف على سطح، مع شاشة ساطعة خلفه من أجل زيادة التّباين. رقص ديف وتحرّك مرتديًا ملابس المهرج، وقام ماكس بتصوير كلّ شيء. قاما بعرض تسلسل الصّور في الفيلم على حامل، ومرّا على الخطوط في عمليّة تُسمّى التّتبّع tracing للحصول على سلسلة من الرّسوم التّوضيحيّة. سُمّيت هذه التّقنية باسم "عمليّة فليشر"، ثمّ سُمّيَت  "روتوسكوب".


 رَسْم باليد لمسار الشّخصيّة المصوّرة والمعروضة على الورق. هذه هي الطّريقة الّتي عمل بها اختراع الأخوين فليشر المسجّل. رسم من طلب براءة اختراع ماكس فليشر | المصدر: ويكبيديا، مصدر عام

من أجل إثبات مدى قوة اختراعهم الجديد، أنشأ الأخوان فليشر سلسلة الأفلام القصيرة "خارج المحبرة" (Out of the Inkwell) من بطولة ديف في دور المهرّج كوكو Koko the Clown. على الرّغم من أنّ هذه الطريقة هدفت إلى توفير وقت العمل، إلّا أنّها في الواقع انطوت على مشاكل - أهمّها صعوبةُ المتابعة الدّقيقة بواسطة آلة التّصوير السّينمائيّ لحركات جسم الممثّل البشريّ.

في عام 1924، توقّف آل فليشر عن "اللّعب" بالروتوسكوب، ولكن في الثّلاثينيّات عادوا إليه بكلّ حيويّة. تعاونا مع المغنّي والرّاقص الأمريكي كاب كالواي (Calloway)، الّذي كان موهوبًا بقدرات حركيّة وغنائيّة خارجة عن المألوف، بالنّسبة لعصره بالطبع وكذلك من منظور تاريخيّ - وهو ما جلب له الشّهرة في فيلم "الإخوة بلوز (The Blues Brothers)" لعقود عديدة منذ ذاك.

كان كالواي حاضرًا في قلب الفيلم القصير "بيضاء الثّلج والأقزام السّبعة"، والّذي أخرجه الأخوان فليشر عام 1933. ليس ذاك الفيلم الّذي شاهدناه في طفولتنا، والّذي أخرجه والت ديزني وأُصدِرَ بعدها بأربع سنوات. بل فيلم مدّته 7 دقائق، وهو فيلم سايكُدلي بالكامل. مدعوون بكل حب لمشاهدته، ولكن لا يُنصح بذلك قبل النوم. الفيلم من بطولة بتي بوب Betty Boop المحبوبة في دور بيضاء الثلج، بالإضافة إلى المهرج كوكو- والّذي يقوم بتأدية شخصيّته كالوي، حيث يقوم بغناء الأغنية القديمة St. James Infirmary Blues. الحركة السّلسة للمهرّج والشّخصيّات الأخرى تُظهر جيّدًا مدى قوّة الروتوسكوب.

ومنذ ذلك الحين أصبحت تلك التّقنية شائعة جدًّا. بعد مرور عام على توزيع فيلم "بيضاء الثّلج"، انتهت حقوق براءة الاختراع، ممّا سمح لوالت ديزني بالاستفادة منه بشكل كبير أثناء إنتاج "بيضاء الثلج" بنسخته هو، وهو أوّل فيلم رسوم متحرّكة بطول كامل، وقد كان أقلّ غرابة من سابقه. لم يبق الاختراع داخل حدود أميركا: رسامو رسوم متحركة صينيون وروس، حاولوا تحسين جماليّات أفلامهم، فاستخدموا هم كذلك تقنية الروتوسكوب.


تمّ الحصول على حركات الرّقص المعقّدة للمهرّج بفضل تقنية الروتوسكوب، والّتي مكّنت من تقليد حركات الفنّان التّرفيهيّ Cub Calloway بدقّة. صورة من فيلم "بيضاء الثّلج" من عام 1933 | المصدر: Kozak's Classic Cinema، استعمال عادل

في السّينما الحديثة

على الرّغم من السّنوات العديدة الّتي مرّت منذ ذلك الحين، وظهور تقنيّات رسوم متحرّكة أكثر تقدمًا، إلّا أنّ في الرّوتوسكوب سحرٌ خاصّ يجذب العديد من المبدعين لاستخدامه. هنالك أفلام عديدة بالتّأكيد شاهدتموها، تعتمد في جزء أو آخر منها على هذه التّقنية - على سبيل المثال مشهد في "غوّاصة صفراء" - "Yellow Submarin" (فرقة البيتلز، 1968)، و"On Magic and Mice" (1982) و"Titan" (2000)، مقاطع الفيديو الموسيقيّة لأغنية "Money for Nothing" للفرقة Dire Straits و"Heartless" لـ Kanye West؛ وكذلك ألعاب الحاسوب مثل لعبة "أمير بلاد فارس".

في أيّامنا، يتم تنفيذ الروتوسكوب بصورة محوسبة بالكامل – كما على سبيل المثال في فيلم Loving Vincent"" (2018) – لكن الروتوسكوب لا يزال يملك سحرًا بهيًّا وأصالةً يصعب عدم ملاحظتها. وبكلمات أخرى، فإنّ فكرة الروتوسكوب التاريخية لم تعد مقصورة على عمليّة صنع الرسوم المتحرّكة بحدّ ذاتها، وإنّما تحوّلت إلى معنىً من معاني الحنين إلى الماضي: رسومٌ متحرّكة بنكهة الماضي.

أحد هؤلاء المبدعين طوّر الطّريقة من النّاحية التّكنولوجيّة أيضًا. في عام 1997، كان عالم الحاسوب ورسام الرّسوم المتحركة بوب سابيستون (Sabiston)، الّذي يعمل في قسم الإعلام التّابع لمعهد ماساتشوستس التّكنولوجيّ (MIT)، أوّل من طبّق تقنية الاستيفاء – أو استخلاص المعلومات (Interpolation)، ضمن تقنيّة الرّسوم المتحرّكة. الاستيفاء هي مصطلح في الرياضيات، وخصوصًا في التّحليل العدديّ، يصف عمليّة حساب قيمة دالّة عند نقطة معيّنة، بناءً على نقاط تقع على يمينها ويسارها.

طبّق سابيستون أساليب الاستيفاء الحاسوبيّ على سلسلة من الصّور الّتي تمّ الحصول عليها من خلال الروتوسكوب. وبهذه الطّريقة، كان بالإمكان تحسين سلاسة الحركة بشكل أكبر، حيث يقوم الحاسوب بإضافة إطارات (Frames) إضافيّة بين تلك الّتي تمّ تصويرها بالفعل. على أساس الروتوسكوب المحوسب، كتب سابيستون برنامج حاسوب يسمّى روتوشوب "Rotoshop" (لعب بالكلمات قريب من فوتوشوب "Photoshop")، لكن وللأسف الشّديد لم يتمّ نشره إطلاقًا للجمهور العريض. تمّ استخدامه لإنتاج العديد من الأفلام، من بينها "حياة اليقظة" (2001).

كم هو ممتع وجود الرسوم المتحركة في حياتنا، وكم هو ممتع إلقاء نظرة خاطفة على ما خلف الكواليس، والتعلّم عما يكمن وراءها. للمزيد من المشاهدة:

 

0 تعليقات