هل تقود سيّارتك بسرعة فائقة؟ كلّ شيء نسبيٌّ في هذا الكون، بما في ذلك السرعة

تخيّل نفسك مسافرًا في عربة القطار، ورفعت رأسك عن كتاب تقرأه ونظرت عبر النافذة نحو الخارج. تمرّ المصابيح وأعمدة الكهرباء والأشجار والحقول أمامك. تعيد النظر إلى الكتاب (أو الكتاب الرقميّ) الّذي ينتظر أن تُوليه اهتمامك وتتعجّب: هل تتحرّك الأشجار بسرعة، أم أنّك أنت الّذي تتحرّك؟ من الواضح أنّ القطار الّذي أنت في داخله يتحرّك، ولا تُغيّر الأشجار والحقول أماكنها. لكن هل هذا هو حقًّا وصف شامل لهذه الحالة؟ 

ينبغي علينا، كي نتوصّل إلى إجابة عن هذا السؤال، مناقشة مسألة نسبيّة المقادير الفيزيائيّة- أي الصفات القابلة للقياس للأجسام، مثل الطول والكتلة والزمن ودرجة الحرارة. قد نتصوّر أنّها صفات ثابتة لا تتغيّر أبدًا، لكنّ بعضها فقط قيمته مطلقة- أي قيمة لا تتغيّر مهما تغيّرت الظروف الّتي تقاس بها، وأينما تمّ قياسها- في حين إنّ قياس الصفات الأخرى هو قياس نسبيّ. يجب بدء قياس المقادير النسبيّة من نقطة مرجعيّة معيّنة كي يكون القياس ذا معنى. 


بعض المقادير هي قيم مطلقة، وبعضها نسبيّ. لا تهمّنا سرعة دوران القمر حول الأرض عندما ندور حوله. قُمرة قيادة مركبة فضائيّة في مدارها حول القمر| المثال التوضيحيّ بواسطة  DALL-E  

مُطلق أم نسبيّ؟

لنوضّح الأمر عن طريق أمثلة. نَستخدم المسطرة لقياس طول العصا، وما علينا فعله لقياس طولها هو النظر إلى العلامات الموجودة على المسطرة، ولا تتعلّق نتيجة القياس بالمكان الّذي نتواجد فيه ولا بالسرعة الّتي نتحرّك بها. الطول، وفقًا للفيزياء التقليديّة، هو قيمة مطلقة. إذا أردنا، بالمقابل، معرفة البعد عن الشجرة القريبة، فلا يمكننا ذلك دون توفّر معلومات أخرى، أو دون تحديد نقطة المرجعيّة: النقطة الّتي نقيس بعد الشجرة عنها. البعد (أو المسافة) إذًا هو صفة مقدارها نسبيّ. نقول، لقطع الشكّ باليقين، لا علاقة بين كون مقدار معيّن نسبيًّا وبين مدى واقعيّته، إذ إنّ المقدار النسبيّ هو مقدار حقيقيّ يصلح دائمًا: ينبغي عليك، إذا كنت تتهيّأ وتُخطّط للسفر إلى شاطئ البحر في مدينة إيلات وتريد تحديد وقت خروجك نحو الهدف، معرفة نقطة البداية، هل ستكون مركز مدينة إيلات أم أنّها مركز مدينة تل أبيب؟   

ما هو تعريف سرعة الجسم؟ السرعة هي وتيرة تغيّر مكان تواجد جسم معيّن في الفراغ- المسافة الّتي يقطعها الجسم خلال وحدة زمن. تتغيّر السرعة الّتي نقيسها مع تغيّر حركتنا. يعتمد الاستنتاج بأنّ القطار يتحرّك بينما الأجسام الّتي تمرّ أمام أعيننا في الخارج ساكنة، على السرعة المنسوبة للكرة الأرضيّة. السرعة إذًا هي مقدار نسبيّ. اختيار نقطة المرجعيّة، عند قياس مكان الجسم أو سرعته، هو اختيار عشوائيّ من حيث التعريف الرياضيّ. يمكن من الناحية الفيزيائيّة، بالمقابل، تعريف "صفر مطلق" لمقادير أخرى. يُعرّف، مثلًا، الصفر المطلق (صفر درجات كيلفن، أو 273.15- درجات سيلزيوس) بأنّه درجة الحرارة الأدنى الممكنة فيزيائيًّا. درجة الحرارة هي إذًا، بالمفهوم الفيزيائيّ، مقدار ذو قيمة مطلقة. هل يوجد نظام فيزيائيّ مرجعيّ يمكن أن يشكّل "الصفر المطلق" على سُلّم السرعة؟  


كم تساوي سرعة الطائرة بالنسبة للشمس إذا كانت سرعتها 800 كم/ س بالنسبة للأرض. السرعة هي مقدار نسبيّ | تصوير: Nieuwland Photography, Shutterstock

هيّا بنا نتحرّك

نحن نقيس السرعة في حياتنا اليوميّة نسبةً للأرض الّتي نعتبرها ساكنة. تدور الأرض في الواقع، كما  ادّعى كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، حول نفسها وحول الشمس أيضًا، ونلاحظ ذلك عندما ننظر إلى الأرض من الفضاء الخارجيّ. تدور مجموعتنا الشمسيّة هي الأخرى حول مركز مجرّة درب التبّانة، ويمكن أن نلاحظ ذلك إذا تمكّنا من النظر إليها من خارجها. ويمكننا أن نلاحظ، فيما إذا استطعنا النظر إلى المجرّات من مكان بعيد عنها، أنّها تتحرّك الواحدة بالنسبة للأخريات. يمكننا قياس السرعة المطلقة المنسوبة لِنظام مرجعيّ معيّن فيما إذا كان بإمكاننا تعيين أو تحديد نظام مرجعيّ "صحيح"، إلّا أنّه ليس هناك أيّ اعتبار فيزيائيّ في تحديد مثل هذا النظام. 

 كان جاليليو جاليلي قد أقرّ في سنة 1632، أنّه لا يمكن التمييز بين النظام الساكن وبين النظام الّذي يتحرّك بسرعة ثابتة. عرض جاليلي نتيجة التجربة الذهنيّة التالية، فيما إذا أجريت حقًّا: إذا رمينا كرة إلى أعلى ونحن موجودون داخل غرفة مقفلة في سفينة تبحر بسرعة ثابتة بحركة سلسة دونما ارتجاجات، ستسقط هذه الكرة إلى الأسفل تمامًا كما كانت ستتحرّك فيما لو رميناها إلى أعلى ونحن واقفون على اليابسة. 

هذا هو مبدأ النسبيّة، والّذي يمكن تمثيله أيضًا عن طريق رمي الكرة ذاتها ونحن موجودون داخل قطار يجري بسرعة سلسة ثابتة. كيف نشعر بالحركة في الحياة اليوميّة إذًا، وكيف نشعر بأنّ القطار الّذي نتواجد داخله يتحرّك، حتّى وإن لم تكن له نوافذ؟ نشعر بهذه الحركة نتيجةً لتغيير السرعة خلال السفر- التسارع، التباطؤ، الانحراف أو المطبّات الصغيرة في الطريق. 

نشر إسحاقنيوتون سنة 1687 ثلاثة قوانين للحركة والمُسمَّاة باسمه. ينصّ قانون نيوتون الأوّل، وهو قانون القصور الذاتيّ، على أنّ الجسم يبقى على حاله- سواء تحرّك بسرعة ثابتة أو كان ساكنًا- ما لم تؤثّر فيه قوى خارجيّة. لذلك، يعادل الجسم الّذي يتحرّك بسرعة ثابتة الجسم الساكن، بحيث يواصل كلاهما حركته (أو سكونه) بنفس السرعة والاتّجاه، ما لم تؤثّر فيهما قوى خارجيّة. 

يعتمد قانون القصور الذاتيّ، والّذي يُعادل النظام الساكن وفقًا له النظام الّذي يتحرّك بسرعة ثابتة، على افتراض مسبق بوجود سكون مطلق، ومنه وجود حركة مطلقة- أي وجود حركة لا نسبيّة. ذلك يعني أنّ الفيزياء التقليديّة  تفترض، من حيث المبدأ، وجود سرعة مطلقة. لا يمكن، على ضوء الاكتشافات الفيزيائيّة منذ عهد نيوتون وحتّى اليوم، قبول هذا الافتراض. تصف الميكانيكا النيوتونيّة حركة الأجسام على افتراض وجود "نظام مرجعيّ قاصر ذاتيًّا"، أي نظام ساكن أو نظام يتحرّك بسرعة ثابتة- إلّا أنّ نظريّة نيوتون لم تنجح في التحقّق من وجود مثل هذا النظام في الكون برمّته.  


كيف يمكننا التحقّق، إذا لم ننظر إلى الخارج، أيّ القطارين يسير وأيّهما واقف؟ تعادل الحركة بسرعة ثابتة، من الناحية الفيزيائيّة، السكون. قطارات على السكّة الحديديّة في كندا | تصوير: sockagphoto, Shutterstock

معادلات في العاصفة

أحدثت المعادلات الّتي نشرها جيمس كلارك ماكسويل (Maxwell) في القرن التاسع عشر تغييرًا في عالم الفيزياء. تصف هذه المعادلات سلوك الحقول الكهربائيّة والمغناطيسيّة، دامجةً إيّاها تحت سقف كيان واحد- هو الحقل الكهرومغناطيسيّ. تتأثّر السرعة الّتي تتحرّك بها الأمواج الّتي تتكوّن في هذا الحقل في الفراغ- وقد تبيّن فيما بعد أنّها سرعة الضوء- وفقًا لما يظهر من تلك المعادلات، بِالخواصّ الكهربائيّة والمغناطيسيّة للفراغ فقط، دون علاقة بأيّ نظام مرجعيّ. قد يبدو لأوّل وهلة وكأنّ هذا الاكتشاف يخالف مبدأ النسبيّة الّذي يتطلّب وجود نظام مرجعيّ لكلّ حركة بسرعة ثابتة. أثارت معادلات ماكسويل، لذلك، مشكلة في إدراكنا للميكانيكا النيوتونيّة: يبدو أنّ القانونين الطبيعيّين: مبدأ النسبيّة وسرعة الضوء في الفراغ- لا يناسب أحدهما الآخر.

أثارَ الفهم بأنّ الضوء هو عبارة عن موجة كهرومغناطيسيّة مشكلةً أخرى: ما هو الوسط الّذي يجري الضوء من خلاله؟ افترض الفيزيائيّون أنّ الأمواج الضوئيّة، كما الأمواج الصوتيّة الّتي تتحرّك عبر الهواء، تتحرّك من خلال وسط يملأ الكون كلّه، والّذي حظي باسم "الأثير الساطع" (Luminiferous Aether). يمكن قياس سرعة الأجسام وعزوها لِسرعة الأثير الّتي تعتبر صفرًا، من منطلق أنّ الأثير يملأ الكون كلّه. تتحرّك الكرة الأرضيّة أيضًا، حسب هذه النظريّة، داخل هذا الأثير; ينجم عن ذلك أنّ مقدار سرعة الأثير، من وجهة نظر الشخص الّذي يشاهد الأرض من الخارج، يساوي مقدار سرعة حركة الكرة الأرضيّة بالنسبة للأثير. 

حاول الفيزيائيّان ألبرت ميكلسون (Michelson) و إدوارد مورلي  (Morley) قياس هذه الحركة من خلال تجربة أجرَياها سنة 1887. طوّر الفيزيائيّان، من أجل ذلك، منظومة يتمّ فيها فصل شعاع من الضوء إلى شعاعين متطابقَين، أحدهما معامد للآخر. ثُبِّتت مرآة في طرف مسار كلّ واحد من الشعاعين تعكس الشعاع نحو فاصل الشعاع. يمكن، عند التقاء الشعاعين المنعكسين، قياس الزمن الّذي استغرقه كلٌّ منهما ليكمل مساره. وضع الفيزيائيّان الجهاز بحيث يُرسَلُ شعاع من الشعاعين موازيًا لاتّجاه حركة الكرة الأرضيّة- أي باتّجاه ريح الأثير المقدّرة، بينما يُرسَل الشعاع الآخر معامدًا له. توقّع الفيزيائيّان أن يختلف الزمن الّذي يحتاجه كلّ واحد من الشعاعين لإكمال مساره، إذ يتأثّر أحد الشعاعين فقط بسرعة الأثير، لكنّ الشعاعين وصلا، بخلاف ما كان متوقّعًا، إلى نفس النقطة في نفس الوقت. 


وصل الشعاعان في نفس الوقت، بخلاف ما كان متوقّعًا. مصفوفة تجربة ميكلسون- مورلي | تصوير: Case Western Reserve University، متاح للجميع

النظريّة الّتي غيّرت كلّ شيء

اقترح كلٌّ من جورج فيتسجيرالد (Fitzgerald) وهاندريك لورانس (Lorentz)، في محاولة تفسير النتيجة غير المتوقّعة، أنّ مسار الشعاع يتقلّص خلال حركته باتّجاه الأثير. يوجد، وفقًا لمثل هذا الحلّ، نظام مرجعيّ "صحيح"- الحالة الّتي يكون فيها الأثير ساكنًا، وتسري قوانين الطبيعة فيها بصورتها "الطبيعيّة". تُحتّم علينا الأنظمة الأخرى، بالمقابل، استخدام تصحيحات غريبة، مثل تقلّص المسافة. 

طرح ألبرت آينشتاين في بداية القرن العشرين فكرة النظريّة النسبيّة الخاصّة، والّتي عرضت حلًّا أكثر أناقة للمشكلة. لا يوجد أثير حسب هذه النظرية، لكن توجد حقًّا سرعة مطلقة- سرعة الضوء، هي مقدار طبيعيّ ثابت لا يتعلّق بأيّ نظام مرجعيّ. الحيّز (الفضاء) والزمن، حسب آينشتاين، ليسا مطلقَين وإنّما يتغيّران وفقًا لحركة المُشاهد، بخلاف ما افترضته الفيزياء التقليديّة بأنّ الفضاء والزمن هما مقداران مطلقان، وينجم عن ذلك أنّ السرعة، مهما كانت، هي نسبيّة. لا يوجد إذًا، وفقًا للنظريّة النسبيّة الخاصّة، نظام مرجعيّ مطلق. لا يمكن تفضيل نظام مرجعيّ على نظام مرجعيّ آخر وهي أنظمة متساوية، ذلك لأنّ قوانين الطبيعة تعمل بشكل متطابق في جميع الأنظمة المرجعيّة ولا يمكن التمييز بينها بالتجارب. يمكن، على الرغم من ذلك، أن تتحرّك الأنظمة المرجعيّة المختلفة بسرعات مختلفة، وتتغيّر السرعة الّتي يتمّ قياسها لكلّ نظام مرجعيّ نسبةً للنظام الآخر. علينا أن نكتفي، وفقا لذلك، بالسرعة النسبيّة إذ لا يمكن تحديد سرعة مطلقة، عدا عن سرعة الضوء في الفراغ.  

اقتصرت النسبيّة الخاصّة على الأنظمة الّتي تتحرّك بسرعة ثابتة. وسّع آينشتاين نطاق النظريّة النسبيّة لتشمل حالات كثيرة أخرى، بما فيها الأنظمة المتسارعة، وذلك ضمن النظريّة النسبيّة العامّة الّتي نشرها بعد عشر سنوات من نشر النسبيّة الخاصّة. ينحني، وفقًا للنسبيّة العامّة، نسيج الزمكان- وهو الحيّز أو الفضاء الّذي يحوي كلّ ما في الكون- ويتشوّه بوجود المادّة. "يلتقط" تشوّه نسيج الزمكان الّذي تحدثه شمسنا الكرةَ الأرضيّة و"يحبسها" في مسار حول الشمس، وهو المسؤول عن "قوّة الجاذبيّة" الّتي نشعر بها. لقد واجه تصوّر الواقع الّذي تصفه النظريّة النسبيّة العامّة منذ صدورها سنة 1915 العديد من الاختبارات ونجح في جميعها، بدءًا بتفسير انحراف مسار كوكب عطارد في نفس السنة الّتي صدرت فيها النظريّة، وحتّى اكتشاف أمواج الجاذبيّة بعد مئة سنة. تناسب جميع الاكتشافات منذ ذلك الحين ادّعاء النظريّة النسبيّة المركزيّ: الحيّز (الفضاء) والزمان ليسا مطلقين. ساهمت حقيقة كون سرعة الضوء في الفراغ هي السرعة المطلقة الوحيدة في الكون في إحداث انقلاب كامل في فهمنا للكون الّذي يحيط بنا. 

0 تعليقات