هل تترقّبون المطر الأوّل؟ يجلب المطر معه روائح مميّزة ناتجة عن مزيج من الموادّ المختلفة والبكتيريا الّتي تنتشر في الهواء. تختلف هذه الرّوائح بين مكان وآخر وهي تؤثّر علينا نفسيًّا.

يحدث هذا معنا جميعًا؛ عندما نخرج بعد هطول المطر إلى مكان مفتوح ونأخذ نفسًا عميقًا، تغمرنا الرّائحة الجديدة والمثيرة بشعور منعش. لكنّه من المعروف أنّ لا رائحة للماء، فمن الطّبيعيّ أن نتساءل لماذا تنبعث هذه الرائحة الطيّبة جدًّا بعد هطول المطر وخاصة المطر الأوّل؟

يبدو السّؤال بسيطًا، إلّا أنّ العديد من الدّراسات الّتي تطرّقت إليه قد أشارت إلى مصادر مختلفة وغير متوقّعة الّتي يمكن أن تبعث "رائحة ما بعد المطر". بالإضافة إلى ذلك، اكتُشفت روائح مميِّزة في الهواء لما قبل المطر.
 

الأوزون قبل هطول المطر

تتّصف رائحة ما قبل المطر لدى بعض النّاس بأنّها رائحة حادّة وحلوة، ويدّعي البعض الآخر بأنّها شبيهة برائحة الكلور. هذه المادّة الّتي نشّمها هي ببساطة الأوزون.

الأوزون هو جزيء مكوّن من الأكسجين، ولكنّه ليس ذاته ثنائي الذّرة كالأكسجين الّذي نتنفّسه، وإنّما يتكوّن من ثلاث ذرّات أكسجين. كثيرًا ما تكون العواصف الماطرة مصحوبة بالبرق الّذي يمكن أن يفصل جزيئات الأكسجين والنّيتروجين في الغلاف الجوّيّ ويؤدّي إلى سلسلة من التّفاعلات، نتاجها هو تكوين الأوزون. تنقل رياح العاصفة المقتربة مباشرة جزيئات الأوزون الّتي قد تكوّنت إلى أنوفنا. وهكذا فإنّ رائحة الأوزون تنذر باقتراب العاصفة والمطر المصحوب معها.

رغم أنّه جزيئات الأوزون موجودة بكثرة وهي مركّب مهمّ في طبقة الستراتوسفير (الجزء الأعلى من الغلاف الجوّيّ)، إلّا أنّ هذه الجزيئات عادةً لا تتكوّن قريبًا من سطح الأرض ولهذا السّبب لا يمكننا شمّها. وهذا من حسن حظّنا، لأنّ الأوزون هو مؤكِسد شديد جدًّا ويمكن أن يشكّل خطرًا علينا إذا تعرّضنا لكميّات كبيرة منه. من جهة أخرى، يقوم الأوزون في الستراتوسفير بامتصاص جزء كبير من الأشعّة فوق البنفسجيّة (UV) المنبعثة من الفضاء، ويحمينا منها.


ثلاث ذرّات من الأكسجين. جزيء الأوزون | المصدر: ويكيبيديا

روائح المطر

تنبعث بعد هطول المطر روائح كثيرة أخرى. بعضها تميّز مكان سقوط المطر، نوع التّربة وطبيعة الجهاز البيئيّ، والبعض الآخر ينتشر في كلّ المناطق.

تسّمى الرّائحة الرّئيسيّة المنبعثة بعد هطول المطر بالبتريكور (Petrichor). يتكوّن هذا الاسم من كلمتين باليونانيّة: "بترا" وتعني الحجر و"إيكور"  الّذي يعني الدّم المتدفّق في عروق الآلهة في الأساطير اليونانيّة، ويقصد هنا خلاصة الحياة. اكتشف الباحثان إيزابيل بار ورودريك توماس في عام 1964 أنّ بعض الروائح الكريهة المنبعثة بعد المطر مصدرها من الزّيوت والمواد الكيماويّة الأخرى الّتي تفرزها النباتات. كثيرًا ما يتراكم هذا الزّيت على الصّخور القريبة من النّباتات ويُنقَل إلينا في فقاعات صغيرة الّتي تتكوّن عندما تسقط قطرات المطر على الأرض.

من أزكى الرّوائح المتعلّقة بالمطر هي رائحة التّراب اللّطيفة الّتي تتفاقم في مناطق الغابات الطّبيعيّة، والمسؤول عن إنتاجها هي أبواغ البكتيريا في التّربة. هذه البكتيريا، Actinomycetes، هي كائنات وحيدة الخلية طوليّة تتكاثر في التّربة الرّطبة الدّافئة. عندما تجفّ التّربة، تكوّن البكتيريا أبواغًا كثيرة جاهزة لتطوّرها من جديد وتكاثرها، وهذا يحدث عندما يصحب معه المطر رطوبة.

أظهرت دراسة جديدة أنّ هذه البكتيريا تستفيد أيضًا من القوّة الّتي تسقط فيها قطرات المطر من المرتفعات العالية. قام الباحثون بتصوير قطرات المطر الّتي تقع على الأسطح المختلفة  بواسطة الكاميرا المسرّعة واكتشفوا أنّه عندما تسقط القطرات على الأرض، تتكوّن فقاعات صغيرة الّتي تتناثر في الهواء من جديد. تحمل هذه الفقاعات معها الرّوائح المألوفة الّتي ترافق هطول المطر. الفقاعات الصّعيرة تحمل أيضًا أبواغ ال Actinomycetes، وتنشرها بكلّ الاتّجاهات.

شاهدوا في الفيديو: كيف يمكن لقطرة المطر أن تنشر الرّوائح والأبواغ؟

تتكوّن الرّوائح الأخرى كنتيجة للتّفاعل الكيماويّ لمياه الأمطار ( والّتي كثيرًا ما تكون حامضيّة قليلًا) مع مواد عطريّة تتراكم في التّربة من إفرازات البكتيريا، الفطريّات، الحيوانات الصّغيرة والنّباتات. تنتج عن هذه التّفاعلات أحيانًا موادّ متطايرة، هي الرّوائح الأخرى الّتي نشمّها.

أي أنّه تختلف "رائحة ما بعد المطر" بين الأماكن حسب ظروف البيئة: نوع التّربة، الكائنات الحيّة الّتي تعيش فيها، النّباتات والطّقس الّذي يميّز المنطقة.

 

الرّوائح الّتي نحبّها

بعدما اتّضحت لنا كيفيّة تكوّن رائحة المطر، يمكننا الآن أن نتساءل ما الّذي يجذبنا فيها؟

هنالك العديد من الفرضيّات الّتي تحاول تفسير علاقتنا بروائح ما بعد المطر. الفرضيّة الأكثر شيوعًا هي "نظريّة الثّقافة الحسّيّة". وفقًا لهذه النّظريّة، ثمة دمجٌ بين الأحاسيس الّتي نختبرها ونهج حياتنا. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أجريت في قبيلة الابورجيّين (السّكّان الأصليّين في مركز أستراليا) أنّه السّكّان المحليّين يربطون بين رائحة المطر واللّون الأخضر. تشير هذه العلاقة إلى وجود تداعٍ (علاقة ارتباطيّة) بين رائحة الأمطار الأولى وبداية الفصل الوفير من العام وترقّب فصل الازدهار. من الواضح إذًا لماذا تربط العديد من الثّقافات بين رائحة المطر والازدهار، ووفرة المياه. فهذه عناصر ضروريّة للحياة وتخلق في أدمغتنا رباطًا قويًّا بين رائحة المطر والأحداث الإيجابيّة.

يمكن للمعلومة بأنّ الرّوائح اللّطيفة المصحوبة مع الأمطار هي ناتجة بالأساس عن الإفرازات الزّيتيّة للنّباتات والبكتيريا أن تشكّل إزعاجًا ما لنا. وربّما تكون الحقيقة الأكثر إزعاجًا هي أنّ الهواء بعد المطر مشبع بأبواغ البكتيريا، وعندما نتنفّس هذا الهواء المنعش نستنشق عددًا كبيرًا منها. رغم ذلك، في المرّة القادمة الّتي ستخرجون فيها بعد أوّل مطر وتسلمون أنوفكم للرّائحة المرافقة، تذكّروا بأنّها منعشة وتنذر ببداية فصل الأمطار، ومعها الوفرة، الازدهار والحياة.

 
 
 
الترجمة للعربيّة: د. ريتّا جبران
التدقيق والتحرير: رقيّة صبّاح أبو دعابس

0 تعليقات