شغلت مسألة "تأثير إبريق الشّاي" العلم لأكثر من 65 عامًا. قبل بضعة أشهر فقط، تمكّن الفيزيائيّون من إيجاد تفسير كامل لها
قد تكون ظاهرة التّنقيط مقلقة للنّاس منذ اختراع الإبريق. بدلًا من أنّ يتدفّق المشروب الّذي نسكبه مباشرة من حاوية السّوائل (المصبّ) إلى الكوب، غالبًا ما نجد أنَّ بعض السّائل يفضّل التّدفّق على طول الجدار الخارجيّ للوعاء، وبالتّالي تبليل مفرش المائدة النّظيف الّذي مددناه الآنَ.
لا شكّ أنَّ هذه الظّاهرة ليست جديدة، إلّا أنَّ أوّل اهتمام علميّ لها كان فقط عام 1956. اِقترح ماركوس راينر (Markus Reiner) من التّخنيون في حيفا، الّذي كان رائدًا في مجال علم الرّيولوجيا (علم الجريان)، حينها، نموذجًا أساسيًّا لشرح هذه الظّاهرة وأطلق عليها اسم "تأثير إبريق الشّاي".
في السّنوات الّتي تلت ذلك، اقترح الباحثون نماذج أكثر تفصيلًا وتطوّرًا، لكنّها لا تزال جزئيّة. قبل بضعة أشهر فقط، في أيلول 2021، نشر باحثون من جامعة فيينا نموذجًا فيزيائيًّا يشرح الظّاهرة بشكلٍ شامل، بل وتحقّقوا من تنبّؤات النّموذج من خلال العديد من التّجارب الّتي أجروها، ووجدوا أنَّ التّأثير كان ناتجًا عن مزج عدّة عوامل معًا: سرعة تدفّق (الانصباب) السّائل، شكل الإبريق ودرجة ترطيبه.
ميزان القوى
عندما يتلامس السّائل مع سطحٍ آخر، يؤثّر عليه نوعان من القوى، والّتي تحدّد كيف ستتصرّف قطرات السّائل. الأولى القوى الفاعلة بين السّائل والسّطح (قوى اللّاصقة) الّتي نسعى جاهدين لزيادة مساحة التّلامس بينهما، والثّانية القوى الّتي تعمل بين جزيئات السّائل نفسه (قوى التّماسك) الّتي تسعى للحفاظ على شكل القطرة. التّوازن بين هاتين القوّتين يكوِّن خصائص "التّرطيب"، بما معناه، إلى أيّة درجة يستطيع السّائل البقاء على المسطّح وبالتّالي كيفيّة تحرّكه عليه. إذا كانت القوى اللّاصقة أقوى بدرجة كافية من قوى التّماسك، فهذا يعني أنَّ السّطح قابل للتّبلّل بدرجة كبيرة. في مثل هذه الحالة، سوف تلتصق السّوائل بشدّة على السّطح وتقاوم التّدفّق عليه. بهذه الطّريقة سوف تتراكم القطرات على السّطح ولن تتحرّك، كما يحدث على سبيل المثال مع قطرات المطر الصّغيرة على لوح النّافذة.
عندما تكون القوى بين السّائل والسّطح كبيرة، فإنَّ القوى بين جزيئات السّائل نفسه سوف تتراكم على السّطح ولن تتحرّك أكثر. | الصّورة: New Africa Shutterstock
عندما تكون سرعة التّدفّق من حافة الإبريق أقلّ من حدّ معيّن، تتراكم قطرات السّائل على حافّة فوّهة الإبريق. عندها، كلّ قطرة تتدفّق نحو حافّة فوّهة الإبريق تصادف قطرات تراكمت قبلها هناك. بسبب قوى التّماسك الّتي تعمل هناك على السّائل، فإنّها تلتصق في البداية بالقطرات الموجودة هناك، بدلًا من الانفصال عن الإبريق والتّدفّق منه إلى الكوب.
لذلك، عندما نُميل الإبريق إلى الأمام لنسكب منه الشّراب، يتراكم المزيد والمزيد من القطرات على طرف الإبريق. في النّهاية، تصبح كمّيّة السّائل كبيرة جدًّا فلا يمكنها الحفاظ على شكلها، لأنَّ قوة الجاذبيّة تفوق القوى الفاعلة بين القطرات فتسحبها الى الأسفل. لذلك، سوف تتدفّق القطرات خارج الإبريق، ولكن بسبب نسبة ترطيب الإبريق المرتفعة، فإنَّ القطرات لن تترك السّطح، ولكنّها ستتدفّق على جانب الإبريق، ممّا يؤدّي الى تبلّل المائدة أو المنضدة في المطبخ.
تشرح الدّراسة، أيضًا، كيف تؤثّر خصائص السّائل، الإبريق والتّدفّق على ظاهرة "تأثير إبريق الشّاي". إحدى طرق منع التّنقيط المزعج هو زيادة معدّل سرعة التّدفّق. إذا كان السّائل يتدفّق بسرعة كافية في الفوّهة ويخرج، فإنَّ القطرات لا تكفي للتّشبّث بالسّطح فتتراكم في حافّة الفوّهة. هناك طريقة أخرى لتجنّب التّأثير وهي استخدام إناء مصنوع من موادّ تكون إمكانيّة ترطيبها منخفضة، مثل الموادّ المقاومة للماء. الحلّ الثّالث مرتبط بالشّكل: ستسمح الفوّهة الممدودة والحادّة بالتّدفّق الحرّ للسّائل إلى الخارج، لأنّه لم يعد من السّهل على القطرات التّشبّث بحافّة دائريّة، لذلك تكون الظّاهرة ملحوظة أكثر عندما نسكب السّائل من الكوب.
توضّح ظاهرة "تأثير إبريق الشّاي"، كيف أنَّ الظّواهر اليوميّة غالبًا ما تحتاج إلى تفسيرات معقّدة ودقيقة بشكل خاصّ. وفقًا للباحثين، لا يقتصر فهم هذا التّأثير على الأباريق والأكواب فقط، ولكنّها أيضًا متعلّقة بمجالات بحث أخرى مثل علم الموائع الدّقيقة، الّتي تتخصّص بفهم تدفّق السّوائل في بيئات صغيرة جدًّا مثل الأوعية الدّمويّة الضّيّقة، أو الرّقائق المجهريّة.
في المحصّلة، هل يُمكِّننا هذا التّفسير من الإجابة عن سؤال مهمّ، من المؤكّد أنّه يقلق الكثيرين؟ هل سيتعيّن علينا توخّي الحذر عندما نسكب الماء حتّى عندما نعيش على القمر، حيث البيئة هناك فيها الجاذبيّة تسحب القطرات إلى الأسفل أضعف بكثير من الجاذبيّة على الأرض؟ جواب الباحثين: نعم. تلعب الجاذبيّة دورًا صغيرًا نسبيًّا في تأثير إبريق الشّاي، ويكون تأثيرها الرّئيسيّ على اتّجاه تدفّق السّائل، أي إلى الأسفل. على القمر، ستظلّ السّوائل قادرة على الالتصاق بالفوّهة والتّدفّق على جوانب الإبريق بدلًا من الانسكاب باتّجاه الكوب. سيكون الاختلاف الرّئيسيّ في كمّيّة السّائل الّتي ستتراكم على حافّة الإبريق قبل أنْ يبدأ التّدفّق الى الخارج، بحيث ستكون أكبر.