قد نتلقَّى اللّقاحات ضد أمراض مُعيَّنة مرَّةً كلَّ عدّة أعوام، أو مرَّةً واحدةً لمدى الحياة بالنسبة لأمراض أخرى. لماذا يختلف الأمر بالنسبة للإنفلونزا؟

حلََّ  فصلُ الشتاء، وكما يحدثُ في كلِّ عام، نحن مدعُوُّون لتلقِّي التّطعيم للوقاية  من فيروس الإنفلونزا الذي يُسبِّبُ أمراضًا ذات مضاعفاتٍ صعبة وخطيرة. مرض الإنفلونزا يسبّبُ، أيضًا، أعراضًا عديدة، مثل الحمَّى، السيلان الأنفي، الإعياء، السعال، الصّداع  والآلام العضليَّة. وخلافًا للرَّشح البسيط، الذي قد تتشابه أعراضه مع بعض أعراض الإنفلونزا ، تتسبَّب الإنفلونزا في موت مئات آلاف المرضى سنويًّا، في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى  المضاعفات المرضيَّة الخطيرة التي تظهرلدى الكثيرين. بحسب التّقديرات، فإنّ واحِدًا من كلِّ ألف شخص يصابون بالإنفلونزا يلقى حتفه نتيجة مضاعفات المرض. وتكون أعراض المرض، عادةً، أشدَّ خطرًا على الفئات الضعيفة، مثل الأطفال  دون سن الخمسة أعوام، المسنين، النساء الحوامل والأشخاص الذين يعانون من نقص في المناعة. لا تقتصر مخاطر الإنفلونزا على هذه الفئات فحسب، وقد تكون أعراض المرض، أحيانًا، فتَّاكة بالنسبة للشباب وللأشخاص السَّليمين، أيضًا.   

يعتبر لقاح الإنفلونزا  تطعيمًا وقائيًّا، فعَّالًا وآمنًا جِدًّا ، لذلك، من  البديهي أن نُوصَى بِتَلَقِّي اللّقاح للوقاية من المرض الخطير.  لكن، لماذا نوصَى بِتَلَقِّي اللّقاح في كُلِّ عام من جديد؟ إنَّ اللّقاحات الأخرى توفّر حمايةً لفترة طويلة- وأحيانًا لمدى الحياة، مثل التَّطعيمات ضد شلل الأطفال وضد الحصبة-  بعد تلقي جرعة واحدة، فقط، أو عدَّة جرعات من اللّقاح. لماذا يختلف الأمر بالنّسبة للقاح الإنفلونزا؟   

كما هو الأمر في كثير من الحالات في مجال الأحياء،  فإن الإجابة عن حالة لقاح الإنفلونزا تكمن في فهمنا للتطور البيولوجي ولآليَّاته  لدى فيروسات الإنفلونزا بشكل خاص. إنَّ فيروسات الإنفلونزا تتميّز بمعدل تحوّرٍ جيني عالٍ جِدًّا، الأمر الذي  يؤدي إلى تغيّر سريع ودائم في خصائص الفيروسات، إلى الحدّ الذي يفقد عنده جهاز المناعة قدرته على التَّعرّف عليها وعلى مكافحتها. عندما نتلقَّى التَّطعيم ضد مُسَبِّب مرض معيَّن، فإننا نُعلِّم  جهاز المناعة التّعرُّفَ على أسباب المرض ليتمكَّنَ من مكافحتها قبل أن نُصابَ بها. توجد لقاحات عديدة تحتوي على أجزاء من مُسَبِّبات المرض فقط، التي لا يُمكنها أن تتسبَّبَ في المرض، أي أنها لا تحتوي على مُسَبِّب المرض نفسه، وذلك لتفادي الإصابة بالمرض نتيجة  تلقِّي جرعة اللّقاح . يلتقي جهاز المناعة بهذه الأجزاء، التي تسمى "مستضدات"، فتقوم خلايا المناعة بتشخيصها كمستضدات غريبة، وفي غضون أسبوعَين يقوم جهاز المناعة بإنتاج مُستَقْبِلات وبروتينات مناعيَّة خاصة تسمى "الأجسام المضادة"، التي يُمكنها الارتباط بمستضدات معينة بشكل مُحَدَّد.  في حال دخول مُسَبِّب المرض إلى أجسامنا تقوم المُستَقبِلات والأجسام المضادة بالارتباط بمستضداته، الأمر الذي يتيح لجهاز المناعة التَّعرُّف على مُسَبِّب المرض وإحداث ردِّ فعلٍ مناعيّ سريع وفعَّال ينتهي بالقضاء على مُسَبِّب المرض. لقاح الإنفلونزا يُستحضر من أجزاء بروتينية من غلاف الفيروس، لذلك، فإنَّ ردَّ الفعل المناعيّ يركّز على التعرّف على مستضدات هذه البروتينات وعلى إنتاج  مُستقبِلات وأجسام مضادة خاصة للتّعرُّف عليها ولمُكافحتها. 

نظرًا  لمعدل التحوّرالجيني العالي في فيروسات الإنفلونزا، تحدث طفرات عشوائية عديدة في كُلِّ  مرة تتكاثر فيها الفيروسات في خلايا الجسم. بعد عدة دورات من التكاثر، وبعد تراكم الطَّفرات، يحدث تغيُّر، إلى حدٍّ كبير، في  شكل بروتينات أو مستضدات غلاف الفيروس وفي مبناها، ولا يتمكن جهاز المناعة من التّعرُّف عليها. تغيّر المستضدات هذا يُسَمَّى"الزيحان المستضادي".  عمليَّة الزيحان المستضادي تُتيحُ لفيروسات الإنفلونزا التّملُّصَ من الجهاز المناعيّ، لذلك، فإنَّ فيروس الإنفلونزا يُعتبَر أحد الفيروسات الأكثر انتشارًا في العالم، الأمر الذي  يُفقد اللّقاح القديم فعاليّته وقدرته على حمايتنا من الإنفلونزا بشكلٍ متكرِّر.

بالإضافة إلى ذلك،  يُمكن أن يطرأ على إحدى سلالات فيروس الإنفلونزا، أحيانًا، تغيير جذري سريع يتسبب في ظهور مفاجئ لأنواع  فيروسات إنفلونزا جديدة، وهذا ما يُسَمَّى "التحول المستضدي". يحدث هذا التّحوّل عندما تصيب فيروسات الإنفلونزا المختلفة الخليَّةَ  نفسها في نفس الوقت، فتختلط المادة الوراثيَّة للفيروسات وتُنتِج فيروسًا هجينًا جديدًا. ويُعتَقَدُ أن مثل هذا التّحول المُستضدِّي هو الذي أنتجَ فيروس الإنفلونزا الإسبانية الفَتَّاك،  الذي أَوْدَى بحياة عشرات الملايين من البشر بين العامَين 1918-1919. كذلك الأمر بالنسبة لفيروس إنفلونزا الخنازير الذي انتشر في العام 2009 وكان نتيجةَ مزيجٍ من فيروس إنفلونزا الطيور،  إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الإنسان، الأمر الذي أدّى إلى إنتاج فيروس هجين أَوْدَى بحياة مئات الآلاف من البشر، وخاصّة في المناطق التي لا تتوفَّرُ فيها اللّقاحات والرِّعاية الطِّبيَّة. 

من أجل حماية  السكان من فيروسات الإنفلونزا الجديدة، تقوم منظمة الصِّحَّة العالميَّة WHO، ومنظّمات الصِّحَّة  المحلّيَّة، بمراقبة دائمة لسلالات الإنفلونزا الشائعة في العالم. تنشر منظمة الصِّحَّة العالميَّة  توصياتها الخاصة بتكوين لقاح الإنفلونزا مرَّتين في السنة. المرّة الأولى تكون، عادةً، في شهر فبراير، لسكان النصف الشمالي  من الكرة الأرضيَّة، حيث تقع إسرائيل، والمرَّة الثَّانية تكون، عادةً، في شهر سبتمبر، لسكان النصف الجنوبي من الكرة الأرضيَّة.  يتم تقديم التوصيات لكل نصف من الكرة الأرضيَّة وفقًا لسلالات الفيروس التي كانت شائعة خلال فصل الشتاء الذي يسبق توصية النصف الآخر من الكرة الأرضيَّة.  ويتم نشر التوصيات في فترة تتراوح بين 6-8 أشهر قبل بدء فصل الشتاء، لتمكين شركات الأدوية من إنتاج اللّقاحات في الوقت المُناسب. لكون تركيب اللّقاح يعتمد على التنبُّؤات،  قد تظهر سلالات جديدة بعد إنتاج اللّقاحات بالفعل، خلافًا للتنبؤات. على الرَّغم من ذلك، ، حتى في السنوات التي لا تكون فيها التنبؤات المتعلّقة بتركيب أصناف لقاحات شتاء معيَّن  دقيقة تمامًا، يوفر اللّقاح حماية جزئية، والشخص الذي يُصاب بالإنفلونزا، على الرغم من تلقِّي اللّقاح، يُصاب في معظم الأحيان بمرض خفيف، فقط.  

 يحتوي  لقاح الإنفلونزا على أجزاء  ومستضدات من ثلاث أو أربع سلالات  من الفيروس. . لقاحات شتاء العام 2019  الخاصَّة بالنِّصف الشمالي من الكُرة الأرضيَّة، مثلًا، احتوت على أجزاء من أربع  سلالات مختلفة. يتم أحيانًا تأجيل التوصية النهائية، لتمكين منظّمة الصِّحَّة من رصد التّغيُّر في انتشار إحدى  سلالات الفيروس التي كان من المفترض إدراجها في اللقاح، الأمر الذي يؤدي إلى التَّأخير في توفير لقاح الشتاء. عندما نحصل على لقاح الإنفلونزا كلَّ عام، فإنه لا يكون بمثابة جُرعة أخرى من لقاح قديم، بل إنّه  لقاح جديد سوف يحمينا من سلالات الإنفلونزا الجديدة.   

 

 

الترجمة للعربيّة: د.علاء الدين سمارة
التدقيق اللغوي: خالد صفدي

 

0 تعليقات