كيف يتكوّن الصوت الرقيق اللطيف للماء الجاري، وما علاقة ذلك بارتداد الحجارة التي تُلقى على سطح بحيرة هادئة؟

إنّ صوت خرير (أو نضخ) الماء، المعهود لنا من الوديان التي تجري على رِسْلها في الطبيعة، ومن زجاجة المشروب البارد عندما نصبه رويدًا رويدًا داخل الكأس، هو حقًّا من أجمل النغمات التي تستحسنها آذاننا. من أين ينبع هذا الصوت، من الناحية الفيزيائيّة؟

وفقًا لدراسة نُشرت مؤخرًا في مجلة Physical Review Fluids، جرت متابعة مصادر نغمة الخرير وتعقّبها، والعوامل التي تؤثّر عليها. الباحثون في هذه الدراسة هم اختصاصيّون في الهندسة الميكانيكيّة التي تتطرّق، من ضمن أمور شتّى، إلى الأمواج والسوائل المتدفّقة. أجرى الباحثون مجموعة من التجارب في ظروف متنوّعة، وفكّوا شيفرة العوامل التي تؤثّر على مدى ارتفاع صوت الخرير، واقترحوا تطبيقات مناسبة لما توصّلوا إليه. 

يقول ناشرو هذه الدراسة إنّ العامل المركزي الذي يؤثّر على مدى ارتفاع نغمة خرير الماء، هو قدرة التيار المائيّ الذي يصبّ في مُجمّع مائيّ على تكوين تموّجات على سطح السائل، وتُشتقُّ من ذلك باقي الأمور. المقصود بالتموّجات هو الأمواج الضعيفة والمنخفضة، كتلك التي تتكوّن على سطح الماء عندما تلقي حجرًا على سطح تجمّع مائيّ، سواء كان بحيرة أو أنقوعة (بركة صغيرة) تكوّنت بسبب الأمطار. 


العامل المركزيّ الذي يؤثر على مدى ارتفاع نغمة صوت خرير الماء هو قدرة التيّار الذي يصبّ في الماء  على تكوين التموّجات. تظهر في الصورة تموّجات دائريّة داخل الماء  | Serg64, Shutterstock  

 

التيّارات غير المستقرّة

يحصل الوَقْع (أو التأثير) الذي يُسمّى عدم استقرار بلاتو - رايلي عندما يصطدم عمود من الماء بسطح أملس - سواء كان سائلًا أو أيّ وسيط آخر. يتفجّر عمود الماء مكوّنًا قطرات صغيرة، لأسباب تتعلّق بالطاقة. توجد في كلّ مادة جارية، سواء كانت سائلة أو غازية، حتّى وإن بدت ملساء تمامًا، اضطرابات بسيطة، بمثابة ارتجاجات تتكوّن بسبب الظروف البيئيّة المحيطة. قد تتجلّى الظروف البيئيّة المحيطة، مثلًا، في الاحتكاك مع جدران الأنبوب، أو في فروق موضعيّة في درجة الحرارة والضغط، أو في هَبّات هوائيّة خفيفة وغيرها. يتضاءل قسم من هذه الاضطرابات مع الزمن، في حين يشتدّ قسم آخر. تتكوّن القطرات عندما تتغلّب اضطرابات معيّنة على التيّار الرئيسيّ.

تُعرّف الموجة بأنها عبارة عن تقدُّم اضطراب ما داخل مجال أو وسط أو حيّز، واضطراب الموجة المائيّة هو بمثابة صعود سطح الماء ونزوله. أظهر الفيزيائيّ البلجيكيّ جوزيف بلاتو سنة 1873 أنّه عندما يُعادل طول موجة اضطراب التيّار المائيّ العموديّ 3.13 - 3.18 ضعفًا على الأقل قطرَ التيّار- ينقسم التيّار إلى قطرات. انضمّ الفيزيائيّ البريطانيّ لورد رايلي - الذي ساهم كثيرًا في دراسة الأمواج، ولاحقًا في بدء ميكانيكا الكم - لاحقًا وصمّم التفسير الرياضيّ للنتائج التي حصل عليها بلاتو. سُمّي هذا التأثير على اسميهما لهذا السبب. 

يرتبط التفسير- تفسير رايلي - بمبدأ الحدّ الأدنى من الطاقة - الذي يرتبط بدوره بميل نظام ما للتواجد في حالة اتزان، تكون فيها طاقته الداخليّة أدنى ما يمكن. تميل المادّة الجارية، في هذه الحالة، إلى التقليل من طاقتها - عن طريق تغيير موضعيّ في شكل التيار. تخيّلوا تيارًا من الماء كأنّه عمود اسطوانيّ الشكل من الماء ينسكب داخل مُجَمّعٍ ما، كأس أو بركة مثلًا. تُحوّل الاضطرابات المتعاظمة الطرفَ الأسفل من الأسطوانة إلى قطرة كرويّة وتنفصل عنه. مساحة السطح الخارجي للكرة أصغر منه للأسطوانة ذات نفس القطر. يتقلّص سطح تلامس الجسم مع محيطه كلّما صغرت مساحة السطح الخارجي- حسب قوانين الديناميكا الحراريّة، الثيرموديناميكا- وتقلّ طاقته. طاقة القطرة الكرويّة، طبقًا لذلك، أقلّ من طاقة التيّار.


فحص الباحثون مدى تأثير المسافة بين الفتحة التي يخرج منها التيار المائيّ وبين سطح الماء الذي في الوعاء. في يمين الصورة: ماء يُصبُّ عن ارتفاع قليل من قنينة بلاستيكيّة، وفي يسار الصورة: صبُّ الماء من ارتفاع أكبر | Krakenimages.com; studiovin, Shutterstock

 

قليلٌ من العلم

كانت المنظومة التي استخدمها الباحثون في دراستهم بسيطة للغاية، عبارة عن مصدر للماء وأنبوبة اختبار اسطوانيّة الشكل مليئة بالماء حتّى حافّتها، وعرض الباحثون في المقال تأثير المسافة بين الفتحة التي يخرج منها تيار الماء وبين سطح الماء داخل الأنبوبة. وُجدَ أنه تُسمع نغمة الخرير والصبّ المعهودة، فقط عندما تكون هذه المسافة أكبر من ثلث الطريق نحو التحطّم - أي ثلث طول العمود اللازم لتكوّن عدم استقرار بلاتو - رايلي. لا تتكوّن، بكل بساطة، تموّجات على سطح الماء ولا يُسمع صوت عندما تكون المسافة أقلّ من هذا الارتفاع. 

فحص الباحثون أيضًا العلاقة بين شدّة النغمة وبين سُمْك عمود الماء. صبّوا الماء من قنينة مرّةً، ومن الإبريق مرّةً، ومن أنبوب نحاسيّ رفيع في المرّة الثالثة. اتّضح أنّه عندّ صبّ الماء من ارتفاع منخفض، يكون صوت الخرير الذي يتمّ سماعه هو الأعلى عندما يكون التيار المائيّ رفيعًا. يعود ذلك إلى أنّ التيار الرفيع هو أكثر حساسيةً لِلارتجاجات من التيار العريض، كما أنّه أكثر تموّجًا، ويكوّن التموجات بشكل أسرع. عندما نصبّ السائل من ارتفاع أعلى، ويكون التيار قد تكسّر إلى قطرات، يؤثّر حجم القطرات بشكل مباشر على شدة صوت الخرير، وبالعكس، يتكسّر التيار العريض إلى قطرات أكبر حجمًا، ويشتدّ الصوت الذي ينجم عنها. 

 

 

في الفيديو التالي: التجربة كما أجريت في برنامج  QI  لمحطة البي بي سي (BBC) 

ما هو الغرض وما هي الحاجة من كلّ هذا؟ 

تهتمّ العديد من القطاعات التجاريّة في عصرنا هذا بالمجال الذي يُسمى التسويق الحسّيّ، وهو القدرة على جذب العملاء لِلمنتج، من خلال الروائح والنغمات الصوتيّة والألوان، وغيرها من المحفّزات الحسّيّة. من شأن نغمة خرير السائل، في سياقِنا، أن تعزز نظرة العملاء والزبائن الإيجابيّة تجاه المشروبات الصافية مثل الشاي والمشروبات الخفيفة، وكذلك نظرة عملاء مصالح النظافة والصحّة العامّة، والسباكة التي تبيع منتجات مثل الحنفيات ومعدات الاستحمام وما إلى ذلك. يمكن أن يعمل إنتاج نغمات خرير مناسبة على جذب عدد أكبر من الزبائن. 

قد يساعد فهمُ طريقة الحصول على أنغام الماء المتدفّق الخبراءَ في مجال الصوت، الذين يحاولون محاكاة الأصوات الواقعيّة في صناعة السينما والتلفزيون. كما وُجد أنّ إسماع أنغام خرير السائل من شأنه أن يفيد الناجين من السكتة الدماغيّة في أداء المهام اليوميّة، مثل إعداد الشاي والقهوة.

تحيط بنا فيزياء مثيرة وشيّقة وغنية، وكلّ ما نحتاجه أحيانًا هو طرح الأسئلة الصحيحة. ما زالت المئات، بل الآلاف من الأسئلة، تنتظر إجابات عليها وحلولًا لها - علينا، من أجل ذلك، العدول عن التحديق بالشاشات والنظر إلى العالم من حولنا، وطرح الأسئلة، ومحاولة الإجابة عنها.

0 تعليقات