تسخّن المواقد الحثّيّة (Induction stove) الطّعام، ومع ذلك فهي لا تسخن بنفسها. يكمن السّرّ في المجال المغناطيسيّ

أصبح استعمال المواقد الحثّيّة شائعًا في السّنوات الأخيرة، إذ بدأت تحلّ تدريجيًّا محلّ مواقد الغاز التّقليديّة. تعمل مواقد الغاز بواسطة تيّار متواصل من غاز الطّهي القابل للاشتعال، بحيث تسخّن الحرارة النّاتجة أواني الطّهي الموضوعة على الموقد، وبالتّالي الطّعام. ولكن كيف تعمل المواقد الحثّيّة الّتي لا تسخن بنفسها على الإطلاق أثناء تشغيلها؟ ولماذا لا تصلح بعض الأواني للطّهي عليها؟

الحثّ في هذا السّياق هو اختصار لمصطلح " الحثّ الكهرومغناطيسيّ"، وعلى أساسه يعمل الموقد الحثّيّ. يعتمد الحثّ الكهرومغناطيسيّ على المجال المغناطيسيّ، الّذي يتغيّر بشكل مستمرّ، والّذي يقوم بحثّ، أي إنتاج، تيّارات كهربائيّة في الموصلات الكهربائيّة، مثل المعادن القريبة من مصدر المجال المغناطيسيّ. يُنسب اكتشاف هذه الظّاهرة إلى العالم الإنجليزيّ مايكل فاراداي (Michael Faraday) في القرن التّاسع عشر والّذي سمّي باسمه قانون فاراداي للحثّ الكهرومغناطيسيّ (Faraday's law of induction). على الرّغم من أنّ فاراداي اكتشف هذه الظّاهرة في تجربة مختبريّة، إلّا أنّ الفيزيائيّ الأسكتلنديّ جيمس كليرك ماكسويل (James Clerk Maxwell) هو الّذي صاغ معادلاته الرّياضيّة. تصف قوانين ماكسويل سلوك الدّوائر الكهربائيّة بشكل عامّ والموجات الكهرومغناطيسيّة بشكل خاصّ.


يوضع الوعاء على سطح،  يوجد تحته سلك نحاسيّ ملفوف بشكل ضيّق.. الحثّ الكهرومغناطيسيّ في تقنيّة الحثّ  | Fouad A. Saad, Shutterstock

المغناطيس الكهربائيّ الّذي يولّد تيّارًا كهربائيًّا 

وفقًا لقانون فاراداي، إنّ المجال المغناطيسيّ الّذي يتغيّر مع مرور الوقت يولّد تيّارًا كهربائيًّا في موصل قريب. يمكن أن يكون مصدر المجال المغناطيسيّ المتغيّر مغناطيسًا متحرّكًا أو موصلًا يتحرّك باتّجاه المغناطيس. تعمل جميع محطّات توليد الكهرباء وفقًا لهذا المبدأ، باستثناء المحطّات الّتي تستند إلى الطّاقة الشّمسيّة. كذلك، يمكن أن يكون مصدر المجال المغناطيسيّ  تيّارًا كهربائيًّا يتدفّق في السّلك، وإذا تغيّر التّيّار بمرور الوقت، فإنّ المجال الّذي ينتجه يتغيّر أيضًا. لذلك، إنّ التّيّار المتردّد (Alternating current) - وهو التّيّار الّذي يتغيّر حجمه واتّجاهه بشكل دوريّ- الّذي يتدفق في الملفّ، يولّد مجالًا مغناطيسيًّا يتغيّر بمرور الوقت. ينتقل المجال المغناطيسيّ المستحث عبر الهواء دون الحاجة إلى اتّصال مباشر بين مصدر التّيّار والموصل، ممّا يسمح للتّيّار المتغيّر بتحفيز تيّار في الموصل المجاور له.

عادة ما يتمّ بناء الموقد من سطح زجاجيّ مقوّى، تحته سلك نحاسيّ ملفوف بشكل كثيف وضيّق. عند تشغيل الموقد، يتدفّق تيّار متردّد عبر الملفّ ذهابًا وإيابًا بتردّد 25-50 كيلو هرتز (ألف مرّة في الثّانية). قد يبدو هذا التّردّد عاليًا، ولكنّه يُعتبر منخفضًا نسبيًّا مقارنة بأمواج الرّاديو الشّائعة. على سبيل المثال، يعمل الرّاديو بتردّد حوالي 100 هرتز (مليون مرّة في الثّانية). وتعمل الهواتف المحمولة بتردّدات تصل إلى خمسة جيجا هرتز (مليار مرّة في الثّانية). يولّد التّيّار المتردّد في الملفّ مجالًا مغناطيسيًّا متغيّرًا من حوله، وعند وضع وعاء طهي مناسب على الموقد، يحفّز المجال المغناطيسيّ المتغيّر تيّارًا متردّدًا بنفس التّردّد في قاع القدر أو المقلاة.


يُحدث التّيّار المتردّد في الملفّ مجالًا مغناطيسيًّا متغيّرًا  حوله، ممّا يولّد تيّارًا متردّدًا  بنفس التّردّد  في قاع الإناء. لفائف من الأسلاك النّحاسيّة  | dsokol66, Shutterstock

المغناطيس الكهربائيّ الّذي يقوم بالتّسخين

يعمل الموقد الحثّيّ على تسخين أوعية الطّهي لكون المعدن المصنوع منها مقاومًا للتّيّار الكهربائيّ الّذي يسري خلاله. لهذا الغرض يجب أن يكون الجزء السّفليّ من الوعاء موصلًا للكهرباء لكي يتدفّق التّيّار الكافي من خلاله، ولكن يلزم على المعدن أن يكون مقاومًا للكهرباء لحدّ معيّن، لتوليد الحرارة الّتي من شأنها تسخين الوعاء والطّعام داخله. لتحقيق هذه الغاية، تمّ توظيف "التّأثير السّطحيّ" (Skin effect)، وهي ظاهرة لا يتدفّق فيها تيّار متردّد في موصل - على سبيل المثال، قاع وعاء- عبر الحجم الكامل للمعدن، بل فقط عند عمق معيّن من سطح المادّة. كلّما كان عمق اختراق التّيّار أصغر، زادت مقاومة الموصل للتّيّار، وبذلك يسخن الطّعام أكثر. لذلك، إنّ الأدوات المصنوعة من المعادن ذات عمق اختراق منخفض مناسبة للمواقد الحثّيّة.

تتشكّل دوّامات كهربائيّة تسمّى التّيّارات الدّواميّة أو تيّار إدي (eddy currents)، الّتي تحدّ من اختراق الموجات الكهرومغناطيسيّة. يعتمد عمق اختراق التّيّار على تردّده، بحيث كلّما زاد التّردّد انخفض العمق. من النّاحية النّظريّة، من المفضّل أن يكون التّردّد أعلى قدر الإمكان، لكي يكون عمق الاختراق صغيرًا قدر الإمكان. مع ذلك، تعمل المواقد الحثّيّة على تردّد يبلغ عشرات الكيلو هرتز. تمّ اختيار تردّد العمل بشكل أساسيّ بسبب تكلفة المكوّنات، لأنّ المكوّنات الّتي تسمح بالعمل بتردّدات عالية تكون أكثر كلفة بكثير.

يعتمد "التّأثير السّطحيّ" أيضًا على نوع المعدن، وبشكل خاصّ على مقاومة المادّة ونفاذيّتها المغناطيسيّة (permeability). تعتبر المعادن مثل النّحاس والألمنيوم، والمستخدمة في صناعة القدور والمقالي، موصلات جيّدة، لذا، يكون عمق الاختراق فيها صغيرًا. في المقابل، يتمتّع الفولاذ المغناطيسيّ بنفاذيّة أعلى بألف مرّة من النّحاس والألومنيوم، ممّا يعني أنّه يستجيب بشكل أكبر للمجال المغناطيسيّ المستحدَث فيه. نتيجة لذلك، إنّ عمق اختراق التّيّار المستحدَث في الفولاذ المغناطيسيّ، أي سمك "السّطح" في تأثير السّطح، يكون أحيانًا أصغر بعشرات المرّات من عمق التّيّار المستحدَث في النّحاس والألومنيوم. لذلك، غالبًا ما تكون الأدوات المناسبة للمواقد الحثّيّة مصنوعة من الفولاذ المغناطيسيّ. القاعدة الأساسية للتحقّق من كون أوعية الطّهي مناسبة للمواقد الحثّيّة هي كونها تتمغنط مع المغناطيس المنزليّ.


لا يسخن سطح الموقد من الملفّ الموجود أسفله ولكن يمكن أن يسخن من المقلاة الساخنة الموضوعة عليه. الشوكولاتة التي يذوب جزء منها في المقلاة ويبقى الجزء الآخر صلبًا على الموقد | Canan Asik, Shutterstock

أيّهما الأفضل؟

ما الأفضل؟ الموقد الحثّيّ، موقد السيراميك الكهربائيّ، أم موقد الغاز؟ يعتمد ذلك على العديد من العوامل، من بينها التّفضيل في طريقة الطّهي، فالبعض يفضّل أسلوب الطّبخ التّقليديّ الّذي توفّره مواقد الغاز. مع ذلك، التّفضيل أمر شخصيّ، لذلك سوف نركّز على العوامل الموضوعيّة والقابلة للقياس كمّيًّا. تتمتّع المواقد الحثّيّة بميزة واضحة في كفاءة الطّاقة، فهي أكثر كفاءة بثلاث مرّات من مواقد الغاز ومواقد السيراميك الكهربائيّة التّقليديّة. يحتوي الموقد الكهربائيّ على ملفّ يتمّ من خلاله تمرير التّيّار. بسبب المقاومة العالية للملفّ فإنّه يسخن، وبدوره يقوم بتسخين الأداة التّالية عند الاتّصال المباشر بالسّطح أو بسبب الإشعاع الحراريّ النّاتج عن الملفّ.

نظرًا لطبيعة كيفيّة عمل الموقد الحثّيّ، فإنّه يستهلك الكهرباء فقط إذا تمّ وضع وعاء عليه، لذلك يتمّ توجيه كلّ الكهرباء تقريبًا إلى تسخين أواني الطّهي. من ناحية أخرى، يُنتج موقد الغاز الحرارة عن طريق الاحتراق، ممّا يؤدّي إلى هدر الكثير من الطّاقة في تسخين بيئة الطّهي. بالتّالي، قد يكون هذا هو السّبب في تسخين الأطباق بشكل أسرع في المواقد الحثّيّة مقارنة مع مواقد الغاز. 

بشكل عامّ، تعتبر المواقد الحثّيّة أكثر أمانًا للاستخدام، حيث تعتمد آليّات السّلامة فيها على قطع التّيّار في حالة عدم وضع أداة مناسبة على الموقد، وبالتّالي لا يوجد خطر الإصابة بحروق مباشرة من مصدر التّسخين، لأنّ الملفّ لا يمكنه تسخين الجسم بشكل مباشر. بالطّبع هناك خطر الإصابة بالحروق من أواني الطّهي السّاخنة، أو إذا كان الموقد ساخنًا بعد الطّهي، على غرار مواقد الغاز. يعتبر هذا الأمر خطيرًا بشكل خاصّ في المواقد الكهربائيّة السيراميكيّة، إذ إنّها تسخّن السّطح كثيرًا، وفي بعض الأحيان لا يمكن ملاحظة ذلك، مقارنة مع موقد الغاز حيث يمكن رؤية اللّهب المشتعل. كذلك، يشكّل تسرّب الغاز خطرًا كبيرًا في أنظمة الغاز، الأمر الّذي لا يعتبر مشكلة في المواقد الكهربائيّة، على الرّغم من أنّ تسرّب الغاز نادرًا في البنى التّحتيّة الحديثة، ويحدث بشكل رئيسيّ في البنى التّحتيّة المرتجلة وغير الخاضعة للرّقابة. 

تُنتج مواقد الحثّ إشعاعًا كهرومغناطيسيًّا، لكنّ نطاق تردّد الإشعاع يعتبر آمنًا ويتمّ امتصاص معظم الإشعاع بواسطة أواني الطّهي على أيّة حال. لا يوجد خطر التّعرّض لصدمة كهربائيّة أثناء الطّهي بالحثّ، على الرّغم من أنّ الموقد الحثّيّ يولّد تيّارًا كهربائيًّا في قاع القدر. يحدث التّيّار في نطاق صغير جدًّا في أسفل القدر، وبالتّالي لا يتدفّق أيّ تيّار في منطقة المقبض، ويتوقّف التّيّار في الأسفل بمجرّد رفع الوعاء. "يفضّل" التّيّار الكهربائيّ التّدفّق في الوعاء، لأنّ المقاومة في الوعاء أقلّ من مقاومة جسمنا. إذا كان الأمر كذلك، فإنّ الخطر الرّئيسيّ في المواقد الحثّيّة هو خطر الحروق من وعاء ساخن وليس خطر الصّعق بالكهرباء.


أقلّ كفاءة في استخدام الطاقة، وبشكل عامّ، أقلّ أمانًا في الاستخدام من المواقد الحثّيّة . موقد غاز (يمين) وموقد كهربائيّ تقليديّ | LUNA BRILLANTE; Kolonko, Shutterstock

الحثّ يؤتي ثماره

في حالات انقطاع التّيّار الكهربائيّ، هناك ميزة إيجابيّة في توفّر مصدر للطّهي والتّدفئة لا يعتمد على الكهرباء. ومع ذلك، كانت هذه الميزة ذات أهمّيّة عندما كانت شبكة الكهرباء في إسرائيل أقلّ موثوقيّة، بينما اليوم تُعتبر أكثر موثوقيّة. في السّنوات الأخيرة، كان هناك حوالي 200 دقيقة من انقطاع التّيّار الكهربائيّ في كلّ بيت، أي في المتوسّط أقلّ من 0.05% من مدّة إمداد الطّاقة، ممّا يعني أنّ موثوقية إمدادات الكهرباء تزيد عن 99.95 بالمائة. من ناحية، تتمتّع مواقد الغاز بميزة واضحة حتّى اليوم، وهي تكلفتها الأوّليّة، في حين أنّ تكلفة نماذج المواقد الحثّيّة تكون ضعفين أو ثلاثة أضعافها. ومع ذلك، وفقًا لتحليل وزارة الطّاقة، إنّ هذه التّكلفة يقابلها تكاليف استهلاك الغاز المرتفعة، ممّا يجعل مواقد الحثّ أرخص على المدى الطّويل.

في النّهاية، تُعتبر المواقد الحثّيّة مبتكرة للطّهي المنزليّ، وشعبيّتها آخذة بالازدياد. تعتمد آليّة عملها على حثّ المجالات الكهرومغناطيسيّة الّتي تعمل مباشرة على تسخين أواني الطّهي المصنوعة من المعدن المغناطيسيّ. تُعتبر مواقد الحثّ أكثر أمانًا من مواقد الغاز، كما أنّها أكثر كفاءة، ومن المتوقّع أن يزداد توزيعها في السّنوات القادمة.

0 تعليقات