لماذا يستمرّ الشعور وكأنّنا ما زلنا نُبحرُ لوقت ما، حتّى بعد نزولنا من القارب؟
منذ أكثر من ألفي عام، كتب الطبيب اليونانيّ الشهير أبقراط "الإبحار في البحرِ يثبتُ أنّ الحركة تُزعج الجسم". في واقع الأمر، يعاني الكثير من الناسِ من "مرض البحر"، أو "مرض السفر أو الحركة"، وهو الشعور بالغثيان والدُّوار أثناءَ الإبحارِ، أو حتّى ركوب السيارة يوميًا. لكن، ووِفقًا لبعض التقديرات، يعاني نحو 43 إلى 73 بالمائة منّا من ظاهرةٍ مشابهة ولكنّها معاكسة - ألا وهي مرض اليابسة.
مرض اليابسة حالةٌ يستمرّ فيها الإنسان في الشعور بحركةِ أمواجٍ أو حركاتٍ تحت رجليه، رغم انتهاء الرحلة البحريّة وعودته إلى اليابسة. ومع أنّ هذه الظاهرة منتشرة بشكل خاصّ بعد وجودنا فترة من الزّمن في البحر، إلّا أنّها من الممكنِ أن تظهر أيضًا في نهاية السفر في وسائل نقل أخرى كالقطار أو السيارة، كما تمّ توثيقها عند عودة روّاد الفضاء إلى الأرض. ويمكن أنّ ينشأ هذا الشعور أيضًا عند راكبي الأمواج، أو مستعملي جهاز المشي في الصالة الرياضيّة.
الذي يحدث في الواقعِ، هو أنه عندما نكون على سفينةٍ تتأرجح على الأمواج إلى الأعلى والأسفل، يشخّص دماغنا نمط الحركة فَيُكَيِّف معه حركاتِ الجسم. بهذه الطريقة يمكننا السير مباشرةً على متن السفينة وعدم الانزلاق عليها. أمّا عند عودتنا إلى اليابسة، فإنّ الدماغ يحتاجُ أحيانًا بعضَ الوقتِ للإدراك أنّ نمطَ الحركة هذا قد توقّف. خلال هذا الوقت، نشعرُ كأنّنا ما زلنا في البحر، لأنّ الدماغَ ما زال يبحثُ عن نمط الحركةِ السابق. مرض اليابسة منتشر بين الرجال والنساء، ومعظم من يعانون منه يعانون من مرضِ البحرِ أيضًا، ويشعرون بعدم الراحة في بداية كلّ رحلةٍ بحريّة.
عاصفة لا تنتهي
سيختفي هذا الشعور بالحركة عند معظمنا في غضون ساعاتٍ قليلةٍ على الأكثر، أو في بضع أيامٍ في أقصى حدّ. مع ذلك، قلّة من الناس سيستمر شعورهم السيء لفترةٍ طويلةٍ بعد الرحلة البحريّة، وفي حالاتٍ نادرة تستمرّ الأعراض لسنوات طويلة.
عندما تستمرّ الأعراضُ لأكثر من شهرٍ كامل، حينها لا تصنّف هذه الحالة كمرض اليابسة، ولكنّها تدعى مرض متلازمة النزول alM de débarquement syndrome أو MdDS. رغم أننا لا نعلم مجمل أسباب هذه المتلازمة، إلّا أنه تمّ فحص العديد من التفسيرات لذلك.
يعتقد معظم الباحثين اليوم أنّ هذه المشكلة لا علاقةَ لها بالمبنى التشريحيّ، أو إصابة فعليّة للأذن الداخليّة المسؤولة عن التوازن في الجسم، وأنّ هذا المرض ناتج عن اضطراب في الدماغ نفسه. التفسير المقترح لهذه المتلازمة، هو أنّ دماغ المرضى "تمسّكَ" بنمط الحركة الذي اعتادَ عليه في السفينة، ولم يعد قادرًا على التكيّف مجدّدًا مع النمطِ الثابتِ على الأرض. لا يزال سبب ذلك غامضًا، ولا يُعرف سبب إصابة بعض الأشخاص بالمرض وعدم إصابة الآخرين بذلك.
أحد الأعراض البارزة لهذا المرض، الذي يستخدم أحيانًا لتمييز هذا المرض عن أمراضٍ عصبيّة مشابهة أخرى، هو أنّ أعراضه تَقِلّ عند العودة إلى حالة الحركة.وقد عبّرَ معظم المرضى أنّهم يشعرون بتحسنٍ معيّن عندما يكونون في حركة، على سبيل المثال عند قيادة السيارة.
هذه المتلازمة منتشرة بين النساء أكثر منها لدى الرجال، خاصّة في جيل منتصف العمر. إحدى الفرضيّات التي تفسّر ذلك هي أنّ التغييرات الهرمونيّة التي تحدث في الدماغ تؤدّي إلى هذه الحالة. أما الادّعاء بأنّ المرض أكثر شيوعًا بين الأشخاص الذين يعانون من الصداع النصفيّ، فلا يوجد دليل قاطع عليه. حتّى اليوم، لا يتوفر علاج معروف لهذا المرض، لكن يتمّ فحص العديد من الاتّجاهات العلاجيّة التي تنضوي تحت المحفّزات الدماغيّة.