هل شاهدتم دوّامة هوائيّة فوق سطح البحر أو سطح بحيرة كبيرة؟ قد يكون ذلك عمودًا مائيًّا (شاهقةً مائيّةً)، وهي ظاهرة جوّيّة ذات مظهرٍ فريدٍ

يعتبر عمود الماء (الشّاهقة المائيّة) (Waterspout) ظاهرة جوّيّة ساحرة: هو عبارة عن دوّامة دوّارة من الهواء وقطرات الماء، تتحرّك من على وجه المسطّحات المائيّة الكبيرة. يُسمّى عمود الماء أحيانًا بالتّورنادو البحريّ نظرًا لأوجه الشّبه في شكلها، إلّا أنّ أعمدة الماء لا تشبه بالضّرورة أعاصير التّورنادو الّتي تحدث على سطح الأرض، وتنفرد كلّ ظاهرة منهما بآليّة تكوّن خاصّةً بها.

يتكوّن عمود الماء من هواء يدور بسرعة مكوّنًا دوّامة، ومن الماء - إلّا أنّه ليس بماء البحر وإنّما مياه عذبة، تتكوّن نتيجة تكاثف موضعيّ لبخار الماء في السّحابة. قد يبلغ قطر عمود الماء مائة مترًا وارتفاعه حوالي 600 مترًا. 

من المعتاد تقسيم أعمدة الماء إلى نوعين، حيث تنتمي غالبيّتها للنّوع الأوّل، الّذي يُسمّى العمود المائيّ الخاصّ بالطّقس المعتدل (Fair Weather Waterspout)، أو عمود الماء اللاعُصاريّ، والّذي يتكوّن في الطقس المستقرّ بِوجود السّحب الرّكاميّة - وهي سحب منتفخة تشبه القطن. يتشكّل هذا النّوع من الأعمدة المائيّة بالقرب من الماء، الّذي تكون درجة حرارته ساخنةً نوعًا ما، بِدءًا من 26 درجات سيلزيوس. وتيرة تبخّر الماء في هذه الدّرجة من الحرارة عالية؛ يختلط الهواء السّاخن الصّاعد إلى أعلى بالهواء البارد، وتتكوّن بينهما - بسبب الفرق في درجات حرارتِهما - ريح تتحرّك بحركة دائريّة. 

تتكوّن أعمدة الماء الخاصّة بالطّقس المعتدل في الأسفل وعلى مستوى الماء، ثمّ تصعد إلى أعلى، وذلك بخلاف أعاصير التّورنادو الّتي تتكوّن في قاعدة السّحابة، ثم تتّجه إلى الأسفل. تتصل أعمدة الماء أحيانًا بقاعدة السّحابة عند نقطة تُسمّى "قُمع التّكثيف".لا يضاهي الخطر من مثل هذه الأعمدة المائيّة أخطار إعصار التّورنادو، إلّا أنّها قد تكون سريعةً بسرعة التّورنادو الخفيف. 

تشبه آليّة تكوّن الأعمدة المائيّة من النّوع الثّاني، والّتي تُسمّى الأعمدة الإعصاريّة أو شبيهة التّورنادو، آليّة تكوّن إعصار التورنادو على سطح اليابسة. قد تنشأ هذه الأعمدة في قاعدة غيوم عاصفة، من نوع السّحب الركاميّة الممطرة، من على سطح البحر، ومن المحتمل أيضًا أن تتكوّن على اليابسة بالقرب من البحر، ثمّ تتحرّك باتّجاه البحر. تختلف هذه الأعمدة عن التّورنادو "الحقيقيّ" بأنّها قد تتحرّك فوق الماء، كما أنّها أبطأ من التّورنادو. كثيرًا ما تصاحب العواصف الرّعديّة والأمطار والبَرَد تكوّنَ هذا النّوع من الأعمدة. 


تتحرّك الدّوامة الدوّارة من الهواء وقطرات الماء من على وجه المسطّحات المائيّة الكبيرة. في الصّورة: عمود مائيّ خاصّ بالطّقس المعتدل تشكّلَ في خليج فلوريدا كيز. | Mike Theiss / Science Photo Library

كيف يتكوّن العمود المائيّ؟ 

يتكوّن العمود المائيّ على خمس مراحل. تتشكّل، في المرحلة الأولى، دائرة داكنة على شكل قرص على سطح الماء، ويسمّى هذا القرص بالمنطقة السّوداء. تلتقي دوامة الهواء وسطح الماء في هذه النّقطة. تتشكّل، في المرحلة الثّانية، قاعدة حلزونيّة الشّكل من مياه البحر قريبًا من سطحه. تبدأ المنطقة السّوداء، في المرحلة الثّالثة، برشّ قطرات الماء في كلّ الاتّجاهات بسبب دوّامات الرّياح القادمة من اتّجاهات مختلفة.

المرحلة الرّابعة هي ذروة عمود الماء، إذ تلتقي القاعدة والدوامة من الأعلى، ويمكن عندها رؤية شكل الدّوامة على امتدادها. ويبدأ عمود الماء بالاضمحلال في المرحلة الخامسة والأخيرة. يستمر مكوث قُوام عمود الماء لفترة وجيزة قد تطول لتصل عشرين دقيقة، ثم يضمحل ويتلاشى. تتلاشى غالبية الأعمدة المائية نهائيًّا عندما تصل خطَّ الشّاطئ. 

يمكن مشاهدة الأعمدة المائيّة في بلادنا أيضًا. قد تحدث هذه الظّاهرة في غالبيّة سواحل البحار في العالم، ويزداد احتمال تَكوّنها في الفترة ما بين شهر حزيران/ يونيو وتشرين الأوّل/ أكتوبر. يندر نسبيًّا، مع ذلك، تكوّن الأعمدة المائيّة في منطقة البحر الأبيض المتوسّط. 

تُعدّ، من ناحية أخرى، الأعمدة المائيّة في ولاية فلوريدا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، مشهدًا شائعًا. نخصّ بالذّكر خليج فلوريدا كيز(Keys)، الّذي سجّل رقمًا قياسيًّا في عدد الأعمدة المائيّة الّتي تتكوّن فيه: ما معدله مئات منها في السّنة الواحدة. يتكوَّن الكثير من الأعمدة المائيّة في هذا الخليج، بسبب الماء الساخن والرّطوبة العالية الّتي يمتاز بهما. قد تصل هذه الأعمدة إلى الشّاطئ وتخلّف أضرارًا بالغة في الممتلكات. شوهدت الأعمدة المائيّة في منطقة البحيرات الكبرى في شمالي الولايات المتّحدة أيضًا، وكذلك على شواطئ إفريقيا.  


سجّل خليج فلوريدا كيز الرّقم القياسيّ العالميّ في عدد الأعمدة المائيّة. نشاهد في الصّورة عمودًا مائيًّا شاهقًا، ونلاحظ المنطقة السّوداء في قاعدته | Science Source / Science Photo Library

المسافة الآمنة

قد تكون الأعمدة المائية خطِرة، حتى تلك التي تتكوّن في الطقس الهادئ، تمامًا مثل خطورة إعصار التورنادو الذي يحدث على اليابسة. من الهام، على ضوء ذلك، عدم الاقتراب منها والحفاظ على مسافة آمنةٍ بعيدًا عنها. لقد أدت الأعمدة المائية في الماضي إلى انقلاب القوارب، وألحقت أضرارًا بالسفن الكبيرة أيضًا. 

تُشكّل صعوبة التّنبؤ بحدوث العمود المائيّ تحدّيًا. لا يمكن، في معظم الحالات، تنبّؤ اقتراب عمود الماء نحو الشّاطئ، وكانت مشاهدات الناس هي الطّريقة الوحيدة لِمتابعة تكوّن الأعمدة المائيّة وتعقّبها. نجح الباحثون في الآونة الأخيرة في تطوير نماذج إحصائيّة للأعمدة المائيّة، وذلك بفضل تردّد حدوثها العالي في خليج فلوريدا كيز، وتوفّر المعطيات عنها. تأخذ هذه النّماذج في الحسبان درجة حرارة الماء، وعمق السحابة، وسرعة الرّياح، وتستخدم العلاقة فيما بينها للتّنبّؤ بالاحتمال الأكبر لزمن تكوّن عمود الماء. 

 قد تتأثّر الأعمدة المائيّة، مثل العديد من غيرها من الظّواهر الجوّيّة، بالتّغيّرات المناخيّة العالميّة.  

 قد يؤدّي ارتفاع معدل درجة حرارة المياه، إلى تكوّن الأعمدة المائيّة في أماكن ندرَ حدوثها فيها سابقًا. كما تؤثّر درجة حرارة المياه على سرعة الرياح وشدّتها، وقد نشاهد في المستقبل المزيد من الأعمدة المائيّة الّتي تشكّل خطرًا على الحياة. ما زالت الأبحاث والدّراسات في مجال الأعمدة المائيّة متواضعةً، على الرّغم من كونها ظاهرةً مثيرةً، وما زلنا في انتظار توفير الإجابات عن تكوّنها وعن إمكانيّة التّنبّؤ بحدوثها.

 

0 تعليقات