تُمنح جائزة نوبل لهذا العام لثلاثة علماء من مجال الفيزياء الفلكية، تقديرًا لاكتشافاتهم التي تتعلَّق بإشعاع الخلفية الكونيّة، وللاكتشاف الأول لكوكبٍ سيّار يقبعُ في نظام شمسي آخر.
في هذا العام، تُمنح نصفُ الجائزة لجيمس بيبلز(Peebles)، الكندي، تقديرًا لمساهمته في سلسلة من الاكتشافات في مجال علم الكون، ألقَت ضوءًاجديدًا على بنية الكون من خلال الدراسات النظرية، وقد تضَمَّن ذلك إشعاع الخلفية الكونية؛ وسيشاركه في النصف الآخر من الجائزة عالِما الفيزياء الفلكية السويسريَّان ميشيل مايور(Mayor) وديديا كيلو (Queloz)، تقديرًا لأوّل اكتشافٍ لكوكبٍ سيّارٍ خارجَ نظامنا الشمسيّ، وقد حاز هذان العالمان، قبلَ عامين، على جائزة وولف أيضًا، في أعقاب هذا الاكتشاف.
حول الإشعاع الكوني واكتشاف كوكب خارج نظامنا. من اليمين: بيبلز ، مايور وكلوز ، الحائزون على جائزة نوبل في الفيزياء 2019 | موقع جائزة نوبل
االخلفيّة الكونيّة
في العام 1964 حاول عالِما الفيزياء الفلكية الأمريكيان أرنو بينزياس (Penzias) وروبرت ويلسون (Wilson) التخلص من ضجيج الخلفية المزعجة التي قاطعت عملهما عبر استخدام مرقابٍ لاسلكيٍّ متقدمٍ وجديد. في نهاية المطاف، أدرك الاثنان أن مصدر ضوضاء الخلفية لم يكن سوى الكون نفسه - إشعاع الخلفيّةٍ الكونيّة الميكرويّ - وقد حاز هذا الاكتشاف على جائزة نوبل في الفيزياء في العام 1978. حاول العديد من العلماء، على رأسهم جيمس بيبلز، اقتراحَ نظرياتٍ لتفسير هذا الإشعاع. ولد بيبلز في وينيبيغ في كندا عام 1935، وحصل على درجةِ الدكتوراة في الفيزياء الفلكية من جامعة برينستون، وبعد ذلك أشغلَ منصبه كباحث في نفس الجامعة .
اهتم بيبلز، من خلال دراساته في مجال الفيزياء النظرية، في الكون المبكر، وقد أدرك أن عمليّة التبريد التي خفضت درجة حرارة الكون الملتهب، بعد الانفجار الكوني العظيم، بمقدار بضع آلاف الدرجات خلال الأربعمائة ألف سنة الأولى، قد غيّرت مبنى المواد التي يتكوّن منها الكون، الأمر الذي تسبب في انبعاث إشعاعٍ مُصاحب من الكون المبكر، يُعرف اليوم باسم "إشعاع الخلفية الكونية الميكروي"، الذي يُنسب اكتشافه لويلسون وبنزياس. بالإضافة إلى ذلك، أدرك بيبلز من خلال بحثه، أنّ طاقة هذا الإشعاع يمكن أن تكشف قدرًا كبيرًا من المعلومات حول بداية الكون - على سبيل المثال، يُمكن حساب كمية المادة التي نتجت إثر الانفجار العظيم ومحاولة فهم العمليات والتغييرات التي مرّ فيها الكون المبكّرفي بدايته.
حظيت أفكار بيبلز النظرية حول تكوّن الإشعاع الكوني والعمليات التي جرت في الكون المبكر بتدعيمٍ إضافيٍّ في العام 1992، عندما أكدت قياسات القمر الاصطناعي COBE (وبعد ذلك، قياسات أقمار اصطناعيّة أخرى) تنبؤاته بخصوص قياساتِ الإشعاعات الكونية الميكروية، وقد حاز فريق البحث آنذاك بفضلها على جائزة نوبل للفيزياء للعام 2006 .
بقايا ملموسة من الانفجار العظيم. خريطة إشعاع الخلفية الكونية | المصدر: Science Photo Library
فارسُ الظَّلام
منذ أوائل منتصف القرن العشرين أدركَ علماءُ الكونيّات أن تصوّرنا البشريّ للكون بعيدٌ جِدًّا عن الكمال و فيه ثغراتٌ كثيرة. إحدى هذه الثغرات تتمثل في مفهوم الكتلة التي "تثبّت" المجرات في مواقعها، وعلى شكلها الحالي، وتمنعها من التشتت والتحرّك بصورةٍ عشوائيّة في الفضاء. في الستينيات والسبعينيات، خلص بعض الباحثين، ومن بينهم عالمة الفيزياء الفلكية فيرا روبين (Rubin)، إلى أنه لا بدّ من وجود كتلة أخرى حول المجرات، لا نستطيع رؤيتها أو قياسها بطريقة مختلفة.هذه الكتلة المفقودة سُمِّيَت "المادة المعتمة"- (Dark Matter)، كما أن مسألة أهميّتها ما تزال تحيّرالعديد من العلماء. في العام 1982 أصدر بيبلز إحدى تنبؤاته الأولى حول طبيعة المادة المعتمة، ووفقًا لها، تتكوَّن هذه المادّة من جزيئات ثقيلة وباردة ذات حركةٍ بطيئة للغاية، وهي لا تتفاعل مع المواد المعروفة لنا. وفقًا للحسابات، تشكّل المادة المظلمة حوالي 26 بالمائة من كتلة الكون، وعلى الرغم من مواصلة العلماء البحث عنها بالوسائل الكونية وبمسرّعات الجسيمات، فإننا لا نعرفُ شيئًا عنها حتى الآن.
يواجه علماءُ الكون لغزًا آخر هو التوسع المتسارع للكون. في العام 1929 أظهر عالم الفلك إدوين هابل أن الكون آخذ في التوسع، لكن، لكي يكون هذا التمدد مبرّرًا، لا بُدَّ من وجود كتلة أو طاقة في الكون، أكبر بكثير مما يمكننا رؤيته . تم تقديم إحدى التفسيرات المحتملة لهذا الأمر من قبل بيبلز في دراسة نشرت في العام 1984، أشارت إلى احتمال وجود طاقةٍ تدفع الكون للتوسّع. أصبحت هذه النظرية ساريةً في العام 1998، عندما كشفت المُراقَبات أن الكون لا يتوسع فحسب، بل يتسارع - وهو اكتشاف فاز بجائزة نوبل في الفيزياء في العام 2011.
لقد أحيت فكرة بيبلز في الواقع "الثابت الكوني" الذي أضافه ألبرت أينشتاين إلى معادلات النسبية العامة لشرح ما سادَ اعتقاده آنذاك -أن الكون في حالة استقرارٍ وثبات- ثم قام بإزالته من المعادلة عندما اتضح أنّ الكون في حالةٍ من التوسّع. هذه الكتلة "المفقودة" تسمى في الوقت الحاضر "الطاقة المظلمة"، ووفقًا للحسابات، فإنها تمثل حوالي 69 بالمائة من إجمالي الكتلة في الكون.
بالإضافة إلى اكتشافاته النظرية، مهّد بيبلز، أيضًا، الأسس لتحويل علم الكونيات إلى مجال علمي مشروع، يستند إلى الملاحظات والقياسات العلمية والحسابات الرياضية الصارمة. بالإضافة إلى أشياء أخرى، نشر بيبلز ثلاثة كتب دراسية كانت بمثابة حجر الزاوية في هذا المجال: علم الكونيات الفيزيائي (1971) ، بنية الكون بوحدات قياسٍ كبيرة (1980) و مبادئ علم الكونيات الفيزيائي (1993).
تنضم أعمال ببيلز الأكثر شهرة، وأبرزها التوقعات الكونية للإشعاع في الخلفية وآثارها على بنية الكون وتوقعاته حول المادة المظلمة والطاقة المظلمة، إلى العديد من دراساته الأخرى حول تكوين المادة في الكون في بداياته والعمليات التي مرت على الكون بعد الانفجار الكبير، الأمرالذي يوفر لنا فهمًا أفضل بكثير للكون ولهيكله الحالي وللعمليات التي شكلته.
اكتشاف غيّر الاصطلاحات المتّبعة حول تكوين الكواكب. ميشيل مايور يتحدث في حفل توزيع جائزة وولف| الصورة بواسطة كيرين وولف
الكواكب الخارجيّة
قبل 24 عامًا بالضبط، في 6 أكتوبر 1995، قام عالما فلك سويسريَّان بعرض اكتشاف غير عادي في مؤتمر علمي عُقِدَ في فلورنسا، في إيطاليا. قام العالِمان بعرض دليل على وجود كوكب سيّار حول شمس تدعى 51 Pegasi، وتبعد حوالي 50 سنة ضوئية عنا. لقد أظهرت حساباتهما أن هذا الكوكب بحجم كوكب المشتري (حوالي نصف كتلة كوكب المشتري،على وجه الدقة)، لكنه أقرب بكثير إلى شمسه، التي تضاهي شمسنا في حجمها، وهو يكمل دورته حولها في غضون أربعة أيام فقط - وهذا يعني أن درجة الحرارة على سطحه عاليةٌ جِدًّا ، وتعادل أكثر من 1000 درجة على مقياس سيلزيوس. دخل هذا الكوكب إلى سجل تاريخ البشرية، لأنه كان أول كوكب على الإطلاق يُكتَشَف في نظام شمسي آخر.
كوكب سيّار يبعد عنا 50 سنة ضوئية. موقعه في سماء بيجاسي 51 | موقع جائزة نوبل
ما بين الأزرق والأحمر
وُلد ميشيل مايور عام 1942 في لوزان في سويسرا، وحصل على درجة الدكتوراة في الفيزياء الفلكية من جامعة جنيف وهو في التاسعة والعشرين من عمره، وهو يعمل اليوم أستاذًا في نفس الجامعة. أحد مجالات خبرته هو قياس سرعة النجوم. في سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأ الباحثون يفكّرون في العثور على كواكب في أنظمة شمسية أخرى، كان أحد الأساليب المتّبعة في هذه الأبحاث يتضمَّن قياس التغيرات الصغيرة في سرعة النجوم، بصورة دقيقة.
إن الكوكب الذي يدور حول نجم، أي حول شمس، لا ينجذب بفعل جاذبية شمسه، فقط، بل يؤثر أيضًا عليها ويجذبها نحوه قليلاً. من النَّاحية الفيزيائيَّة، يمكن القول إن كلا الجسمين يدوران حول مركز ثقل مشترك، وبسبب اختلاف الكتلة بينهما، هو قريب جِدًّا من مركز الشمس. إذا كان الكوكب كبيرًا بشكلٍ كافٍ ، وإذا نظرنا إلى هذا النظام من الزاوية الصحيحة، سوف يبدو الكوكب كأنَّه يقترب من مركز الجاذبية ويتحرك بعيدًا عنه، على التوالي. يمكن قياس هذا التغيير بفضل الظاهرة التي تعرف باسم تأثير دوبلر: تواتر الإشعاع المنبعث من الجسم سوف يبدو لنا أكبر لأنه يقترب منا بسرعة (أو نقترب نحن منه)، وسوف يبدو أصغر كلما ابتعد. إذا تم قياس ضوء النجوم بواسطة مخطط طيفي يحلل تركيبة الإشعاع، سوف تبدو ألوانه أكثر زُرْقَةً أثناء تحركه باتّجاهنا ، وستبدو أكثر حُمرةً أثناء تحركه بعيدًا، وهما الظَّاهرتان اللتان تُعرفان بـِ "الانزياح نحو الأزرق" (blueshift) و"الانزياح نحو الأحمر" (redshift).
التقنيات التي توفَّرت لمايور في السبعينيات لم تُمَكِّن من إجراء قياسات كهذه بمستوى الدِّقّة المطلوب للكشف عن انحرافات صغيرة كتلك الناتجة عن جذب الكواكب. مع تطور الألياف الضوئية وتقنية الـ CCD، التي أتاحت إمكانية التصوير الرقمي المتقدم ( وحاز مُطوّروها على جائزة نوبل في الفيزياء في العام 2009) تحسن مدى القياس. لقد توفَّرَ لمايور عاملُ نجاحٍ إضافيّ ، هو طالب دكتوراة نشيط جديد انضم إلى مجموعته البحثية في أوائل التسعينيات، اسمه ديديا كلوز، من مواليد العام 1966.
كانت مهمة كلوز تطوير تقنيَّات قياس أكثر تطورًا، وطرق حساب تتيح الحصول على معلومات، أكثر من القياسات الحالية. بعد حوالي عامين من العمل، كان في حوزتهما مطياف متطوِّر، يعتمد جزئيًا على التحسينات التي قام بها كلوز. في أوائل العام 1995 بدأ الاثنان بمراقبة النجم Pegasi 51، وبعد حسابات واختبارات استمرت عدّة أشهر قرَّرا نشر الاكتشاف.
ملصق "رحلات" إلى كواكب خارج المجموعة الشمسية. من اليمين: Pegasi 51b، الاكتشاف الأول | NASA
لقد فاجأ اكتشاف مايور وكلوز العديد من الباحثين، لأن الفرضية التي كانت سائدة آنذاك هي أن الكواكب التي بحجم كوكب المشتري تنشأ وتدور بعيدًا عن شموسها. لقد مهّد إنجازُهما الطريق لاكتشاف كواكب مماثلة، وسرعان ما تم اكتشاف الآلاف من مثل هذه الكواكب بواسطة مجموعة متنوعة من الطرق، ومن ضمنها طريقة السرعة الشعاعية التي استخدمها مايور وكلوز، وكذلك عن طريق قياس الانخفاض الدوري في شدة ضوء الشمس، عندما يمر كوكبٌ معيَّن بيننا وبينها.
إن اكتشاف مايور وكلوز لم يمهد الطريق لاكتشاف العديد من الكواكب في الأنظمة الشمسية الأخرى، فقط، بل لفهمٍ أفضل لطرق تكوين الكواكب والأنظمة الشمسية بشكل عام، أيضًا. كما أن التقنيات تطورت، هي أيضًا، بشكل كبير خلال الأربعة والعشرين عامًا التي تلت هذا الاكتشاف، الأمر الذي أتاح اكتشاف كواكب أصغر حجمًا وأكثر بُعدًا عن شمسها، ومن ضمنها "توائم الأرض"، التي يُذَكِّرُنا حجمُها وتكوينُها بكوكب الأرض. في السنوات الأخيرة، تم اكتشاف العديد من توائم الأرض هذه، حول أجرام سماوية صغيرة نسبيًا، مثل الأقزام الحمراء، حتى في النظام الشمسي الأقرب إلينا. يأمل العديد من العلماء أن يزيد تعدد الكواكب من احتمال العثور على حياة في مكان ما في الكون؛ وإذا كان هناك كوكب يُشبه الأرض إلى حدٍّ كافٍ، يُمكن أن تكون قد تطورت عليه حياة مماثلة لحياتنا. إذا تم ذات يوم اكتشاف حياة في نظام شمسي آخر ، فإن اكتشاف مايور وكلوز هو، بالطّبع، خطوةٌ هامّة في الطريق إلى هناك.
تاريخ دراسة الكواكب خارج النظام الشمسي، منذ التسعينيات حتى العام 2016. تم السَّرد من خلال سلسلة من الأغاني على طراز الأكابيلا، بلحنٍ مأخوذ من فيلم علاء الدين:
الترجمة للعربيّة: رقيّة صبّاح - أبودعابس
التدقيق اللغوي: خالد صفدي