هل هناك خلايا في الدماغ تتعرّف على شيء محدّد في العالم، مثل ممثّلة معيّنة؟ لقد تغيّرت الإجابة العلميّة من "يا للسخافة" إلى "نعم!" ومن ثمّ إلى "ليس بالضبط"

في أواخر الستينيّات، قام محاضر في قسم علم الأعصاب في جامعة MIT في الولايات المتّحدة بتسلية طلّابه بقصّة خياليّة من اختراعه: طبيب أعصاب ساعد مريضًا على نسيان جميع ذكرياته المتعلّقة بأمّه. ليفعل ذلك، استعمل إجراء أدّى إلى تدمير الخلايا العصبيّة المسؤولة عن هذه الذكريات بشكل خاصّ. سخر المحاضر من فكرة أنّ خلايا عصبيّة معينة ومعروفة يمكنها تخزين مفهوم معقّد مثل مفهوم "الأم". تنهّد المحاضر مازحًا، وأضاف أنّه بعد العمليّة الناجحة واصل نفس طبيب الأعصاب البحث في "خلايا الجدّة". لكن مصطلح "خلايا الجدّة" أصبح منذ ذلك الحين فكرة نظريّة مقبولة وتحوّلت النكتة إلى بحث يتناول السؤال: هل يمكن لخليّة عصبيّة واحدة أن تستجيب لفكرة معقّدة مثل شخص معيّن؟


يتعيّن على عدد كبير جدًّا من الخلايا أن تعمل على إجراء المعالجة الأساسيّة لجميع المعلومات التي يستقبلها أذهاننا من العالم الخارجيّ. صورة بالرنين المغناطيسيّ للممرّات العصبيّة من العين إلى القشرة البصريّة في الدماغ | المصدر: Mark And Mary Stevens Neuroimaging And Informatics Institute / Science Photo Library

الحاجة إلى خلايا متخصّصة

لسنوات عديدة، انشغل مجال علم الأعصاب بالتساؤل: كيف يتمّ تنشيط الخلايا العصبية وربطها ببعضها البعض من أجل معالجة المعلومات التي نستقبلها من العالم، وفكّ رموز العالم من حولنا بناءً عليها؟ تُسمّى هذه العمليّة، التي تعمل فيها الخلايا العصبيّة مع بعضها البعض لإنتاج تمثيل داخليّ للعالم الخارجيّ، ومعالجة المعلومات وإنتاج الاستجابة، بالترميز (​​encoding). على سبيل المثال، كشفت دراسة لمنطقة الدماغ المسؤولة عن المعالجة البصريّة، والموجودة في القشرة الدماغيّة الخلفيّة، أنّ أنواعًا مختلفة من الخلايا العصبيّة تشفّر خصائص مختلفة ومحدّدة للمحفّزات. إحدى هذه الخصائص، على سبيل المثال، هي التوجّه (orientation): فقد وجد الباحثون أنّ الخلايا العصبيّة المختلفة حسّاسة للمحفّزات البصريّة، التي تأتي من زوايا مختلفة ومحدّدة، ولكلّ خليّة "تخصّص اتجاهيّ" خاصّ بها. وفقًا لهذه النتيجة، من أجل فكّ تشفير صورة معيّنة، يلزم وجود العديد من الخلايا، كلّ منها متخصّص في تحديد ومعالجة الخصائص الأخرى، والتي يؤدّي دمجها إلى إنشاء الصورة الكاملة في أذهاننا. إذا أخذنا في الاعتبار أنّ المعلومات الواردة من البيئة لا تشمل المحفّزات البصريّة فحسب، بل تتضمّن أيضًا محفّزات الصوت واللمس، فسوف نفهم أنّ عددًا كبيرًا جدًّا من الخلايا تحتاج إلى العمل، لتنفيذ المعالجة الأساسية لجميع المعلومات الممتصّة في أذهاننا عن العالم.

نموذج العمل هذا هو ليس اقتصاديًّا، أي أنّ هناك حاجة إلى عدد كبير من خلايا الدماغ لمعالجة المحفّزات المعقّدة، من النوع الذي نواجهه باستمرار. علاوةً على ذلك، هناك حاجة إلى القدرة على التمييز المجرّد، لتكون قادرًا على التعرّف على أشياء مختلفة من نفس الفئة عندما تكون خصائصها الفيزيائيّة مختلفة. فكر، على سبيل المثال، في الطاولة. كم عدد أنواع الطاولات المختلفة الموجودة؟ لكي نقول إنّ شيئًا ما عبارة عن طاولة، سواء كان مستديرًا وصغيرًا أو كبيرًا ومربعًا، فأنت بحاجة إلى خلايا عصبيّة تقوم بتشفير شيء يتجاوز الخصائص الفيزيائيّة للجسم. وبناءً على ذلك، هناك نظريّة مفادها أنّ التعرّف على الأشياء، وربطها بفئات محدّدة يشمل خلايا عصبيّة ذات تخصّص أكثر تحديدًا. وماذا لو كان الأمر، كما وصفه محاضر في MIT، هو تحديد هويّة شخص معيّن؟ مثلا جنيفر أنيستون؟


هل نعتمد على خليّة عصبيّة ذات تخصّص معيّن للتعرّف عليها؟ جنيفر أنيستون | Featureflash Photo Agency, Shutterstock

خلايا بفضل راتشيل

"خلايا جينيفر أنيستون" هي خلايا عصبيّة في الدماغ يعتقد الباحثون أنّها قادرة على التعرف على مفهوم أو شخصيّة معيّنة. ولماذا يطلق عليها اسم "خلايا جنيفر أنيستون"؟ لأنّ الباحثين عثروا عليها لأوّل مرّة، عندما اكتشفوا خليّة تمّ تنشيطها استجابةً للشخصيّة التي تمثّلها جنيفر أنيستون، ولم تستجيب لأيّ شيء آخر.

في هذه التجربة الشهيرة، استخدم العلماء مرضى الصرع الذين كانوا على وشك الخضوع لعملية جراحيّة تتعلّق بمرضهم على أيّ حال، وقاموا بإدخال أقطاب كهربائيّة في عمق أدمغة المرضى للتحقيق في أسئلة إضافيّة. سجّلت الأقطاب الكهربائيّة نشاط الخلايا العصبيّة في منطقة الفصّ الصدغيّ الأوسط (temporal lobe)، الذي يرتبط بالذاكرة الصريحة (Explicit memory)، أي الذاكرة التي يمكن التعبير عنها بالكلمات. وقدّم الباحثون للمرضى مجموعةً متنوّعةً من المحفّزات البصريّة، لا سيّما الصور ومقاطع الفيديو لشخصيّات وأعمال مألوفة مثل "عائلة سمبسون" و"سينفيلد" وبالطبع جينيفر أنيستون، المعروفة أيضًا باسم راتشيل من مسلسل "الأصدقاء". وجد الباحثون أنّ استجابة الخلايا العصبيّة كانت انتقائيّة للغاية. حيث استجابوا لِمفهوم معقّد ومجرّد، ولكن فقط لهذا المفهوم وليس للآخرين. وفي المثال الشهير، استجابَت خليّة عصبية واحدة لمجموعة متنوّعة من صور جنيفر أنيستون، بغضّ النظر عمّا كانت ترتديه، أو ما هي خلفيّة الصورة، أو ما هو وضع جسدها. وكانت الخلية نفسها تعمل بشكل أقل تواترًا عندما ظهر براد بيت، شريك أنيستون السابق، في الصورة أيضًا. في المقابل، لم تستجب هذه الخليّة عندما عُرض على الشخص صور ممثّلين وممثّلات آخرين أو شخصيّات أو حيوانات أو أماكن مشهورة أخرى. وفي تجارب المتابعة، تمّ اكتشاف خلايا تستجيب بشكل محدّد لمفاهيم أخرى معيّنة، بما في ذلك الممثّل والمخرج ستيف كاريل، وووبي غولدبرغ، والبرجين التوأمين.


إذا كانت الخلايا العصبيّة عبارة عن كلمات، فإنّ الكلمات التي "تتفاعل" مع رؤية ثمرة الأفوكادو ستكون خضراء، مستديرة، فاكهة وما إلى ذلك. وعاء الأفوكادو | Lyudmila Mikhailovskaya, Shutterstock

خلايا الجدّة الأسطوريّة

أثار هذا الاكتشاف ضجّو كبيرة بين علماء الأعصاب، فهو بالفعل اكتشاف غير عاديّ. هل هذه بالفعل "خلايا الجدّة" الأسطوريّة؟ لقد تمّ مؤخّرًا تفسير الخلايا المتخصّصة في التعرّف على فئات معيّنة من الأشياء، مثل الوجوه أو الأيدي، من حيث التشفير المتناثر (sparse coding)، أي استجابة أو ردّ فعل مكوّن من مجموعة صغيرة من الخلايا العصبيّة. لوصف هذه الفكرة بسهولة أكبر، تخيّل أنّ الخلايا العصبيّة هي كلمات. لو كان الدماغ عبارة عن مجموعة من كلّ الكلمات التي تظهر في القاموس، ورأينا ثمرة أفوكادو، فإنّ الكلمات التي من شأنها أن "تتفاعل" هي: أخضر، مستدير، طعام وما شابه. مجموعة الكلمات المحددة، أو إذا عدنا من الخيال إلى الواقع - الخلايا العصبية، تشرح وتحدّد لنا التجربة التي مرّرنا بها في العالم.

وعلى النقيض من نموذج "خليّة الجدّة"، الذي بموجبه تتخصّص خلايا محدّدة وَوحيدة في التعرف على شخص معيّن، فإنّ عمليّة التشفير المتناثر هي نمط من النشاط يمكن قياسه من حيث الزمان والمكان وشدّة الاستجابة. في التشفير المتناثر، لا توجد خلية مخصّصة بالكامل للأفوكادو، بل مجموعة من الخلايا التي، عندما تعمل في وقت واحد، تخلق تجربةً لشيء له عدّة خصائص - كبيرة أو صغيرة، بعيدة أو قريبة، ناضجة أو فاسدة. هذا هو "تناثر الترميز".

وفقًا لنموذج التشفير المتناثر، وعلى النقيض من نموذج "خلايا الجدّة"، لا توجد خلايا عصبيّة في دماغنا تتخصّص حصرًا في الاستجابة لمفهوم معيّن. قد تستجيب الخليّة العصبيّة بشكل انتقائيّ لمحفّز محدّد للغاية، مثل صور جينيفر أنيستون، لكن هذا ليس المحفّز الوحيد الذي تستجيب له. وقد تمّ تعزيز هذه الفكرة من خلال العديد من النتائج، التي تمّ الحصول عليها من قياسات خلايا المكان (place cells). خلايا المكان هي خلايا تقع في الحصين (قرن آمون او الهيبوكامبوس)، وهي منطقة من الدماغ تقع في عمق الفصّ الصدغيّ (Temporal lobe) - وهي منطقة الدماغ التي تمّ العثور فيها على خلايا جنيفر أنيستون - وتعمل استجابة لمكان أو موقع معيّن في العالم. على سبيل المثال، هناك خلايا موقع تستجيب عندما ندخل غرفة نومنا، مقارنةً بالخلايا التي تستجيب عندما ننتقل إلى غرفة المعيشة أو المطبخ. وحتّى الآن، تبدو الخلايا مشابهة لخلايا "جينيفر أنيستون"، إلّا أنّها تستجيب لموقع معيّن في مكان لشخص معيّن. أظهر الباحثون أنّ مجموعة معيّنة من الخلايا تستجيب بالفعل لموقع واحد فقط في العالم، لكن عندما يكون هناك موقعان متشابهان أو قريبان - تكون هناك خلايا عصبيّة مشتركة ترمز لكليْهما. على سبيل المثال، إذا مشينا في شارع مشابه في خصائصه للشارع الذي نعيش فيه، فسيتمّ تنشيط مجموعة من الخلايا العصبيّة التي تتداخل جزئيًّا مع المجموعة التي تمّ تنشيطها أثناء بقائنا في شارعنا. وتظهر النتائج أنّه كلّما كانت الخصائص المكانيّة للمكانين أكثر تشابهًا، كلّما زاد التداخل بين مجموعات الخلايا العصبية التي تستجيب لها.

إذا كان الأمر كذلك، فإنّ الخلايا التي تشارك في التشفير المتناثر لا تقوم بتشفير كيان منفصل أو منفرد، بل إنّ المحفّز موجود فيما يتعلّق بمحفّزات أخرى، على سبيل المثال، اثنان من المحفّزات المماثلة - مثل الشارع الذي نعيش فيه وشارع مشابه له. وهكذا يُنشِئ الدماغ شبكةً من الارتباطات بين العناصر المألوفة. وأظهر الباحثون، على سبيل المثال، أنّ الخليّة التي استجابت لصور شخصيّة معيّنة من أفلام "حرب النجوم (star wars)" استجابت لكل من الاسم المكتوب للشخصيّة - ولصورة شخصيّة أخرى من نفس سلسلة الأفلام الشهيرة. ربّما هذه هي الطريقة التي تعمل بها "الخلايا المفاهيميّة" (concept cells) فعليًّا - وهو المصطلح الذي صاغه لاحقًا الباحث الذي حدّد خلايا جنيفر أنيستون لأوّل مرّة.

وهكذا تجاوزت مساهمة جنيفر أنيستون للعالم أكثر من مساهمتها عبر شاشات التلفزيون لدينا. لم يطلق الكثير من الناس اسمهم على نظريّة علميّة ونوعٍ من الخلايا، حتّى لو تبيّن في النهاية أنّ عمليّة التعرّف على المفاهيم المعقّدة في الدماغ تحدث بطريقة مختلفة عمّا كان يعتقد في البداية. على أيّة حال، ليس هناك شكّ أنّ مصطلح "خلايا جنيفر أنيستون" يبدو أكثر إثارةً من "خلايا المفاهيميّة"، وهو المصطلح المقبول اليوم.

0 تعليقات