بدءًا من الطيّارة الأسطوريّة الّتي أفشلت قبول صديقاتها، مرورًا برائدة الفضاء الّتي حصلت على مئزر المطبخ في المحطّة الفضائيّة، وحتىّ قيادة مكّوك الفضاء والمحطّة الفضائيّة. كان الكفاح من أجل المساواة بين الجنسين في الفضاء طويلًا وصعبًا، وهذه هي قصّة الشخصيّات الرئيسة الّتي ساهمت فيه

كان إطلاق سپوتنيك (Sputnik 1)- أوّل قمر صناعيّ في التاريخ - في تشرين الأوّل عام 1957، بمثابة بداية لعصر الفضاء، كذلك بداية سباق الفضاء بين القوّتين العظميين- الولايات المتّحدة والاتّحاد السوڤييتيّ- الّذي بدوره أدّى لإطلاق أوّل إنسان إلى الفضاء. على عكس برنامج الفضاء الروسيّ، الّذي كان عسكريًّا وسرّيًّا، أنشأت الولايات المتّحدة وكالة فضاء مدنيّة، ناسا (NASA). اعتقد رئيس الولايات المتّحدة دوايت أيزنهاور (Dwight D. Eisenhower) أنّ طياري الفضاء يمكن أن يكونوا مواطنين حاصلين على شهادة في العلوم أو الهندسة، مع خلفيّة في مجموعة متنوّعة من المهن الصعبة ذات الصلة مثل الطيّارين والملّاحين، الغواصّين وأفراد طاقم الغواصّة، المظليّين وطيّاري المناطيد والمزيد.

كانت الفكرة جميلة، ولكن نظرًا لضيق الوقت ولأنّ وكالة ناسا كانت في سباق ضدّ السوڤييت، قام الرئيس الأوّل للوكالة، كيث چلينان (Keith Glennan)، برفض العرض الرئاسيّ بلطف واستخدام مهارات مجموعة النخبة الّتي تضمّنت طيّاري الاختبار في الجيش، واللّذين اجتازوا بالفعل اختبارات صعبة (طيّارو الاختبار مسؤولون عن اختبار المركبات الجويّة الجديدة أو المعدّلة). تمّ تدريب هؤلاء الطيّارين على التعامل بهدوء مع الأعطال والأزمات، والعمل بشكل جيّد حتّى في المواقف المتطرّفة الّتي تهدّد الحياة. ولا يقلّ أهميّة- لقد مرّوا بالفعل بإجراءات انتقاء وتدريب مطوّلة. كلّ ما تبقّى هو اختيار الأنسب بينهم، وإجراء فحص طبّيّ إضافيّ لهم، وتأهيل المختارين لرحلات الفضاء.

بالفعل، نصّـت الوثيقة الّتي وافق عليها الرئيس، على أنّ طياري الفضاء سيكونون رجالًا فقط، وأنّ اختيار طيّاري الاختبار يمنع أيّة إمكانيّة عمليّة لتغيير هذه الفئة. لم تقبل مدرستا طيّاري الاختبار، التابعة للقوّات الجويّة والبحريّة، إلّا الطيّارين المقاتلين، الّذين كانوا- بحكم التعريف- في ذلك الوقت من الرجال فقط. 


الطبيب الّذي أراد إرسال النساء إلى الفضاء. راندي لوڤليس (من اليمين) يتلقّى ميدالية الطيران لمساهمته في سلامة الطيّارين في الحرب العالميّة الثانية | تصوير:US Airforce
 

الفحص الطبّيّ

في نهاية سنوات الـ-50، لم يكن أحد يعرف بعد كيف ستؤثّر رحلات الفضاء في جسم الإنسان. لهذا السبب لم يعرفوا أيضًا الاختبارات الّتي يجب إجراؤها من أجل اختيار الأشخاص الملائمين لهذه المهمّة. وضعت وكالة الفضاء الجديدة المهمّة على عاتق راندي لوڤليس (William Randolph Lovelace)، الّذي خدم في القوّات الجويّة للولايات المتّحدة في الحرب العالميّة الثانية. درس لوڤليس تأثيرات الطيران على ارتفاعات عالية، وطوّر قناع الأوكسجين للطيّارين والمعدّات الّتي سمحت لهم بالقفز بالمظلّات من ارتفاعات عالية. كما اختبرها على نفسه بالقفز بالمظلّة من ارتفاع 13 كيلومترًا، والّذي كاد أن يكلّفه حياته وأكسبه وسام الشجاعة. قام لوڤليس بإدارة عيادة عائليّة ومعهد أبحاث في البوكيرك- نيو مكسيكو بعد الحرب، كما واستمرّ في التعامل مع قضايا الطيران والفضاء مع القوّات الجويّة، وتمّ تعيينه مستشارًا لوكالة الفضاء الجديدة.

قام لوڤليس وفريقه بوضع مجموعة مرهقة من الفحوصات للمرشّحين والّتياستمرّت أسبوعًا كاملًا. وقد تضمّنت هذه  الفحوصات الشاملة: الأشعّة السينيّة أو ما يُعرف بأشعّة إكس (X-ray) للجسم كلّه، واختبارات النظر تحت عدّة ظروف، واختبارات التوازن والإجهاد والمزيد. عندما سُئل جون چلين (John Glenn)، الّذي تمّ اختياره ليكون أحد روّاد الفضاء السبعة الأوائل، في مؤتمر صحفيّ عن الاختبار الأكثر صعوبة بالنسبة له، كان ردّه كالتالي: "يمكنك الإجابة عن هذا السؤال فقط عندما تعرف عدد الفتحات الموجودة في جسم الإنسان، ومدى العمق الّذي يمكنك الوصول إليه في كلّ منها".

تمّ توجيه طيّاري الاختبار الّذين اجتازوا الفحص الطبّيّ إلى تقييم من قبل طبيب وأخصائيّ نفسيّ، والّذي تضمّن، من بين أمور أخرى، الإقامة لفترات طويلة في غرفة مظلمة تمامًا وعازلة للصوت. كانت الخطوة التالية عبارة عن اختبارات مخصّصة لروّاد الفضاء في مختبرات القوّات الجويّة، وتضمّنت محاكاة  قوى التسارع "قوى جي" (G-force) القويّة في جهاز الطرد المركزيّ، وكذلك محاكاة انعدام الجاذبيّة، والقدرة في الحفاظ على الاتّجاه والعمل في ظروف معقّدة ومواقف غير مألوفة. 

في عام 1959، قامت وكالة الفضاء باختيار سبعة روّاد فضاء من بين 32 طيّاري الاختبار الّذين استوفوا الشروط الأساسيّة من حيث العمر، الطول، الوزن، مستوى التعليم وخبرة الطيران، والّذين شاركوا في البرنامج الأوّل لرحلات الفضاء المأهولة، برنامج "ميركوري" (Project Mercury).


السبعة الرائعون. تمّ اختيار الطيّارين لبرنامج " ميركوري". الصفّ العلويّ، من اليمين: جوردون كوبر، جوس جريسوم وآلان شيبرد. أسفل اليمين: سكوت كاربنتر، جون جلين، ديك سلايتون، والي شيرا | تصوير: ناسا
 

من صالون تجميل إلى السماء

بعد الانتهاء من اختيار روّاد الفضاء، كان لوڤليس شديد الفضول لاختبار النساء أيضًا ومعرفة مدى ملاءمتهنّ لرحلات الفضاء. اعتقد هو وبعض زملائه أنّ النساء سَيَكُنَّ أكثر ملاءمة من الرجال للرحلات الفضائيّة، ويعود ذلك جزئيًّا إلى أنّ أحجام أجسامهنّ أصغر وتستهلك كميّة أقلّ من الأوكسجين. لذلك، طلبوا من القوّات الجويّة ووكالة ناسا فحص النساء أيضًا، لكنّهم قوبلوا برفض تامّ. كان الرأي السائد هو أنّ المرأة ليست قويّة جسديًّا بما فيه الكفاية، ولا تقاوم الظروف القاسية، وأنّ آراءهنّ غير حازمة وأضعف من أن تعمل بالشكل المطلوب لاتّخاذ القرارات تحت الضغط.

اختلف لوڤليس مع وجهات النظر هذه، واستمرّ في البحث عن طرق لإجراء الاختبارات على النساء حتّى بدون دعم ناسا. كانت صديقته القديمة، الطيّارة الأسطوريّة جاكي كوكران (Jacqueline Cochran) بمثابة خلاص له.

وُلدت كوكران في فلوريدا عام 1906 لعائلة من الطبقة الكادحة. تزوّجت في الرابعة عشرة من عمرها وأنجبت ولدًا، لكنّه تُوفي في سنّ الخامسة وبهذا انتهى زواجها. عملت كوكران كمصفّفة شعر، وبعد بضع سنوات انتقلت إلى نيويورك، وقامت بتغيير اسمها الأوّل من بيسي (Bessie) إلى جاكلين، وكذلك تغيّر حظّها، بحيث تزوّجت من المليونير فلويد أودلوم (Floyd Odlum)، وأسّست بأمواله شركة مستحضرات تجميل ناجحة.

لكن سرعان ما اكتشفت كوكران شغفها بالطائرة، وتوقّف اهتمامها بمستحضرات التجميل. حصلت على رخصة طيران وكانت واحدة من أبرز وأنجح الطيّارين في الولايات المتّحدة. قامت كوكران بالمشاركة في مسابقات الطيران وحطّمت الأرقام القياسيّة وحصلت على الجوائز. خلال الحرب العالميّة الثانية، جنّدت العشرات من الطيّارات النساء في وحدة مساعدة للقوّات الجويّة من أجل القيام بمهام غير قتاليّة. شكّلت هذه النساء منظّمة "الطيّارات النساء في خدمة القوّات الجويّة" (Women Airforce Service Pilots - WASP)، والّتي قامت بنقل الجنود، البضائع، والطائرات من مكان إلى آخر، كذلك بتحليق الطائرات المقاتلة الّتي كانت تُستعمَل في تدريب الطيّارين الذكور.

كانت كوكران تحلم بالطيران إلى الفضاء بنفسها، رغم أنّها كانت بالفعل في الخمسينيّات من عمرها عندما طوّر لوڤليس الفحوصات الطبيّة لانتقاء روّاد الفضاء. عندما سمعت عن خطّته لاختبار النساء لرحلات الفضاء، وافقت على تمويل الفحوصات الطبيّة للنساء اللاتي يمكن أن يصبحن رائدات فضاء. 

وضع لوڤليس وكوكران قائمة المعايير الّتي كانت أكثر صرامة من تلك المخصّصة لروّاد الفضاء الذكور. تضمّنت هذه المتطلّبات طيّارات نساء تحت سن الـ-35، ويتمتّعن بلياقة بدنيّة ممتازة وخبرة غنيّة في الطيران.


مصفّفة الشعر الّتي أصبحت طيّارة، وقامت بتمويل اختبارات اللياقة البدنيّة للطيّارات المرشّحات أن تصبحن رائدات فضاء. جاكي كوكران | المصدر: San Diego Air & Space Museum
 

المرشّحة المثاليّة

ولدت جيرالدين كوب (Geraldyn Cobb)، الّتي فضّلت اسم جيري، في أوكلاهوما في آذار 1931، لوالد طيّار ومنخرط بالخدمة العسكريّة. عندما كانت تبلغ كوب من العمر 12 عامًا أخذها والدها رحلة في طائرته، ومنذ ذلك الحين، أرادت الطيران فقط. في سن الـ-17 حصلت بالفعل على رخصة طيران خاصّة، وفي عيد ميلادها الـ-18 حصلت على رخصة طيران تجاريّة. في سن الـ-19، كانت تعمل بالفعل كمدرّبة طيران، وكانت تبحث عن وظيفة في هذا المجال.

في السنوات الّتي أعقبت الحرب العالميّة الثانية، غُمِر الاقتصاد الأمريكيّ بالطيّارين العائدين من الحرب، وواجهت النساء صعوبة في العثور على عمل في هذا المجال. وافقت كوب على قبول أيّ دور يتعلّق بالطيران، بما في ذلك رحلات رشّ المبيدات، أو الدوريّات الجويّة على طول خطوط أنابيب النفط. كانت كوب شابّة منغلقة ووحيدة، وبعد بضع سنوات وصلت إلى فلوريدا، حيث وجدت وظيفة أحلامها في شركة  كانت تشتري طائرات عسكريّة قديمة من مخلّفات الحرب، وتقوم ببيعها إلى القوّات الجويّة الأجنبيّة.

كانت مهمّة كوب هي نقل هذه الطائرات إلى وجهتها، من پيرو وحتّى الهند، ثمّ إيجاد طريقة للعودة إلى الولايات المتّحدة، والمغادرة بطائرة أخرى. تطلّبت منها هذه الوظيفة أن تتمتّع بمهارة عالية في قيادة عشرات الأنواع من الطائرات، ومهارات ملاحيّة ممتازة، والقدرة على إصلاح الأعطال، والتعامل مع الرحلات الطويلة جدًّا وحدها، وكذلك القدرة على الخروج من المواقف غير المتوقّعة- على سبيل المثال، تمّ احتجازها في الإكوادور عندما كانت في طريقها لإحضار طائرة إلى القوّات الجويّة في پيرو، خلال نزاع عسكريّ بين البلدين.

بالإضافة إلى هذه الأعمال، شاركت كوب في مسابقات الطيران، حيث قامت بتحطيم العديد من أرقام الارتفاع، المسافة والسرعة. كانت واحدة من أشهر الطيّارين في الولايات المتّحدة، وعندما عرض عليها لوڤليس أن تخضع لاختبارات فحص ملاءمتها لرحلة للفضاء، قبلت كوب بحماس.

في شباط عام 1960، وصلت كوب إلى عيادة لوڤليس لقضاء أسبوع مرهق من الفحوصات الطبيّة، تمامًا مثل اختبارات روّاد الفضاء الذكور، بما في ذلك اختبارات الإجهاد. لم تكن نتائجها أقلّ جودة من نتائج الرجال، بل تفوّقت على معظمها. قدّم لوڤليس النتائج في مؤتمر علميّ في السويد، وفور نشرها، توّج الصحفيّون كوب كأوّل رائدة فضاء أمريكيّة، وكانوا سعداء بتصويرها بجانب المركبة الفضائيّة نموذج "ميركوري" .

ومع ذلك، عرف لوڤليس أنّ امرأة واحدة لم تكن كافية لإثبات وجهة نظره بأنّ النساء مؤهّلات على الأقلّ مثل الرجال لرحلة الفضاء. قام لوڤليس بمساعدة كوب بوضع قائمة طيّارين نساء إضافيّة، ودعاهنّ للاختبار أيضًا. إجمالًا، قام باختبار 19 امرأة ، ووجد 12 منهنّ مناسبة للرحلات الفضائيّة، بعد أن كانت نتائج اختباراتهنّ مماثلة لروّاد الفضاء الذكور، وحتّى أفضل منها.

استنادًا إلى هذه البيانات، حاول لوڤليس إقناع زملائه في القوّات الجويّة بالسماح "لنسائه" باجتياز اختبارات طيران روّاد الفضاء. مع ذلك، تمّ رفض هذا الاقتراح بدون أساس ولكن بصرامة شديدة من قِبل الجيش، بادّعائهم  أنّ النساء غير مناسبات للطيران في الفضاء. وقالت ناسا أيضًا إنّه لا توجد معرفة كافية عن فيزيولوجيا المرأة، ولا جدوى من إضاعة الوقت في فحصها الآن.

قرّرت كوب في هذه الأثناء المضي قدمًا بمفردها، فاتّصلت بالطبيب النفسيّ، جاي شورلي (Jay Shurely)، من أوكلاهوما، والّذي طوّر أداة التقييم الخاصّة به لروّاد الفضاء، ومن بين أمورٍ أخرى، استبدل الغرفة المظلمة بخزّان ماء مغلق ومعزول، حيث يطفو الأشخاص في ظلام دامس. تعتبر نتائج اختبار الطفو ممتازة إذا اجتازت المدّة الستّ ساعات أو أكثر. خضعت كوب للاختبار، ووجد شورلي أنّها مناسبة نفسيًّا لرحلة الفضاء، بحيث أوقف موظّفو الطاقم الطبيّ اختبارها بعد أكثر من تسع ساعات، على الرغم من أنّها كانت قادرة على الاستمرار ولم تظهر عليها علامات التوتّر أو الضيق. 

من بين المرشّحات الـ- 13 اللواتي اجتزن اختبار لوڤليس، وجدت اثنتان فقط الوقت والموارد من أجل السفر إلى أوكلاهوما لإجراء الفحص النفسيّ. نجحت كلّ من والي فونك (Wally Funk) وريا هيرل (Rhea Hurrle) بامتياز، واستمرّ اختبار الطفو لديهنّ أكثر من عشر ساعات.


نتائج أفضل من روّاد الفضاء الذكور. من اليمين: كوب مع نموذج للمركبة الفضائيّة ميركوري، من اليسار: كوب في قُمرة القيادة | المصدر: National Air and Space Museum, NASA, Public Domain
 

ثم أتت جاكي

في النهاية، وجد لوڤليس طريقة للتغلّب على رفض القوّات الجويّة، حيث توصّل إلى اتفاق مع مختبر الطبّ الجوّيّ التابع لبحريّة الولايات المتّحدة. وافقت البحريّة على إجراء اختبارات انتقاء روّاد الفضاء لجيري كوب، ووعدت أنّه إذا نجحت كوب في هذه الاختبارات، سيقومون بفحص النساء الأخريات أيضًا.

في نيسان عام 1961، فاجأت روسيا الولايات المتّحدة بإطلاقها أوّل رجل إلى الفضاء. وجَّهت رحلة يوري چاچارين (Yuri Gagarin) ضربة قويّة لناسا والفخر الأمريكيّ. في ظلّ هذا الحدث، خضعت كوب لمدّة عشرة أيّام من الاختبارات الشاقّة في مختبرات الطيران التابعة للبحريّة. تضمّنت الاختبارات، من بين أمور أخرى، العمل في حالة انعدام الجاذبيّة، التوجيه والطيران مع اختلال التوازن والوقوف على ارتفاع "جي"، والخروج من طائرة غرقت في الماء والمزيد. في نهاية الاختبارات، أصبح من الواضح أنّ كوب اجتازتها بنجاح كبير. كانت نتائجها من ضمن أعلى اثنين في المائة من روّاد الفضاء الذكور.

نظرًا لنجاح كوب، كان على البحريّة فحص النساء الأخريات اللواتي قام لوڤليس بتجنيدهنّ. تمّ تحديد الموعد، وبذلت النساء جهودًا هائلة لتخصيص مدّة أسبوع ونصف إضافيّة، ووجدن ترتيبات للأسرة والعمل، حتّى أنّ اثنتين منهنّ تركتا وظيفتهما لإجراء الاختبارات.

هنا ساهمت جاكي كوكران بتمويل هذه الفحوصات الطبيّة للنساء المرشّحات للسفر إلى الفضاء. شعرت كوكران أنّها لم تتلقَّ الاهتمام الإعلاميّ الّذي تستحقّه، بسبب أنّ كوب، قائدة المجموعة، كانت تطغى عليها. فقامت كوكران بتبليغ ضابط كبير في البحريّة أنّ برنامج الاختبار لم يتمّ بموافقة ناسا. لذلك، طلب الضابط توضيحًا من وكالة الفضاء، وعندما قيل له إنّه لا توجد خطّة لإشراك النساء قريبًا في رحلات الفضاء، ألغى الاختبارات المخطّطة لـلنساء ال 12 اللواتي جندهنّ لوڤليس.

فعلت كوب وأصدقاؤها كلّ ما في وسعهنّ لعكس قرار ناسا. بعد رفض إرسال النساء إلى الفضاء من قبل رئيس الوكالة، جيمس ويب (James Webb)، تمكّنَّ من بدء اجتماع مع نائب رئيس الولايات المتّحدة، ليندون جونسون (Lyndon Johnson)، لكنّه رفض التدخّل في أمور تخصّ عمل وكالة الفضاء. حتّى أنّهنّ تمكّنّ  من إنشاء لجنة فرعيّة خاصّة في مجلس النوّاب للاستماع إلى مزاعم التمييز ضدّ النساء في وكالة ناسا، ولكن بعد ذلك، وصلت جاكي كوكران، الّتي لم تتمّ دعوتها، وقالت إنّه ليست هناك حقًّا حاجة لرائدات فضاء نساء، وإنّ اندماج النساء في وكالة ناسا لن يؤدّي إلّا إلى تأخير برنامج إطلاق الرجال للفضاء. بالإضافة لأقوال جاكي كوكران، برّر رائد الفضاء جون چلين (John Glenn)، هذا التمييز الجنسيّ بالقول إنّه مجرّد نظام اجتماعيّ، وفي النهاية قامت اللجنة باختتام مداولاتها وقرّرت أنّه لا توجد مشكلة في إجراءات قبول روّاد فضاء لوكالة ناسا. مع ذلك، لن يتمّ إطلاق النساء الأمريكيّات إلى الفضاء في الوقت الحالي.


كما أنّها تفوّقت في اختبارات روّاد الفضاء. جيري كوب في الجهاز الّذي يختبر قدرة الطيّارين على التعامل مع الدوران في ثلاثة محاور | المصدر : ناسا
 

فتاة الحزب الشيوعيّ

في هذه الأثناء، بينما كان برنامج "ميركوري" يتقدّم ببطء، انطلق برنامج فوستوك (Vostok programme) السوڤييتيّ إلى الأمام. بعد النجاح الكبير الّذي حقّقه چاچارين في مهمّة فوستوك 1، قام الألمانيّ تيتوف (Gherman Titov) في مهمّة فوستوك 2 والّتي تضمّنت إقامة ليوم كامل في الفضاء. فاجأ الروس العالم مرّة أخرى عندما كانوا أوّل من يقوم بإطلاق مركبتين فضائيّتين مأهولتَين في آنٍ واحد في مهمّة فوستوك 3. في حزيران 1963، أطلق الروس مرّة أخرى مركبتين فضائيّتين يفصل بينهما يومان في مهمّة فوستوك 6، بحيث حلّقت في المركبة الفضائيّة الثانية أوّل امرأة.

ولدت ڤالنتينا تيريشكوڤا (Valentina Tereshkova) عام 1937 في قرية صغيرة على بُعد مئات الكيلومترات من موسكو. كانت والدتها تعمل في مصنع نسيج وكان والدها سائق جرّار. خدم الأب ڤلاديمير أيضًا كقائد دبّابة في الجيش الأحمر، وتُوفي في معركة في الحرب العالميّة الثانية، عندما كانت تبلغ من العمر عامَين.

عندما كانت  ڤالنتينا شابّة ذهبت للعمل للمساعدة في إعالة أسرتها: عملت في ساعات الصباح في مصنع إطارات، وأكملت تعليمها في المدرسة الثانويّة في المساء. انتقلت بعد ذلك إلى مصنع النسيج حيث كانت تعمل والدتها وأختها الكبرى. كما ووسّعت نطاق معرفتها في دورات التعليم عن بُعد في أوقات فراغها، بطموح أن تصبح مهندسة. في الوقت نفسه كانت ناشطة في حركة الشباب الشيوعيّ وأدارت أنشطتها في المصنع. أثناء القيام بذلك، وجدت تيريشكوڤا أيضًا وقتًا لممارسة هواية غير عاديّة: القفز الحرّ بالمظلّات. انضمّت إلى نادٍ محليّ للقفز بالمظلّات، وسرعان ما قامت بحوالي مائة رحلة للقفز بالمظلّات. 

بعد الرحلات الفضائيّة الناجحة لچاچارين وتيتوف، أرسلت تيريشكوڤا- مثل عدد غير قليل من الشبّان والشابّات من جميع أنحاء الاتّحاد السوڤييتيّ- رسالة إلى القيادة في موسكو وعرضت عليها خدماتها كرائدة فضاء.

بدأ الروس بالفعل في التخطيط لإطلاق أوّل امرأة إلى الفضاء، دون علم تيريشكوڤا. أعطت التقارير في وسائل الإعلام حول الاختبارات الّتي يقوم بها لوڤليس الانطباع بأنّ منافسيهم الأمريكيّين يعتزمون إطلاق امرأة وقرّروا المضي قدمًا في هذا أيضًا. لم يفكّر أحد في القيادة السوڤييتيّة للحظة في مشاركة النساء بشكل متساوٍ مع الرجال في برنامجهم الفضائيّ، كما في رؤية لوڤليس. بالنسبة لهم كانت فرصة للدعاية السياسيّة، والّتي من شأنها أن تقدّم للعالم الرؤية المساواتيّة للاتّحاد السوڤييتيّ، حيث يمكن لأيّ شخص الطيران في الفضاء، حتّى لو كانت مجرّد امرأة من الطبقة العاملة.

لم يثق الروس تمامًا بالمظلّات في سفن الفضاء فوستوك، لذلك، بهدف أن يكون الهبوط آمنًا أكثر، تمّ تنشيط مقعد قذفيّ والّذي عند تفعيله قبل الهبوط، يقوم بقذف رائد الفضاء بحيث يهبط بمساعدة المظلّة بشكل منفصل عن سفينة الفضاء. نظرًا لأنّ سفينة الفضاء كانت تحتوي على نظام طيران آليّ، لم يبحثوا حقًّا عن طيّارين ذوي خبرة، ولكن كان الأهمّ بالنسبة لهم العثور على نساء يتمتّعن بخبرة غنيّة في القفز بالمظلّات.

تمّ اختيار تيريشكوڤا مع خمس شابّات أخريات، من بين أكثر من 400 مرشّحة، لبرنامج التدريب لروّاد الفضاء الأوائل. تمّ تجنيد النساء في الخدمة العسكريّة في آذار عام 1962، وخضعن لتدريب مماثل لتدريب نظائرهنّ من روّاد الفضاء الذكور. كان برنامج التدريب مشابهًا تمامًا للاختبارات الأمريكيّة: التعامل مع درجات حرارة قصوى، العزل المطوّل في غرفة مظلمة ومغلقة، والعمل في حالة انعدام الجاذبيّة في الغوّاصة، والتدريب على المظلّة على الأرض والبحر، والتدريب على الطيران. أكملت خمس من النساء الستّ التدريب بنجاح.

كانت الخطّة الأصليّة هي إطلاق مركبتَين فضائيّتين مع امرأة في كلّ منهما، لكن في النهاية قرّر الروس الاكتفاء بامرأة واحدة. لم تحقّق تيريشكوڤا أفضل الإنجازات في الاختبارات، وفي العديد من المجالات احتلّت المرتبة الأخيرة من بين الخمس. ولكن هنا ظهرت الاعتبارات السياسيّة: كانت خلفيّتها مناسبة جدًّا للرسالة الّتي أراد السوڤييت نقلها؛ امرأة شابّة من أسرة فقيرة من الطبقة العاملة، مع القليل من التعليم الرسميّ ورغبة كبيرة في التعلّم، شيوعيّة مُخلصة فَقَدَت والدها في الحرب.

كان الاعتبار الآخر هو قدرة المرشّح على التحدّث أمام الجمهور وتقديم الرسائل الشيوعيّة إلى العالم. هنا أيضًا كانت لها ميزة كبيرة، وقد تغلّبت على النساء المرشّحات اللواتي ربّما كنّ أكثر ملاءمة منها لرحلات الفضاء. هكذا تمّ اختيار تيريشكوڤا  لتكون أوّل امرأة في الفضاء. تمّ اختيار إيرينا سلوڤيوڤا (Irina Solovyova) كرائدة فضاء احتياطيّة.


بدون أيّة نيّة لمنح النساء فرصة متساوية مع الرجال لرحلة في الفضاء. تيريشكوڤا (الرابعة من اليسار) مع رائدات الفضاء اللواتي لم يطرنَ  | المصدر: ناسا 
 

صعوبات في الفضاء

تمّ إطلاق المركبة الفضائيّة فوستوك 5 في 14 حزيران 1963، وبعد يومين، في 16 حزيران، تمّ إطلاق تيريشكوڤا في فوستوك 6، لتصبح أوّل امرأة في الفضاء. تكريمًا للرحلة، قام جيش الاتّحاد السوڤييتيّ بترقيتها من رتبة جندي إلى ملازم، وأثناء رحلتها أيضًا إلى رتبة نقيب.

عانت تيريشكوڤا من الألم في الفضاء، وكلّما حاولت أن تأكل، تقيّأت، ووفقًا لأقوالها، كان سبب ذلك هو مذاق الطعام. إذ لم يكن ذلك كافيًا، فقد نسي الموظّفون المسؤولون عن حزم أمتعتها بإرفاق فرشاة الأسنان، الأمر الّذي كان مزعجًا جدًّا. على الرغم من ذلك، قامت تيريشكوڤا بالعديد من المهام، من تصوير الأرض من الفضاء إلى إجراء محادثة مع زعيم الاتّحاد السوڤييتيّ، نيكيتا خروتشوڤ (Nikita Khrushchev). عندما طُلب منها تجربة التحليق اليدويّ لسفينة الفضاء، اكتشفت خطأ في نظام التوجيه وأبلغت مركز التحكّم به. لولا يقظتها، لربّما لقيت تيريشكوڤا مصرعها في الفضاء، أو واجهت هبوطًا أكثر خطورة ممّا كان عليه الحال. في النهاية، كان الهبوط كما هو مخطّط في سهول كازخستان، بعد ما يقرب من ثلاثة أيّام في الفضاء.

طُلب من تيريشكوڤا عدم التحدّث عن الخلل الّذي عرّض حياتها للخطر، وحفظته سرًّا بالفعل. لم يتمّ نشره إلّا بعد سنوات عديدة، عندما انهار الاتّحاد السوڤييتيّ.

بعد إطلاقها إلى الفضاء، أصبحت تيريشكوڤا نجمة ومثّلت الاتّحاد السوڤييتيّ في جميع أنحاء العالم. بقيت في برنامج الفضاء كمدرّبة، وأكملت دراستها الأكاديميّة، وتقدّمت عبر رتب الجيش، وانتُخبت لاحقًا أيضًا في مجلس الدوما- مجلس النوّاب في البرلمان الروسيّ. لكنّ نجاحها لم يؤدِّ إلى تعزيز مكانة المرأة في برنامج الفضاء. لم تطِر  تيريشكوڤا إلى الفضاء مرّة أخرى، كما ولم تطِر أيّة من رائدات الفضاء الأربع اللواتي تدرّبن معها إلى الفضاء أبدًا.

بعد خمسة أشهر من رحلتها الفضائيّة، تزوّجت تيريشكوڤا من رائد فضاء آخر، أندريان نيكولاييڤ (Andriyan Nikolayev)، الّذي طار في مهمّة فوستوك 3. في حزيران 1964، بعد حوالي عام من عودتها من الفضاء، ولدت ابنتهما إيلينا- وهي أوّل شخص في التاريخ طار كلا والديه إلى الفضاء. وجود طفلة تتمتّع بصحّة جيّدة كإيلينا لأمّ رائدة فضاء، دحضت أحد أعذار المعارضين لسفر النساء إلى الفضاء، والّذي تمحور حول الخوف من الإضرار بخصوبتهنّ.


لم تتمكّن من الطيران إلى الفضاء مرّة أخرى. تيريشكوڤا في بدلة الفضاء في طريقها إلى المهمّة التاريخيّة | المصدر: ناسا
 

الطيّارة قبل أن تكون المسافرة 

في الستّينيّات وأوائل السبعينيّات، تركّزت أنشطة القوى العظمى في الفضاء على السباق إلى القمر وتطوير المحطّات الفضائيّة. في منتصف السبعينيّات، بدأ الأمريكيّون في تطوير مكّوك الفضاء الأكبر بكثير من المركبات الفضائيّة السابقة، والّذي كان قادرًا على حمل سبعة من أفراد الطاقم، مقارنة بثلاثة فقط في مركبة فضاء أپولو أو سويوز. بالإضافة إلى ذلك، احتاج نقل المكّوك لطيارَيْن اثنين فقط، ولهذا كان هناك متّسع لخمسة روّاد فضاء واللذين كان يمكنهم التركيز فقط على التجارب والأبحاث، وليس على الطيران.

قامت وكالة ناسا في عام 1978 بتجنيد مجموعات جديدة من روّاد الفضاء، استعدادًا لإطلاق المكّوك، وهذه المرّة كانت مفتوحة ليس فقط للطيّارين، أو لذوي البشرة البيضاء، أو للرجال فقط. من بين أكثر من 8000 متقدّم، تمّ اختيار 35 مرشّحًا- بما في ذلك ستّ نساء، آنا فيشر (Anna Fisher)، شانون لوسيد (Shannon Lucid)، جوديث ريسنيك (Judith Resnik)، سالي رايد (Sally Ride)، ريا سيدون (Rhea Seddon) وكاثرين سوليفان (Kathryn Sullivan). مع ذلك، تأخّر تطوير المكّوك الفضائيّ، ولم تبدأ الرحلات التجريبيّة إلّا حتّى عام 1981. بعد عام، تمّ تعيين أوّل امرأة أمريكيّة في رحلة فضائيّة، والّتي أُعِدّت للإطلاق في حزيران 1983، بعد 20 عامًا بالضبط من رحلة تيريشكوڤا.

لكن لم يكن لدى الاتّحاد السوڤييتيّ أيّة نيّة للسماح للأمريكيّين بتحقيق إنجازات في الفضاء دون تذكير العالم بأنّهم موجودون هناك أيضًا. بعد تجنيد النساء في مجموعة روّاد الفضاء عام 1978، قام الروس أيضًا بتجنيد مجموعة من روّاد الفضاء وخمس طبيبات وخمس مهندسات سرًّا. أكملت تسع منهنّ التدريب الرسميّ لكن لم يتمّ تكليفهنّ برحلة فضائيّة، وتابعنَ العمل في وظائفهنّ العاديّة.

تزامنًا مع الإعلان عن توظيف أوّل امرأة أمريكيّة على متن رحلة فضائيّة، أعلن الروس أنّهم سيرسلون امرأة أخرى حتّى قبل ذلك، في مهمّة إلى محطة الفضاء سليوت 7. بسبب ضيق الوقت، اختار الروس مهندسة الطيران الأكثر موهبة والّتي لم تكن لها أيّة منافسة، سڤيتلانا ساڤيتسكايا (Svetlana Savitskaya)، ابنة ضابط كبير في سلاح الجوّ الروسيّ، والّتي بلغت من العمر آنذاك 33 عامًا.

اكتشفت ساڤيتسكايا القفز بالمظلّات في سنّ الـ-16، وقامت بمئات الرحلات بالمظلّات، بما في ذلك من ارتفاع 13 و14 كيلومترًا. كما ودرست الهندسة في معهد الطيران في موسكو، وحصلت على رخصة طيران، وتأهّلت لاحقًا كمدرّبة طيران وطيّارة اختبار، وعملت في شركة ياكوڤليڤ للطائرات. كانت أيضًا عضوًا في فريق الأكروبات التابع للاتّحاد السوڤييتيّ، وفازت معه في مسابقات حول العالم.

في آب 1982، تمّ إطلاق ساڤيتسكايا واثنين من زملائها في مهمّة سايوز تي-7، لمدّة ثمانية أيّام على متن محطّة الفضاء ساليوت 7. وفي وقت لاحق قالت في مقابلة إنّها عندما دخلت المحطّة، قام رائدا الفضاء اللذان كانا موجودَين هناك بتسليمها مئزر المطبخ وقالا لها: "اذهبي للعمل". ومع ذلك، سرعان ما تمكّنت من إقامة علاقة مهنيّة معهما.

أجرت ساڤيتسكايا العديد من التجارب في الفضاء. بحيث تمّ إجراء جزء كبير منها على نفسها، لأنّه بصرف النظر عن المعلومات المحدودة الّتي تمّ جمعها أثناء رحلة تيراشكوڤا، لم تكن هناك بيانات طبيّة عن فيزيولوجيا ووظيفة الجسد الأنثويّ في الفضاء. هذه المرّة كان من الممكن أيضًا مقارنة بيانات الرجال والنساء الّذين مكثوا سويّة في نفس الظروف وفي نفس الوقت. كان أداء ساڤيتسكايا جيّدًا في الفضاء، بمقدار ليس أقلّ من زملائها الذكور، لكنّها بعد ذلك لم تتفوّق في التعامل مع وسائل الإعلام والمناسبات العامّة، وحاولت تجنّب الظهور العامّ.


لم توافق على قبول مئزر المطبخ. ساڤيتسكايا مع زملائها في مهمّة سايوز تي-7 استعدادًا للانطلاق | تصوير: ITAR-TASS
 

لا أبكي في الفضاء

عندما كان على الأمريكيّين اختيار أيّة من النساء الستّ ستكون أوّل من يطير إلى الفضاء، وقع الاختيار على سالي رايد. كانت الأمهر من بين المرشّحات في تشغيل الذراع الروبوتيّة للمكّوك، والّتي شاركت أيضًا في تطويرها، وتفوّقت في العمل الجماعيّ، وفي دورها في مركز التحكّم للتواصل مع روّاد الفضاء في الفضاء. بالإضافة إلى ذلك، شعرت ناسا أنّ شخصيّتها القويّة ستسمح لها بالتعامل مع ضغط وسائل الإعلام، بحيث كانت الأسئلة الّتي تمّ توجيهها إليها في المقابلات الّتي سبقت المَهمّة مستفزّة؛ "هل تبكين عندما يكون لديك عطل في جهاز المحاكاة؟ ما نوع الماكياج الّذي ستأخذينه معك إلى الفضاء؟ كيف ستتعاملين مع الدورة الشهريّة أثناء المهمّة الفضائيّة؟ هي تريدين إنجاب الأطفال؟". 

وُلدت رايد عام 1951 في لوس أنجلوس، ومنذ سنّ مبكّرة برزت كطالبة جيّدة في العلوم وكرياضيّة متميّزة. بعد المدرسة الثانويّة، درست للحصول على درجة البكالوريوس في الفيزياء والأدب الإنجليزيّ، وفي وقت ما توقّفت عن دراستها لتطوير مهنة احترافيّة في التنس. بعد عودتها إلى الجامعة، حصلت على درجة الماجستير ثمّ الدكتوراة في الفيزياء الفلكيّة. قبيل الحصول على الدكتوراة، شاهدت إعلانًا من وكالة ناسا، ثمّ قامت بالتسجيل، وبالتالي أصبحت أوّل امرأة أمريكيّة في الفضاء.


مهارة عالية وشخصيّة قويّة. رايد في المكّوك الفضائيّ "تشالنجر" في رحلته الأولى | تصوير: ناسا

شاركت رايد في مهمّة مكّوك الفضاء السابعة، وتعاونت بشكل رائع مع الطاقم وأكملوا معًا جميع أهداف المهمّة وهبطوا بأمان بعد ستّة أيّام في الفضاء. قالت عند عودتها إلى الأرض:" أنا متأكّدة أنّه كان أكثر شيء ممتعًا سأفعله في حياتي".

سرعان ما اتّضح أنّها كانت على وشك تكرار هذه المتعة مرّة أخرى، عندما تمّ تكليفها برحلة أخرى على متن المكّوك "تشالنجر" في تشرين الأوّل 1984، وهذه المرّة مع امرأة أخرى على متنها- كاثرين سوليڤان، الّتي تمّ إعدادها لتكون أوّل امرأة في التاريخ "تسير في الفضاء"- أي العمل في بدلة فضائيّة خارج المكّوك. 

كان من المتوقّع أن تكون رايد أوّل امرأة تطير إلى الفضاء مرّتين، لكنّ وضعها في هذا المنصب مرّة أخرى أيقظ الروس. في تموز 1984، تمّ إرسال ساڤيتسكايا إلى محطّة ساليوت 7 مرّة أخرى، هذه المرّة مع رجلَين، في مهمّة استمرّت 12 يومًا. خلال تلك الفترة، بقيت خارج المحطّة 3.5 ساعات، ونجحت جدًّا في أداء أعمال لِحام خطيرة. وبهذا تكون قد سبقت كلًّا من رايد، الّتي كانت حينها أوّل امرأة تطير إلى الفضاء مرّتين، وسوليڤان، الّتي كانت أوّل امرأة تسير في الفضاء. عندما تمّ إطلاق رايد وسوليڤان في تشرين الأوّل عام 1984، كانت أوّل رحلة لامرأتين في الفضاء. 


أوّل امرأة تسير في الفضاء. ساڤيتسكايا في العمل خارج محطّة الفضاء ساليوت 7 | تصوير: Roscosmos

في العام التالي، تمّ تعيين ساڤيتسكايا  كأوّل امرأة قائدة. كان القصد من ذلك أيضًا الاستعداد لرحلة الفضاء ساليوت 7، لكنّ سلسلة من الأعطال في المحطّة أدّت إلى تأجيل المهمّة وبالتالي إلى إلغائها. من بين تسع نساء حصلن على شهادة رائدات فضاء في عام 1980، كانت ساڤيتسكايا هي الوحيدة الّتي تطير إلى الفضاء في نهاية المطاف.

في تلك السنوات، كانت ناسا تبحث باستمرار عن مشاريع تثير اهتمام الجمهور. كان أحدها فكرة إرسال معلّمة إلى الفضاء، والّتي ستبثّ من هناك دروسًا بُغية إثارة اهتمام الشباب ببرنامج الفضاء. تمّ اختيار كريستا ماكوليف (Christa McAuliffe) من بين أكثر من 10000 مرشّحة، وفي النهاية تمّ تعيينها في مهمّة مكّوك الفضاء "تشالنجر". كانت جودي ريسنيك (Judith Resnik) المرأة الثانية في الفريق، والّتي سبق أن انطلقت إلى الفضاء مرّة واحدة، وكانت أوّل امرأة يهوديّة في الفضاء. ولكن فورًا بعد الإطلاق، انفجر مكّوك الفضاء "تشالنجر"، ودخلت ريسنيك ومكوليف في الجانب الخاطئ من التاريخ، لتصبحا أوّل امرأتين تلقيان مصرعهما في مهمّة فضائية، إلى جانب زملائهم الخمسة في الطاقم.


أوّل امرأتين تلقيان مصرعهما في مهمّة فضائيّة. ريسنيك (يمين) وماكوليف مع زملائهم في طاقم STS-51، الّذين لقوا مصرعهم في كارثة تشالنجر | تصوير: ناسا
 

الطيّارة الأولى

في التسعينيّات، كان يبدو أنّ النساء يتمتّعن بالمساواة في وكالة ناسا. شاركت رائدات الفضاء في كلّ مهمّة تخصّ مكّوك الفضاء، ولكن كمسافرات لا كطيّارات. كان ذلك أيضًا على وشك التغيير.

وُلدت إيلين كولينز (Eileen Collins) عام 1956 في بلدة صغيرة في ولاية نيويورك، وفي سنّ الثانية والعشرين كانت قد أكملت بالفعل درجة الماجيستير في الرياضيّات والاقتصاد. في هذه المرحلة، قرّرت إجراء تغيير في حياتها، والتحقت بدورة للطيران في القوّات الجويّة، والّتي كانت قد فُتحت للنساء قبل خمس سنوات. بعد ذلك، عملت كمدرّبة طيران على متن الطائرات النفّاثة، ثمّ طيّارة اختبار في القوّات الجويّة. في عام 1990 تمّ اختيارها كرائدة فضاء، وفي عام 1995 تمكّنت أخيرًا من الطيران إلى الفضاء، ودخلت التاريخ كأوّل امرأة تقود المكّوك وليست فقط كمسافرة.

شملَت المهمّة مناورة حول محطّة الفضاء الروسيّة، مير، على مسافة 11 مترًا فقط، وأجرى الطيّارون المناورة المعقّدة بشكل مثاليّ. استغلّت كولينز الاهتمام العامّ الّذي تلقّته المهمّة لأوّل امرأة طيّارة لمكّوك الفضاء، وقامت بدعوة النساء اللواتي اجتزن اختبارات لوڤليس قبل أكثر من ثلاثين عامًا إلى هذا الحدث. جاءت سبع  منهنّ وحظينَ برؤيتها تحقّق حلمهنّ القديم.


سبع من النساء اللواتي اجتزن اختبارات لوڤليس وشاهدن حدث إطلاق كولينز في مكّوك الفضاء، 1995. من اليمين: بيرنيس ستيدمان، ميرتل كاغل، سارة روتلي، جيري تريهيل، جيري كوب، والي فونك وجين جيسن | المصدر: ناسا

طارت كولينز إلى الفضاء مرّة أخرى في عام 1997، كطيّارة للمكّوك "أتلانتس"، وهذه المرّة يرسو المكّوك في محطّة مير الفضائيّة. بعد مهمّتين ناجحتين كطيّارة، جاء دورها للانتقال إلى المقعد الأيسرفي قُمرة القيادة- مقعد قائد المكّوك الفضائيّ، وفي تموز 1999، تمّ إطلاق مكّوك فضائيّ لأوّل مرّة بقيادة امرأة. لقد نجحت تمامًا في المهمّة المعقّدة المتمثّلة في وضع تلسكوب فضائيّ كبير، على الرغم من وجود عطل في الإطلاق، وحصلت حتّى على وسام لهذا الإنجاز.

أنجبت كولينز ابنها لوك في عام 2000، وبعد عودتها من إجازة الولادة، تمّ تعيينها لمهمّة أخرى لقيادة مكّوك الفضاء. لكنّ المهمّة تمّ تأجيلها عدّة مرّات بسبب أعطال في المكّوكات. في 1 شباط 2003، تحطّم مكّوك الفضاء "كولومبيا" في طريق عودته إلى الأرض، وهي كارثة قُتل فيها جميع أفراد الطاقم السبعة، بمن فيهم أوّل رائد فضاء إسرائيليّ إيلان رامون (Ilan Ramon). في أعقاب ذلك، تمّ تعليق الرحلات المكّوكيّة لأكثر من عامين، وتمّ تكليف كولينز بقيادة المهمّة الصعبة والأولى بعد الكارثة. نجحت كولينز بالمهمّة هذه المرّة أيضًا، وكانت أوّل شخص يطير بمكّوك فضائيّ ويدور حول المحطّة الفضائيّة بِ- 360 درجة، وكان ذلك بهدف السماح لموظّفي المحطّة بتصوير الجزء السفليّ من المكّوك والتحقّق ما إذا تسبّب الإطلاق بأضرار لبلاط العزل أم لا. 

على الرغم من أنّ المساواة كانت ظاهرة بشدّة بين النساء والرجال في وكالة ناسا، قامت امرأتان أخريان فقط إلى جانب كولينز بقيادة مكّوك فضائيّ: سوزان كيلرين (Susan Kilrain)، والّتي قامت بمهمّتَين فقط، وپاميلا ميلروي (Pamela Melroy).


تعاملت بنجاح مع المهامّ المعقّدة. كولينز في مقعد قُمرة قيادة المكّوك في أوّل مهمّة لها كقائدة عام 1999 | المصدر: ناسا
 

لن يتوقّفن في محطّة الفضاء

كانت إحدى أهمّ مهامّ المكّوكات الفضائيّة هي تركيب محطّة الفضاء الدوليّة. تمّ تشغيل المحطّة وهي مأهولة بشكل مستمرّ منذ عام 2000، وعادة ما تبقى الطواقم فيها لمدّة ستّة أشهر. سوزان هيلمز(Susan Helms) كانت أوّل امرأة في المحطّة، وهي مهندسة في القوّات الجويّة الأمريكيّة، والّتي حلّقت أربع مرّات في مكّوك الفضاء وكانت مهمّتها الخامسة ضمن الطاقم الثاني الّذي تمّ تعيينه لإدارة المحطّة، في عام 2001.

وصلت المرأة الثانية إلى المحطّة بعد ذلك بِعام. وُلدت پيچي ويتسون (Peggy Whitson) لأسرة تعمل بالزراعة في ولاية أيوا عام 1960. عندما كانت في التاسعة من عمرها، رأت أوّل شخص يمشي على القمر، وحينها قرّرت أنّها ستكون أيضًا رائدة فضاء. درست علم الأحياء والكيمياء في الجامعة، وأكملت لدرجة الدكتوراة في الكيمياء الحيويّة، ثمّ التحقت بوكالة ناسا كعالِمة، وكانت مستشارة ومشرفة على التجارب الّتي أراد العلماء  إرسالها إلى الفضاء. تمّ اختيار ويتسون كرائدة فضاء في عام 1996، فقط بعد سبع سنوات من العمل كعالِمة في وكالة ناسا، ثمّ انتظرت ستّ سنوات أخرى لتطير أخيرًا إلى الفضاء. في حزيران 2002، حلّقت بمكّوك لتكون جزءًا من الطاقم الخامس للمحطّة.

في تشرين الأوّل 2007، عادت ويتسون إلى المحطّة، لكن هذه المرّة كقائدة لطاقمها السادس عشر- وكانت أوّل امرأة تتولّى قيادة المحطّة الفضائيّة. بعد عودتها إلى الأرض، تمّ تعيينها رئيسة لمكتب ناسا لروّاد الفضاء- مديرة جميع روّاد الفضاء في الوكالة. كانت أوّل امرأة في هذا المنصب، وكذلك أوّل شخص في هذا المنصب بدون أن يكون طيّارًا في السابق.


تحالف نسائيّ. ترحّب القائدة الأولى لمحطّة الفضاء پيچي ويتسون بالقائدة الثانية للمكّوك الفضائيّ، بام ميلروي، 2007 | المصدر: ناسا

شملت المحطّة الفضائيّة أربعة مناصب قياديّة إجمالًا. في تشرين الثاني 2016، وصلت ويتسون إلى المحطّة الفضائيّة للمرّة الثالثة، وتُعتبر اليوم المرأة الوحيدة الّتي شغلَت منصب قائد المحطّة مرّتين. كانت ويتسون أيضًا أكبر امرأة تطير إلى الفضاء في سنّ الـ-56، وعندما أكملت المهمّة في أيلول 2017، حطّمت الرقم القياسي لإجمالي عدد ساعات المكوث في الفضاء عن أيّ رائد فضائيّ أمريكيّ- رجل أو امرأة- في ناسا، وسجّلت أيضًا عشر مرّات سيرًا في الفضاء لمدّة 60 ساعة تراكميّة. وهنالك المزيد. بعد تقاعدها من وكالة ناسا، انضمّت إلى شركة أكسيوم، الّتي تقوم ببناء أوّل محطّة فضاء خاصّة على المحطّة الدوليّة. إذا لم تكن هناك مفاجآت غير متوقّعة، فستعود ويتسون في غضون بضعة أشهر إلى المحطّة في مركبة دراچون الفضائيّة التابعة لشركة "سپيس إكس" SpaceX، كقائدة للمهمّة الخاصّة الثانية إلى المحطّة الفضائيّة.

حتّى الآن، سافرت 73 امرأة إلى الفضاء، أي ما مجموعه حوالي 12 في المائة من جميع روّاد الفضاء. هذا أقلّ بكثير من نسبتهنّ من السكان، ولكن أكثر بكثير ممّا حلمت به جيري كوب وأصدقاؤها في بداية الطريق. في نهاية عام 2021، اختارت ناسا المجموعة الثالثة والعشرين من روّاد الفضاء، والّتي تضمّ خمسة رجال وخمس نساء، وفي نهاية عام 2022، اختارت الوكالة الأوروبيّة مجموعة جديدة من روّاد الفضاء، من بينهم تسعة رجال وثماني نساء. بعد أكثر من 60 عامًا لوجود الإنسان في الفضاء، وبفضل العديد من النساء اللواتي لم يتنازلنَ  عن أحلامهنّ، نأمل أن نكون في طريقنا إلى المساواة التامّة في الفضاء.

0 تعليقات