طرق تكاثر النباتات: "افعل ذلك بنفسك"، "نثر حبوب اللقاح في الهواء"، "ممارسة الجنس من خلال رسول"
تصبو النباتات، شأنها شأن سائر المخلوقات، للتكاثر والانتشار على سطح الكرة الأرضيّة. تختلف النباتات عن الإنسان وما شابهه من مخلوقات بأنّها تبقى مغروسة في مكانها من اللحظة التي تنبت فيها الى آخر أيّام حياتها. لذلك، تضطرّ النباتات إلى أن تضع ثقتها بقوى الطبيعة - خاصّةً الرياح - أو الاستعانة بوسطاء قادرين على الحركة، مثل الحشرات.
لقد أجبر فقدان القدرة على الحركة، إلى جانب خواصّ أخرى، النباتات،عبر مراحل التطوّر، تطوير استراتيجيّات للتكاثر والانتشار تختلف عن تلك المعروفة في عالم الأحياء. تتكاثر غالبيّة النباتات، على الرغم من ذلك، مثلما تفعل الحيوانات، تكاثرًا جِنسيًّا: تتّحد الخليّة الجنسيّة الأنثويّة مع الخليّة الجنسيّة الذكريّة وتكوّنان الزيڠوت - خلية البويضة المخصبة - و تتطوّر منها البذرة أو النبتة التي تُنتج الأبواغ. إلّا أنّ النباتات، بخلاف غالبيّة الحيوانات، يمكنها التكاثر تكاثرًا لا جنسيًّا، عن طريق إنتاج نسخ مطابقة لها وراثيًّا. كيف يأتي أطفال النباتات إلى العالم؟
تتكاثر غالبيّة النباتات تكاثرًا جنسيًّا: تتّحد الخليّة الجنسيّة الأنثويّة مع الخليّة الجنسيّة الذكريّة وتكوّنان الزيڠوت وتنتج البذرة منه. زهرة لِشجرة حمضيّات | Shutterstock, LifeCollectionPhotography
النباتات الأولى
تطوّرت عدّة مجموعات في المملكة النباتيّة، منذ أن خرجت أولى الطحالب من البحر إلى الأرض، وتكيّفت شيئًا فشيئًا وببطء لظروف أقلّ رطوبة. تكيّفت عملية التكاثر الجنسيّ، في نطاق هذه العمليّة، تدريجيًّا هي الأخرى مع الحياة على اليابسة.
كانت أولى النباتات التي تطوّرت على اليابسة شبيهةً بطحالب أيّامنا. لم تُنبت هذه النباتات أزهارًا بعد، وإنّما استعانت بأعضاء تناسليّة أُخرى. كان الكثير منها ثنائي المسكن، أي أنّ الأعضاء التي تحتوي على خلايا جنسيّة أنثويّة تقطن لوحدها في نبتة، وتقطن الأعضاء التي تحتوي على أعضاء التكاثر الذكريّة لوحدها في نبتة أخرى. اعتمدت الطحالب القديمة بشكل رئيسيّ، كما أسلافها المائيّة، على المياه الحرّة في عمليّة الإخصاب. قلّما صادفت الخلايا الجنسيّة (الأمشاج) لدى الطحالب الخلايا الجنسيّة لدى نبتَة من نوع آخر، الأمر الذي صعّب عملية التكاثر الجنسيّ. نتيجةً لذلك، نكاد لا نجد تكاثرًا جنسيًّا لدى الطحالب ثنائيّة المسكن، والتي تشكّل جزءً كبيرًا من مجمل الطحالب، في حين يزيد انتشار هذا النوع من التكاثر لدى الطحالب أحاديّة المسكن عنه لدى ثنائيّة المسكن.
اعتمدت الطحالب شكلًا من أشكال التكاثر اللاجنسيّ يُسمّى التكاثر الخضريّ. تنمو، في هذا النوع من التكاثر، نبتةٌ جديدة من أجزاءٍ من النبتة الأم، ليست الخلايا الجنسيّة أو الأعضاء التناسليّة. تُطابق خواصّ النبتة النامية الجديدة خصائص النّبتة الأمّ، وتقاسمها مادّتها الوراثيّة. ينفصل جزء ما عن النبتة الأمّ عادةً، وتتكوّن منه نبتة كاملة جديدة. قد يكون ذلك الجزء غصنًا عاديًّا من النبتة، وقد يكون ورقة منها. قد يكون هذا الجزء في حالات أخرى،عضوًا خاصًّا أُنشئ لهذه الغاية ويسمّى برعم التكاثر. هناك نباتات تُنبت أطراف أوراقها التي تلامس تراب الأرض هياكل شبيهة بالجذور، تُسمى الجذريّات، ووريقات جديدة تُنبت بدورها نبتات صغيرة جديدة، وهكذا. أكسبت هذه العمليّة الطحالب التي تتكاثر بهذه الطريقة لقب "الطحالب المتحرّكة".
يحدّ التكاثر الخضريّ، أيًّا كان نوعه، من إمكانية انتشار النباتات مكانًا وزمانًا، لأنه يُلزم وجود النبتة الأمّ لينفصل عنها الجزء الذي تنمو منه نبتة جديدة، والذي لا يمكنه الابتعاد عنها كثيرًا. لذلك، غالبًا ما تنمو النباتات التي تتكاثر بهذه الطريقة في مستعمرات كثيفة محدودة المساحة.
لِطريقة التكاثر اللاجنسيّ سلبية تطوّرية واضحة. حيث لا تختلط المورثات (الجينات) على مرّ الأجيال، لأنه يوجد لكلّ نبتة أب واحد وليس اثنان. نتيجةً لذلك، يقلّ التنوّع الوراثيّ بين الأفراد، وتقلّ قدرتها على مجابهة التغيّرات التي تحصل في البيئة المحيطة.
اعتمدت الطحالب القديمة، كما أسلافها المائيّة، على المياه الحرّة للإخصاب. يتكاثر الكثير منها تَكاثرًا لا جنسيًّا بشكل خاصّ. طحلب من النوع Leucobryum glaucum | تصوير: Shutterstock, Jeff Holcombe
النباتات البذريّة المبكّرة
ظهرت السرخسيّات في وقت لاحق من تطوّر المملكة النباتيّة، وتطوّرت بعدها النباتات البذريّة. تُنتج معظم النباتات التي نعرفها اليوم البذور.
البذرة هي بُنية متينة للغاية، يمكنها البقاء على قيد الحياة في حالة سبات لفترة طويلة بدون ماء ولا غذاء. تكفي العناصر الغذائيّة التي تحويها البذرة لإنبات النّبتة، في حين يتيح محتوى الماء المنخفض فيها، إلى جانب المواد التي تعزّز السبات، لها البقاء على قيد الحياة لفترة طويلة دون أن تتعفّن، إلى أن تتهيّأ الظروف للإنبات.
تتيح قدرة البذرة على البقاء على قيد الحياة منفصلة عن النبتة الأمّ، للنبتة التي تبثّها التغلّب على العقبات، مثل مواسم الجفاف أو الحرائق، ونشر ذُرّيتها لمسافات بعيدة. بإمكان جوز الهند مثلًا أن يطوف على سطح المحيط لأشهر كثيرة، إلى أن يصادف اليابسة وينبت.
كانت النباتات البذرية الأولى معراة البذور - نباتات عديمة الأزهار. لعل أكثر الأنواع المعروفة من هذه النباتات هي صنوبر الهالبينسيس وسرو المتوسط، المنتشرة في منطقة البحر الأبيض المتوسّط. تتكاثر النباتات معراة البذور تكاثرًا جنسيًّا بشكل رئيسيّ، بخلاف الطحالب، وتكاد لا تتكاثر تكاثرًا خضريًّا.
كانت النباتات البذرية الأولى معراة البذور - نباتات عديمة الأزهار. شجرة صنوبر| Shutterstock, Vinicius Armelin
غالبية معراة البذور هي أحاديّة المسكن، أي أنّها تُوَطّن داخلها خلايا جنسيّة أنثويّة وذكريّة في نفس الشجرة، لكن ليس في نفس الكوز. تزداد كثيرًا إمكانيّة التكاثر الجنسيّ فيما بين فردين مختلفين من النبتة نتيجةً لهذا الفصل، إلّا أنّ الاحتمال بأن تُخصب شجرة ما نفسها لا يزال كبيرًا، الأمر الذي لا يساهم في زيادة التنوّع الوراثيّ بين أفراد النبتة.
لقد تطوّرت مع الزمن آليّات تتيح نقل حبيبات اللقاح - البُنيات التي تحتوي على الخلايا الجنسيّة الذكريّة - بعيدًا عن النبتة الأم، حيث تستطيع إخصاب نبتة أخرى بدلًا من إخصاب الخلايا الأنثويّة في نفس النبتة. تنبعث الخليّة الجنسيّة الذكريّة من حبيبة اللقاح، عندما تهبط هذه على النبتة التي تحتوي على خليّة جنسيّة أنثويّة وتخصبها، ويتكون الزيڠوت الذي يتطوّر لاحقًا إلى بذرة.
لحبيبات اللقاح في بعض معراة البذور ما يشبه الجناحين، أو الأكياس الفارغة، التي تساعدها في التحليق. تُظهر بعض النتائج أنَّ بعض معراة البذور تستخدم الرحيق لجذب الملقِّحات، لكنّ هذه نادرة جدًّا. صحيح أنّ استخدام الريح في نثر حبيبات اللقاح ونشرها يتيح وصولها بعيدًا، إلّا أنّ ذلك لا يضمن هبوطها على النبتة المناسبة. لذلك، تضطرّ النباتات التي تستخدم هذه الآلية إلى إنتاج كمّيّات كبيرة جدًّا من حبيبات اللقاح غير المستغلّة، وذلك لزيادة الأمل بأن يصل، ولو القليل منها، إلى الوجهة المناسبة، ممّا يزيد من الضائقة لدى الأشخاص الذين يعانون من الحساسيّة لحبيبات اللقاح.
غالبية معراة البذور هي أحاديّة المسكن، أي أنّها تُوطِّن داخلها وفي نفس الشجرة خلايا جنسيّة أنثويّة وذكريّة، لكن ليس في نفس الكوز. أكواز أنثويّة وذكريّة | Shutterstock, HHelene
النباتات البذريّة ذات الأزهار
النباتات كاسيّات البذور هي آخر ما تطوّر من النباتات، وهي تتميّز بالعضو التناسليّ بالغ التطوّر - الزهرة، التي تُكوّن لاحقًا بُنية الثمرة وفي داخلها البذور. طوّر قسم من كاسيات البذور طرق الإخصاب إلى مستوى عالٍ جدًّا. يستخدم الكثير منها الرائحة لجذب المُلقِّحات - الحشرات والكائنات الأخرى التي تحمل حبيبات اللقاح، وتنقلها من زهرة الى أخرى ومن نبتة الى أخرى، وتأتي بها حتى آلية الإخصاب الأنثوية. تروق لنا بعض هذه الروائح، مثل رائحة إزهار الحمضيّات أو النرجسيّات، بينما لا تروق لنا روائح أخرى، مثل بعض أزهار اللوف، التي تنشر روائح تتراوح ما بين رائحة السماد الطبيعيّ الحي ورائحة اللحوم الفاسدة. علينا أن نتذكر أنّنا لا نشكّل هدفًا لرائحة أزهار اللوف، إنما هي تحاول جذب الذباب إليها.
كثيرًا ما تهدف الرائحة الجذّابة الى الإعلان عن وجود الرحيق الحلو، الذي تتغذّى عليه الحشرات والحيوانات الأخرى المُلقِّحة. يُشكّل ذلك ما تقدّمه الأزهار مقابل خدمات التلقيح. وجدت دراسة أولى فريدة من نوعها أنّ أزهار شبّ الليل (Oenothera drummondii) تُنتج رحيقًا أكثر حلاوةً عندما تَصدر نغمات من المُلقّحات الموجودة بجوارها. مع ذلك، لا تزال هذه العلاقة ظرفيّة ليس إلّا، وهناك حاجة لمزيد من الدراسة، ليتبيّن فيما إذا توجد علاقة سببيّة بين الأمريْن.
تَستخدم النباتات الأخرى مظهرًا جانبيًّا لجذب الملقِّحات، فتولّدت من هذا الباب، أزهار بالغة في روعتها. أُعدّ البعض منها، مثل الرائحة العذبة، للإعلان عن وجود الرحيق، أمّا في حال عدم توفّر رحيق يمكن تقديمه للملقِّحات، هناك طرق أخرى لجذبها. أزهار النحلة الطنّانة هي الأكثر شهرةً، والتي يمكن رؤيتها في البلاد أيضًا. إنّها زهرة الأوركيد التي يُذكّرنا شكلها بشكل أنثى النحل، وتنبعث منها روائح تحاكي فرمونات الإناث - وهي هرمونات متطايرة ذات رائحة، تجذب ذكور النحل إليها دون تقديم شيء في المقابل.
في حالة افتقرتَ إلى رحيق تقدّمه للمُلقِّحات، توجد طرق أخرى لجذبها - كالتخفّي بشكل النحلة. زهرة النحلة الطنّانة | Shutterstock, aytknysr
طوّرت كاسيات البذرة مع الزمن سُبلًا متنوّعة من الآليّات التي تهدف للفصل، قدر الإمكان، بين الخلايا الجنسيّة الأنثويّة والذكريّة، وذلك لمنع الإخصاب الذاتيّ. هناك نباتات أحاديّة المسكن ونباتات ثنائيّة المسكن؛ قد تكون الأزهار أحاديّة الجنس - يكون الفرد منها إمّا ذكرًا وإمّا أنثى، وقد تكون ثنائيّة الجنس - تحتوي أزهار النبتة على خلايا الجنس الأنثويّة وخلايا الجنس الذكريّة معًا؛ ومن الممكن أن تكون الخلايا الأنثوية والذكريّة في أماكن متباعدة داخل زهرة النبتة ثنائيّة الجنس، أو أن تنضج في وقت لاحق.
تشكِّل شجرة التين مثالًا مثيرًا للاهتمام على الفَصل الزمنيّ ما بين نُضج الأزهار الذكريّة والأنثويّة. نجد أنّ بعض الأنواع من شجرة الفيكس، بما فيها شجرة التين التي نأكل ثمارها، أقامت علاقة وثيقة مع مُلقِّحتها - أنثى دبّور صغير من عائلة (Agaonidae). يدخل دبور التين إلى زهرة كروية الشكل تكاد تكون مغلقة بالكامل، عدا عن فتحة واحدة ضيّقة. تحتوي هذه الزهرة بشكل خاصّ على زهيرات ذكريّة، والقليل من الزهيرات الأنثويّة. يتمّ أسر أنثى الدبور داخل الزهرة بسبب بنيتها الكرويّة، وتضطرّ أنثى الدبور أن تضع بيوضها داخل الزهرة. تتغذّى اليرقات التي تفقس من هذه البيوض على الزهيرات وتتطوّر داخل الزهرة، تُخصب الذكور منها الإناث، وتُطل الدبابير البالغة في نهاية المطاف من الزهرة في وقت مثاليّ يطابق نضج الأزهار الذكريّة. تحمل الدبابير التي تخرج من الزهرة معها حبيبات اللقاح، وتطير باحثة عن زهرة جديدة. تدخل هذه الدبابير أحيانًا إلى زهرة ذكرية، وتضع بيوضها فيها، وتبدأ بذلك دورة تكاثر من جديد. لكنّها قد تدخل أحيانًا إلى زهرة شجرة تين أنثويّة، ذات أزهار أنثويّة، لا يمكنها وضع بيوضها فيها. تقوم الدبابير في هذا الحال بإخصاب الأزهار ثم يمُتْن.
عدم التوافق الذاتيّ هي طريقة أخرى تساهم في منع التلقيح الذاتيّ. إنّها حالة يستطيع فيها الهيكل الذي يحتوي على الخليّة الجنسيّة الذكريّة التعرّف على البروتينات الموجودة على جدران حبيبات اللقاح، ويمنع عملية إخصاب الخليّة الجنسيّة الأنثويّة إذا تبيّن أنّها، أي البروتينات، مطابقة لِبروتينات الخليّة الجنسيّة الذكريّة. تتطوّر بذلك بذور من أبوين، ولا يمكن أن يحصل إخصاب ذاتيّ لا يساهم في زيادة التنوّع البيولوجيّ فيما بين الأفراد داخل المجموعة. شجرة التفاح المثمرة المعروفة لنا جيّدًا، هي إحدى النباتات ذات عدم التوافق الذاتيّ.
تتطوّر البذرة بعد الإخصاب، وتتحوّل أنسجة الزهرة من حولها إلى ثمرة. تطوّر ثمرة الرمان | Shutterstock, Protasov AN
من الزهرة حتّى الثمرة
تتطوّر البذرة بعد وقوع الإخصاب، وتتحوّل أنسجة الزهرة من حولها إلى ثمرة. تتطوّر ثمارٌ مختلفة من أنسجة مختلفة لأزهار العائلات النباتيّة المختلفة. توجد ثمار لجميع النباتات كاسيات البذور، على الرغم من أنّنا نفضّل تسمية البعض منها خضارًا، أو تصنيفها كأشجار زينة لأنّ هيكلها لا يروق لنا، أو لأنّها غير صالحة للأكل. تساهم الثمار كثيرًا في نشر البذور، مثلًا، عن طريق الجهاز الهضميّ للحيوانات التي تأكلها، وتتيح بذلك انتشار النباتات إلى مناطق جديدة.
مرَّت النباتات، على طول ملايين السنين من التطوّر، تجسّدات كثيرة. كان الخروج إلى اليابسة هو أحد التغيّرات الحادّة: الانتقال من الحياة في البيئة المائيّة إلى الحياة في البيئة الأكثر جفافًا. تغيّرت طرق الإخصاب وكيفيّته وانتشاره وتلاءَمت مع البيئات الجديدة، حتّى تشكّل هذا التنوّع الهائل المعروف لنا اليوم.