تحارب خلايا B الأجسام الغريبة في الجبهة الدّاخليّة لجهاز المناعة، تقوم بإنتاج ملايين الأجسام المضادّة، تساعد في أداء عمل التّطعيم عندما يتعرّض الجسم للهجوم - لكنّها قد تؤدّي إلى سرطان في الدّم

جهاز المناعة في أجسامنا معقّد ومهمّ للغاية، يتعيّن عليه محاربة العديد من أنواع العدوى وتنسيق ردود الفعل بين الخلايا المتنوّعة. في نفس الوقت، يجب مراقبته باستمرار، فأيّ تحفيز غير صّحيح له يمكن أن يسبّب أمراضًا. عرضنا في مقالات سابقة كيف تستجيب الخلايا البالعة (macrophages) وخلايا T بسرعة للأجسام الغريبة وتقضي عليها. عندما لا يكون ذلك كافيًا، يتجنّد جيش الاحتياط المكوّن من خلايا B والأجسام المضادّة الّتي تنتجها.

مصنع الأجسام المضادّة

تلعب خلايا B في جهاز المناعة دورًا مهمًّا، بما في ذلك حماية الجسم من البكتيريا والطفيليّات. تعتبر فعاليّتها حاسمة في تطوير لقاح طويل الأمد ضدّ الأجسام الغريبة. يستخدم الباحثون وشركات الأدوية خلايا B لتطوير أدوية بيولوجيّة، كما ويستخدمها الأطبّاء للتّشخيص.

تساهم خلايا B بالأساس في تكوين الأجسام المضادّة- وهي بروتينات قادرة على الارتباط بقوّة بأجسام غريبة ضارّة مثل البكتيريا، الطّفيليّات وحتّى السّموم (مثل سمّ الأفعى). الأجسام المضادّة قادرة على تحييد هذه العوامل الضّارة بواسطة ثلاث طرق: عندما ترتبط بالسّموم فإنّها تعيق عملها مباشرةً؛ عندما ترتبط بالبكتيريا والفيروسات فإنّها ترسل إشارة للخلايا البالعة مثل ال macrophages، للتّعرّف على الجسم الغريب وتحليله؛ و يقومون بتحفيز عمل بروتينات "النّظام المتمّم- The complement system" في الدّم، الّتي بدورها تميّز الأجسام المضادّة المرتبطة بالأجسام الغريبة الضّارّة وتقضي عليها.

الأجسام المضادّة هي المسؤولة عن أداء عمل التّطعيمات ويصعُب على الجسم مواجهة العدوى بغيابها. تقوم، بالتّعاون مع "النّظام المتمّم"، بالاستجابة الخلطيّة (Humoral Response) لجهاز المناعة، الّتي تعمل من خلال سوائل الجسم وخاصة الدّم وتقضي على الأجسام الغريبة الّتي تجري في الدّم بحرّيّة. يجيد العلماء والأطبّاء استخدام خصائصهم كوسيلة للتّشخيص، العلاج والأبحاث البيوطبّيّة، مثلًا لصبغ الأنسجة الّتي تحتوي على بروتينات الّذي يعبّر وجودها عن بعض الأمراض أو للكشف عن مستوى هورمون HCG لفحص الحمل المنزليّ.

أجسام مضادّة تلتصق بفيروسات | رسم توضيحيّ: Science Photo Library
يقومون بعمليّة التّحييد، التّمييز وتحفيز عمليّات وقاية مكمّلة. أجسام مضادّة تلتصق بفيروسات | رسم توضيحيّ: Science Photo Library

مكان التّجمّع

إنّ عمليّة نضوج خلايا B عمليّة معقّدة، تبدأ في نخاع العظم وتنتقل منه بواسطة الدّم إلى الغدد اللّيمفاويّة، وهناك تتجمّع في مناطق محدّدة. تصبّ في الغدد اللّيمفاويّة جزيئات صغيرة من الأجسام الغريبة، تسمّى المستضدات- Antigens. هناك آلاف الأنواع من خلايا B في كلّ غدّة ليمفا، كلّ نوع منها عبارة عن موجّه ضدّ مستضدّ واحد فقط.

عندما تتعرف الخلية B على المستضدّ الّذي "تمّت برمجتها" إليه؛ تقوم بالتّواصل مع خلية T الموجودة أيضًا في اللّيمفا. تفرز خلايا T بدورها جزيئات تواصل تدعى Cytokines الّذين يعملون على تنشيط خلايا B لتبدأ في التّكاثر بآلاف النّسخ وحتّى بالملايين، ممّا يؤدّي إلى إنشاء مستنسَخ (Clone) لخلايا B القادرة على إنتاج نفس الجسم المضادّ بكميّات كبيرة. تتحوّل الخلايا الجديدة إلى خلايا بلازما، وهي خلايا B متخصّصة في إنتاج أجسام مضادّة، وتنتج كميّات هائلة منها بناءً على المستضدّ الأصليّ الّذي ميّزته خلايا B.

لتحسين نجاعة عمل الأجسام المضادّة، تُحدث خلايا B طفرات في الجينات الّتي تُشفّر إلى أجسام مضادّة بشكل سريع جدًّا، بوتيرة أعلى بمليون ضعف من وتيرة التّغييرات الطّبيعيّة في الخلايا العاديّة. بهذا الشّكل، تُنتَج خلايا B مختلفة قليلاً عن بعضها البعض. نتيجة الطّفرة، يميّز بعضهم المستضدّ بشكل أفضل من الخلايا الأوليّة ويفرز ضدّه الأجسام المضادّة بشكل أفضل. كما سنرى، فإنّ الجانب السّلبيّ لهذه العمليّة هو أنّه يزيد من احتمال تحوّل خلايا B إلى سرطانيّة.

جزء من غدّة ليمفا تحت المجهر الإلكترونيّ الماسح | مصدر:Science Photo Library
مصنع الخلايا المنتجة للأجسام المضادّة. جزء من غدّة ليمفا تحت المجهر الإلكترونيّ الماسح | مصدر:Science Photo Library

تجنيد القوّات الاحتياطيّة 

لا تتحّول كلّ خلايا B إلى خلايا مفرزة للأجسام المضادّة بعد التّعرّض للمستضدّ. فقد يتحوّل بعضها إلى خلايا ذاكرة، والّتي خضعت أيضًا لجميع التّغييرات الجينيّة الّتي خضعت لها الخلايا المفرزة، كما تكون مزوّدة بأنسب الأجسام المضادّة للمستضدّ. 

تبقى خلايا الذّاكرة في الغدد اللّيمفاويّة في حالة انتظار. عندما يغزو نفس السّمّ أو البكتيريا الجسم من جديد، تستجيب هذه الخلايا بسرعة، تتكاثر أسرع، وتفرز أجسامًا مضادّة أقوى- يمكن اعتبار هذه الخلايا بمثابة قوّة احتياطيّة قويّة جدًّا. تعتمد آليّة التّطعيم على هذه الخلايا. تحتوي الّلقاحات الّتي حصلنا عليها منذ الصّغر على مستضدّات ضارّة لكنّها غير قادرة على التّسبب بالمرض، وتتعلّم خلايا B تمييزها. عند التّعرّض لمسبّب حقيقيّ للمرض - جرثومة حيّة، فيروس أو سمّ، تتجنّد خلايا الذّاكرة الّتي أُنتجت بعد تلقّي اللّقاح وتحفّز جهاز المناعة للاستجابة بشكل ناجع وسريع ضدّ الجسم الغريب.

تكمن أهميّة خلايا B بالأساس في مكافحة البكتيريا غير الخلويّة الّتي تتكاثر في مجرى الدّم، مثل ال Streptococcus (المكورات العقديّة) أو الطّفيليّات مثل الدّيدان والفطريّات. لذا فإنّ المشاكل المرتبطة في عمل هذه الخلايا تؤدّي إلى التهابات مثل الالتهاب الرّئويّ، أمراض الجلد، التهابات في الأذنين وغيرها.

مثال على ذلك هو مرض يسمّى XLA، يؤدّي فيه خلل في أحد الجينات المرتبطة في تمايز خلايا B إلى عدم وجود خلايا B في دم المرضى. بما أنّ الجين هو جزء من كروموسوم X، فإنّ الذّكور فقط يصابون بالمرض، بما أنّه ليس لديهم نسخة أخرى من هذا الكروموسوم ليتغلّب على الجين المعطّل. في مرض آخر يدعى Hyper IgM syndrome، يصاب الجين المسؤول عن إحدى عمليّات إنتاج خلايا الذّاكرة بالتّلف، ويتعرّض المريض تكرارًا لأمراض التهابيّة. في مرض آخر، يسمى CVID، تتعطّل عمليّة نضوج خلايا B إلى خلايا البلازما وبالتّالي يتعرّض المرضى إلى أكثر إصابات بالعدوى.

صورة بالألوان لخليّة سرطانيّة هجينة Hybridoma قادرة على أداء عملها لفترة طويلة | المصدر: Science Photo Library
"مصنع" لإنتاج الأجسام المضادّة. صورة بالألوان لخليّة سرطانيّة هجينة Hybridoma قادرة على أداء عملها لفترة طويلة | المصدر: Science Photo Library

الاحتمالات والمخاطر

كما أسلفنا أعلاه، تلعب خلايا B دورًا مهمًّا في الأبحاث وصناعة الأدوية، لقدرتها على إنتاج أجسام مضادّة خاصّة يمكن توجيهها ضدّ أيّ مادّة بيولوجيّة ممكنة. في منتصف سنوات ال 70، طُوّرت طريقة خاصّة لإنتاج أجسام مضادّة من خلايا B بكميّات تجاريّة، من خلالها يتمّ بالمختبر تهجين خلايا بلازما منتِجة لأجسام مضادّة محدّدة مع خلايا سرطانيّة لنحصل على "هيبريدوما"- خلايا الورم الهجين، هي خلايا تنتج أجسامًا مضادّة بكمّيّات هائلة ويمكنها أن تعيش وتتكاثر لفترة زمنيّة طويلة في المختبر. بهذه الطّريقة يمكن إنتاج أجسام مضادّة للعلاج أو للأبحاث. حاز سيزار ميلشتاين وجورج كولر (مع نيلس يارنا) على جائزة نوبل في الطّبّ عام 1984 لابتكارهم هذه التقنيّة.

نجاعة خلايا B في إنتاج الأجسام المضادّة يمكن أن تؤدّي إلى عواقب وخيمة أيضًا، مثلًا إلى أمراض المناعة الذّاتيّة- وهي الأمراض اّلتي يهاجم فيها جهاز المناعة الجسم ذاته. هذا ما يحدث في ال lupus (مرض الذّئبة)، myasthenia gravis، Grave's disease وغيرها. هي أمراض يصعب علاجها بسبب فعاليّة خلايا B المنتجة لأجسامّ مضادّة لبروتينات معيّنة في الجسم.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تكاثرها السّريع ووتيرتها العالية في خلق الطّفرات يزيد من احتمال تحوّل خلايا B إلى خلايا سرطانيّة. يبذل جهاز المناعة الكثير من الطّاقة في التّخلّص من هذه الخلايا، الّتي تخضع لعمليّة نضوج طويلة في نخاع العظام، ومع ذلك فإنّ الخطر يظلّ واردًا.

في ال multiple myeloma، تتحوّل خلايا البلازما المنتجة لأجسام مضادّة إلى خلايا سرطانيّة، وتطرأ اضطرابات في أداء عملها مثل الإفراط في إفراز الأجسام المضادّة والبروتينات المسبّبة للالتهابات، ممّا يسبّب تلفًا في الكثير من أنسجة الجسم. يعاني المرضى من آلام في العظام، فشل كلويّ ويكونون أكثر عرضة للإصابة بالعدوى.

تتعلّق خلايا B أيضًا بحدوث أنواع أخرى من سرطان الدّمّ مثل (Chronic lymphocytic leukemia (CLL - سرطان الدّم الأكثر شيوعًا، (Diffuse large B cell lymphoma (DLBCL وأحيانًا (ALL) Acute lymphocytic leukemia - وهو سرطان دم شائع بشكل خاصّ عند الأطفال. هناك أيضًا أورام خبيثة أخرى مرتبطة بخلايا B.

إذًا، خلايا B هي عنصر أساسيّ في جهاز المناعة، وعندما تنقص أو يتعطّل عملها، قد تكون النّتائج كارثيّة. لا يمكن تطوير لقاحات للأمراض المعدية بدونهم. ويمكن أن تؤدّي الاضطرابات في عملهم إلى أمراض المناعة الذّاتيّة وحتّى إلى سرطان في الدّم.

0 تعليقات