حلٌّ واعد لمقاومة المضادّات الحيويّة، وأداة ممتازة للبحث وعلاج العديد من الأمراض وأساس التّحرير الجينيّ. وبعد عقود من الإهمال، أعاد العلم اكتشاف العاثّيّات: وهي الفيروسات الّتي تصيب البكتيريا. مخلوقات صغيرة ذات إمكانات كبيرة

للفيروسات سمعة سيّئة. هي مسبّبة للأمراض، المعاناة والموت. يكفي ذكر أسمائهم تجعلنا نفكّر في الأوبئة القاتلة مثل الأنفلونزا الإسبانيّة، شلل الأطفال، الجدريّ وبالطّبع فيروس كورونا. ولكن هناك أيضًا فيروسات "لطيفة" أكثر. فهي لا تؤذينا، وقد تكون مفيدة جدًّا، وتعلّمنا أيضًا بعض الأشياء.

تصيب معظم الفيروسات في العالم البكتيريا فعليًّا، ولا تؤذي الإنسان على الإطلاق. تُسمّى هذه الفيروسات بالعاثّيّات (باليونانية: "آكلة البكتيريا"). وفقًا للتّقديرات، هناك حوالي1031 عاثّيّة على الأرض - عشرة آلاف مليار مليار مليار فيروس، أيّ حوالي عشرة أضعاف عدد البكتيريا في العالم.

تتواجد العاثّيّات أينما تعيش البكتيريا - في التّربة، المسطّحات المائيّة، وكذلك في جسم الإنسان. عندما تمّ اكتشافها لأوّل مرّة، في بداية القرن العشرين، تمّ إجراء الكثير من الأبحاث عليها، ولكن مع بداية استخدام المضادّات الحيويّة، تلاشى الاهتمام بها في الغالب. حظيت في السّنوات الأخيرة باهتمام متجدد، وهذه المرّة كحلّ محتمل ضدّ تطوّر البكتيريا المقاومة للمضادّات الحيويّة، والّتي قد تعيد الأمراض الّتي اختفت تقريبًا من العالم. وفقًا لمنظّمة الصّحّة العالميّة، يُعتبر اليوم كأحد أكبر التهديدات للصّحّة العامّة العالميّة.


قد حظت في السنوات الأخيرة باهتمام متجدّد. رسم توضيحيّ للعاثّيّات الّتي تهاجم البكتيريا | Shutterstock, Design_Cells

من أساسه حتّى رأسه

جميع الكائنات الحيّة في العالم، من أصغر بكتيريا حتّى الفيل الأفريقيّ وإلى الحوت الأزرق الضّخم، تتكوّن من خليّة واحدة على الأقلّ. ومن ناحية أخرى، فإنّّ الفيروسات أصغر وأبسط بكثير، لدرجة أنَّ معظم العلماء لا يعتبرونها كائنات حيّة. فبدلًا من خليّة كاملة، فهي تحتوي فقط على مادّة وراثيّة محاطة بغلاف بروتينيّ. معظمها، بما في ذلك العاثّيّات، أصغر بعشر مرّات من البكتيريا، ولا يمكن رؤيتها إلا بمجهر متطوّر.

تظهر العاثّيّات في مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأشكال، لكنّها تتكوّن جميعها من رأس وذيل. يشبه الرّأس الصّندوق الصّغير يُعرف بالقفيصة (Capsid)، ويتكوّن من عدّة بروتينات في بُنية هندسيّة منظّمة. معبّأ في داخلها المادّة الوراثيّة للفيروس، والّتي يتمّ حفظها في جزيء DNA أو RNA الّذي يحتوي على تعليمات لإنتاج العاثّيّات الجديدة.

الرّابط مرتبط بالذّيل، وبمساعدته يتعرّف الفيروس على البكتيريا الملائمة لإصابتها والارتباط بها. يمكن أن تكون ذيولًا طويلة أو قصيرة، مرنة أو قاسية. ويبلغ طول أطول ذيل فيروسيّ تمّ اكتشافه ما يقرب من ميكرومتر واحد، أي جزء من الألف من المليمتر. أكسب هذا الذّيل غير العادي الفيروس لقب "عاثّيّات رابونزل"، نسبة إلى البطلة ذات الشّعر الطّويل المعروفة قصّة الأخوين جريم الشّهيرة.


تتكوّن جميع العاثّيّات من رأس وذيل. ويشبه الرّأس الصّندوق الصّغير، وفي داخله توجد المادّة الوراثيّة للفيروس. رسم توضيحيّ لهيكل العاثّيّات | Shutterstock, Art of Science

سيطرة على وسائل الإنتاج

مثل جميع الفيروسات، لا تستطيع العاثّيّات أن تتكاثر بنفسها. ومن أجل التّكاثر، فإنها تستولي على خليّة حيّة من البكتيريا، وتجبرها على تكرار مادّتها الجينيّة، وإنتاج المزيد والمزيد من نسخ الفيروس.

في المعركة الّتي تخوضها العاثّيّات ضدّ البكتيريا، فإنّها تعمل بطريقتين رئيسيّتين. تُسمّى الأولى، الدّورة الحالة (Lytic cycle) يسيطر فيها الفيروس على الآليّات الخلويّة للبكتيريا، يتكاثر داخلها ويدمّرها في النهاية. تبدأ عملية الاستيلاء بالارتباط بالبكتيريا: تستخدم العاثّيّات مستقبلات حسّاسة على أطراف ذيلها، لتحديد السطح الذي يمكن أن تلتصق به على سطح البكتيريا. تتعرّف معظم العاثّيّات على نوع واحد فقط من البكتيريا، أو حتّى سلالة معيّنة من البكتيريا، ولا يمكنها الارتباط بأنواع أخرى. تقوم العاثّيّات بعد ذلك بإدخال المادة الوراثيّة الفيروسيّة في البكتيريا.

تشبه المادّة الوراثيّة للعاثّيّة البرامج الضّارّة الّتي تسيطر على أنظمة البكتيريا، ممّا يجبرها على تكرار المادّة الوراثيّة للعاثّيّة مرارًا وتكرارًا، وإنشاء جميع البروتينات اللّازمة لإنشاء عاثّيّات جديدة. تصبح البكتيريا الأسيرة مصنعًا للعاثّيّات. عندما يتراكم ما بين 50 - 100 فيروس، ويتمّ ضغطها معًا في تجويف الخليّة، تنفجر البكتيريا وتموت. يتمّ إطلاق العاثّيّات الجديدة في البيئة وتصيب البكتيريا الأخرى. هذه عمليّة سريعة جدًّا، يمكنها تدمير مجموعة كاملة من البكتيريا في غضون دقائق قليلة.

تُسمى الطّريقة الثّانية الّتي تعمل بها العاثّيّات بالدّورة المستذيبة (Lysogenic cycle). فيها بدلًا من تدمير البكتيريا، تدخل العاثيات إلى البكتيريا، وتدمج مادتها الوراثية في الحمض النووي للبكتيريا - وهذا كل شيء. يظل "خاملًا" بداخلها لفترة طويلة من الزّمن. خلال هذا الوقت، تعمل البكتيريا كالمعتاد، وتنقسم وتتكاثر أحيانًا، ومع كل انقسام يتمّ أيضًا نسخ المادّة الوراثيّة للفيروس، ونسخها إلى نسل البكتيريا المصابة.

يمكن أن يستمرّ هذا الوضع لفترة طويلة، حتّى تنشأ الظّروف الّتي ينشط فيها الفيروس مرّة أخرى، ويبدأ في التّكاثر وإنتاج العاثّيّات الجديدة، الّتي تملأ الخليّة حتّى تنفجر وتحرّرها للبحث عن بكتيريا جديدة لتصيبها. من المفترض أن تمنح دورة الحياة هذه العاثّيّات ميزة، عندما يكون عدد البكتيريا المتاحة للعدوى منخفضًا جدًّا، على سبيل المثال، عندما تقضي العاثّيّات بالفعل على معظمها. ففي نهاية المطاف، إذا لم يتبق أيّ بكتيريا لتصيبها، فلن تتمكّن العاثّيّات من الاستمرار في الوجود أيضًا.


ترتبط العاثّيّات بالبكتيريا وتقوم بإدخال المادّة الوراثيّة الفيروسيّة فيها. رسم توضيحيّ للعاثّيّات المرتبطة بالبكتيريا | Nemes Laszlo / Science Photo Library

بعض التّاريخ

ظهر أوّل دليل على وجود العاثّيّات في عام 1896، عندما اكتشف عالم الأحياء إرنست هانبري هانكين (Hankin) في مزارع الخلايا، الّتي جمعها من نهر الجانج في الهند "مسبّب بيولوجيّ يدمّر بكتيريا الكوليرا". لكنّ بحثه لم يثر الكثير من الاهتمام، وقد أُهملت النّتائج. وبعد حوالي عشرين عامًا، لاحظ عالما الأحياء فريديريك تورت (Twort) وفيليكس دي هيريل (d'Hérelle) أنّ شيئًا غير معروف كان يهاجم ويدمّر المزارع البكتيريّة. أطلق عليها دي هيريل اسم العاثّيّات في مقال نشره عام 1917.

أحدث هذا الاكتشاف هذه المرّة ضجّة، وبدأ العديد من الباحثين في البحث عن طرق لاستخدام العاثّيّات ضدّ الأمراض البكتيريّة الخطيرة مثل الكوليرا، الزّحار وحمى الضّنك. واستمرّت الجهود حتّى انتشار استخدام المضادّات الحيويّة في أربعينيّات القرن العشرين، والذي اعتبر بمثابة ضربة قاصمة للبكتيريا الضّارّة، ثمّ تضاءَل تدريجيًّا في دول الكتلة الغربيّة. من ناحية أخرى، في الكتلة الشّرقيّة، الّتي ضمّت الاتّحاد السّوفييتيّ وأتباعه، استمرّ البحث عن العاثّيّات واستخدامها لعلاج المرضى. اليوم، يعدّ معهد إليافا (Eliava) في جورجيا، والّذي كان دي هيريل أحد مؤسّسيه، أحد المراكز الرائدة في هذا المجال اليوم، ويمكنك حتّى شراء مسحوق البكتيريا بدون وصفة طبّيّة، لعلاج الالتهابات الجلديّة وغيرها من الالتهابات هناك، أو في الصّيدليّات المرتبطة به.


كان هانكين (على اليمين) أول من اكتشف دليلًا على وجود العاثّيّات، وقد سمّاها دي هيريل (على اليسار) | ويكيبيديا،Shyamal, Materialscientist   

اليوم، وبعد عقود من الاستخدام المكثّف للمضادّات الحيويّة وغير الضروريّ في بعض الأحيان، أصبح من الواضح أنّ المضادات الحيويّة لديها أيضًا نقطة ضعف. لقد خضعت أعداد متزايدة من البكتيريا لعمليّات تطوّريّة، سمحت لها بتطوير مقاومة لمعظم أنواع المضادّات الحيويّة الموجودة، بما في ذلك تلك الّتي أضرّت بها في الماضي. لقد نشأ موقف مثير للقلق، حيث تفقد المضادّات الحيويّة فعاليّتها تدريجيًّا، ويقلّ نطاق خيارات العلاج. في عام 2019، قدرت منظّمة الصّحّة العالميّة، أنَّ ما لا يقل عن 700 ألف شخص يموتون كلّ عام في جميع أنحاء العالم بسبب البكتيريا المقاومة. وبعد ثلاث سنوات فقط، قفز هذا التّقدير إلى 1.2 مليون حالة وفاة سنويًّا، في أعقاب نتائج دراسة جديدة نُشرت العام الماضي.

التّوقّعات المستقبليّة مخيفة أكثر. ويتوقّع تقرير نشر في المملكة المتّحدة أنّه إذا لم يتمّ تطوير أدوية مضادّة حيويّة جديدة فعّالة، أو لم يتمّ العثور على بدائل علاجيّة أخرى للأمراض الّتي تسبّبها البكتيريا، فإنَّ عدد ضحايا الأمراض الّتي تسببها البكتيريا المقاومة، سيقفز بحلول عام 2050 إلى حوالي عشرة ملايين شخص سنويًا – أكثر من العدد السّنويّ للوفيّات النّاجمة عن جميع أنواع السّرطان مجتمعة.

واستجابةً لهذا الاتّجاه المثير للقلق، تجدّد الاهتمام العالميّ بالعاثّيّات، وهذه المرّة كبديل للمضادّات الحيويّة. في السّنوات الأخيرة، نسمع المزيد والمزيد عن العلاجات التّجريبيّة للعاثّيّات المنقذة للحياة. على سبيل المثال، منذ حوالي عام ونصف، نُشرت قصّة شابّة بلجيكيّة أصيبت بالتهاب بكتيريّ حادّ في ساقها، لم يستجيب لأيّ مضاد حيويّ. وكملاذٍ أخير، حاول الأطباء استخدام العاثّيّات على أمل إنقاذ ساقها وربّما حياتها. وبالفعل تحسّنت حالة ساقها على الفور تقريبًا، وتعافت تمامًا خلال ثلاثة أشهر.

مع ذلك، لم تتمّ حتّى الآن الموافقة على أيّ دواء يعتمد على العاثّيّات للبشر في أمريكا الشّماليّة وأوروبّا. المشكلة الرّئيسيّة هي أنَّ معظم التّجارب الّتي أُجريت في الماضي لم تستوفِ الشّروط الصّارمة، المصمّمة لضمان أنَّ العلاج آمن للاستخدام البشريّ وفعالّ.

بدأ الآن الوضع بالتّغيُّر. يقوم الباحثون في إسرائيل وفي جميع أنحاء العالم بإجراء تجارب سريريّة منظّمة، وتقييم سلامة العاثيات وفعاليّتها لعلاج التهابات الرّئة، جروح الحروق والتهابات المسالك البوليّة والعديد من الأمراض البكتيريّة الأخرى، والتي تُسبب بكتيريا مقاومة للمضادّات الحيويّة بعضها. على عكس المضادّات الحيويّة، الّتي تقتل عادة مجموعة واسعة من البكتيريا، فإنَّ العاثّيّات انتقائيّة للغاية وتهاجم فقط البكتيريا الّتي تتكيّف معها، وبالتّالي فإنَّ البكتيريا المفيدة الأساسيّة تظلّ سليمة. اليوم، توافق إدارة الغذاء والدّواء في الولايات المتّحدة (FDA) بموجب الشّرط "الّذي يُعتبر آمنًا بشكل عام" على استخدام بعض مستحضرات العاثّيّات ضدّ بكتيريا الإشريكيّة القولونيّة (E. coli) وبكتيريا السّالمونيلا.

مع ذلك، فهذه ليست أدوية، ولكنّها مجرّد مطهّرات مناسبة للاستخدام في الصّناعات الغذائيّة والمنتجات الزّراعيّة، لتنظيف الأسطح في المستشفيات، وغيرها من المناطق المعرضة لخطر التّلوّث البكتيريّ.


لقد تجدّد الاهتمام العالميّ بالعاثّيّات، هذه المرّة كبديل للمضادّات الحيويّة. بنية العاثّيّات | Tumeggy / Science Photo Library

العاثّيّات على طاولة العمل

لا تقتصر الفائدة الّتي يمكن أن نجنيها من العاثّيّات على قدرتها على قتل البكتيريا. لعقود من الزمن، استخدم العلماء العاثّيّات لدراسة خصائص جميع أنواع الفيروسات ودورات تكاثرها. هذه الدراسات مسؤولة عن بعض أهمّ الاكتشافات، الّتي تمّت في مجالات البيولوجيا الجزيئيّة. على سبيل المثال، في عام 1952، اكتشف ألفريد هيرشي (Hershey) ومارثا تشيس (Chase) أنّ المعلومات الوراثيّة مخزّنة في الحمض النّوويّ وليس في البروتينات، وذلك بفضل التّجارب الّتي أجراها على عاثّيّات الT2.

في عام 1961، سمحت نفس البكتيريا لسيدني برينر (Brenner) وزملائه باكتشاف الدور الّذي تلعبه جزيئات الحمض النّوويّ الرّيبيّ (mRNA)، في نقل المعلومات من الحمض النّوويّ إلى الرّيبوسومات - مصنع البروتين في الخليّة. بالإضافة إلى ذلك، كانت العاثّيّات أوّل كيان بيولوجيّ قام الباحثون بسلسلة جينومه الكامل، أي المادّة الوراثيّة الكاملة للفيروس.

أحد أهم الأشياء الّتي تعلّمناها في السّنوات الأخيرة بفضل العاثّيّات هو درس في تحرير الجينات. خلال العقود الأولى، وبعد فكّ رموز بنية الحمض النّوويّ DNA لأوّل مرّة، لم تكن هناك طرق فعّالة لإجراء تغييرات عليه - على سبيل المثال، قطع جزء غير مرغوب فيه من التّسلسل الجينيّ واستبداله بالجزء المطلوب. أيّ تغيير من هذا القبيل هو مهمّة صعبة، تتطلّب الكثير من الجهد ووقتًا طويلًا، وكانت عرضة للأخطاء والتّغيرات غير المرغوب فيها الّتي تدخل في تسلسل الحمض النّوويّ. إنَّ الثّورة الضّخمة الّتي حدثت في العقدين الأخيرين - ثورة الكريسبر CRISPR  - لم تكن لتأتي أبدًا لولا وجود العاثّيّات في العالم.


في العقود الأولى، وبعدّ فكّ رموز بنية الحمض النّوويّ لأوّل مرّة، لم تكن هناك طرق فعّالة لقطع جزء غير مرغوب فيه من التّسلسل الجينيّ واستبداله بآخر. شكل توضيحيّ لاستبدال شرائح الحمض النووي | الصورة: Keith Chambers / Science Photo Library

في نهاية القرن العشرين، أصبح من الواضح أنّه في سباق التّسلّح الجينيّ بين البكتيريا والفيروسات الّتي تصيبها، طوّرت بعض البكتيريا نظام دفاع فعّال ضدّ أعدائها. هذا النّظام الدّفاعيّ، المُسمّى كريسبر، هو عبارة عن مكتبة قطع من المواد الوراثيّة الفيروسيّة الّتي قطعتها البكتيريا من العاثّيّات الّتي غزتها، واحتفظت بها داخل مادّتها الجينيّة الخاصّة. وفي المرّة التّالية الّتي تخترقها عاثّيّات من نفس النّوع، ستتعرّف عليها البكتيريا على الفور بناءً على التّسلسلات الّتي حفظتها مسبقًا، وبالتّالي تعرف كيفيّة إدخال بروتين خاصّ فيها، يقطع المادّة الوراثيّة للفيروس ويمنعها من التّكاثر.

هذه الآليّة المناعيّة للبكتيريا، والّتي تسمح لها بتذكّر تسلسلات المواد الوراثيّة وقطعها بكفاءَة، أثارت تفاعل العالم العلميّ. وسرعان ما أدرك العلماء أنّه بما أنّ تقنيّة كريسبر قادرة على تدمير العاثّيّات، فيمكن استخدامها بسهولة وفعاليّة كآلة لتحرير الجينات. وهذا يعني أنّه يمكن تغيير تعليمات الإنتاج لكلّ كائن حيّ على وجه الأرض، بما في ذلك البكتيريا والنّباتات والحيوانات وحتّى البشر، بسهولة.

لقد تحقّق هدف كبير خلال فترة زمنيّة قصيرة، وأصبح طريقة عمل شائعة وروتينيّة في أيّ مختبر ميكروبيولوجيّ يحترم نفسه. وبفضلها، يتمكّن الأطبّاء من علاج الناس من الأمراض الوراثيّة النّاجمة عن الجينات التّالفة، وهو الأمر الّذي بدا حتّى وقت ليس ببعيد خياليًّا تمامًا. المطلوب فقط هو قطع جزء الحمض النّوويّ التّالف واستبداله بجينٍ سليم.

بالطّبع، في الواقع الأمر أكثر تعقيدًا ممّا هو عليه من النّاحية النّظريّة، وهناك أيضًا مخاطر، ولكن في السّنوات الأخيرة سمعنا عن علاجات تعتمد على تقنية كريسبر، لمجموعة واسعة من الأمراض الوراثيّة، منها فقر الدّم المنجلي، الهيموفيليا، التّليّف الكيسيّ، مرض الزّهايمر، مرض باركنسون، ضمور العضلات دوشين، وتاي ساكس ومتلازمة X الهشّة. وينضمّ إلى ذلك العلاجات المحتملة للأمراض المكتسبة مثل مرض السّكّريّ من النّوع الأوّل، وبعض أنواع السّرطان، والأمراض المعدية وحتّى السّمنة.

يستخدم العلماء أيضًا تقنية كريسبر لهندسة النباتات وراثيًّا، لإطعام الأعداد المتزايدة من البشر، ومنع الجوع في العالم. تتيح الهندسة الوراثيّة إمكانيّة تطوير نباتات صالحة للأكل، بحيث تكون أكثر مقاومة للأمراض وتعطي محصولًا أكبر، وخضراوات تحتوي على المزيد من الفيتامينات؛ يتمّ استخدامه لإيذاء الحشرات النّاقلة للأمراض، وإزالة الموادّ المسبّبة للحساسيّة من المكسرات، وغيرها. في الوقت نفسه، يبحث الباحثون عن طرق للإضافة وتحسين جودة التّحرير الجينيّ وسلامته، وهناك نقاش عامّ واسع النّطاق حول الآثار الأخلاقيّة، للقدرات الّتي يمنحها لنا - على سبيل المثال، تحسين البشر.


هناك نقاش عام واسع النّطاق حول الآثار الأخلاقيّة للقدرات الّتي يمنحها لنا تحرير الجينات - على سبيل المثال تحسين البشر. رسم توضيحيّ لتكوين طفل معدّل وراثيًّا | Thom Leach / Science Photo Library

عاثّيّات في التّعافي والمرض

في الجهاز الهضميّ للإنسان العديد من الكائنات الحيّة الدّقيقة المتنوّعة، والّتي تشمل البكتيريا، الفطريّات وأيضًا العديد من الفيروسات - وخاصّة العاثّيّات. مع ذلك، لسنوات عديدة كان معظم الاهتمام يتركّز على البكتيريا وحدها. لذلك فإنَّ دراسة وظيفة الفيروسات في الجهاز الهضميّ لا تزال في بداياتها. ما هو واضح بالفعل هو أنَّ تأثيرها على صحّتنا واسع للغاية، ويبدو أنَّ أهمّيّتها الرّئيسيّة تكمن في قدرتها على تنظيم أو تدمير مجموعات بكتيريّة معيّنة، وترك المجموعات الأخرى دون أذىً.

بالنّظر إلى الكمّيّة الكبيرة من العاثّيّات الموجودة في أمعاء الإنسان، لماذا لا تقضي على جميع البكتيريا؟ الجواب على هذا معقدّ. في بعض الأحيان، لا تتمكّن العاثّيّات من العثور على البكتيريا المحدّدة الخاصّة بها في البيئة الكثيفة للأمعاء. حتّى عندما يحدّد الفيروس بكتيريا مناسبة، قد تقاوم البكتيريا - على سبيل المثال من خلال نظام الدّفاع كريسبر، أو لا تتمكّن من اختراقها بسبب تغيّر جينيّ (طفرة) لا يسمح له بالارتباط بالبكتيريا. حتى أنَّ هناك بكتيريا انتحاريّة، تدمّر نفسها إذا اخترقها فيروس، وبالتّالي تمنعها من التّكاثر ومهاجمة جيرانها.

لقد أتاح التّسلسل الجينيّ الحديث والواسع النّطاق في السّنوات الأخيرة تحديد جزء كبير من تجمّعات العاثّيّات في الأمعاء البشريّة وتوصيفه. اكتشفت الدّراسات عالمًا جديدًا ومتنوّعًا. يقدِّر الباحثون أنَّ حوالي 1015 عاثّيّة في أمعاء كلّ شخص، معظمها من عائلات تختلف عن جميع الفيروسات المعروفة الأخرى. ويبدو أنَّ معظمها يتعايش مع البكتيريا، وعادةً ما يبقى في حالة سبات، وفي هذه العمليّة يتمّ تنظيم تجمّعات البكتيريا الّتي تعيش في الأمعاء، وتحمينا من البكتيريا الضّارّة.

في تجربة نشرت عام 2016، أخذ الباحثون عيّنات من البراز تعود لأشخاص أصحّاء، وأزالوا كلّ البكتيريا منها لكنّهم تركوا العاثّيّات، ثمّ وضعت هذه العيّنات في أمعاء المرضى الّذين عانوا من التهابات متكرّرة ببكتيريا المطثية العسيرة (Clostridioides difficile). تسبّب هذه البكتيريا آلامًا شديدة في البطن، إسهالًا وحمى، وفي الحالات الشّديدة قد تؤدّي إلى تطوّر التهاب القولون - وهو مرض معويّ مزمن، وحتّى الموت.

وبعد عمليّة الزّراعة تحسّنت حالة جميع المرضى، وتوقّف الإسهال واختفت جميع أعراض المرض. تشير هذه النّتائج إلى أنَّ العاثّيّات الموجودة في عيّنات البراز ساعدت في محاربة البكتيريا، ولكن هناك حاجة إلى مزيد من الدّراسات لتأكيد ذلك.

تُظهر المزيد والمزيد من الدّراسات أنَّ العاثّيّات قد تحسّن الاستجابة المناعيّة للجسم. وأظهرت دراسة حديثة أجريت على الأطفال، أنَّ هذه الفيروسات تساهم في تطوير جهاز المناعة بشكل طبيعيّ، والحماية من الأمراض المزمنة لاحقًا. وقد أظهرت دراسات أخرى أنَّ العاثّيّات قد تساعد في علاج مرض التهاب الأمعاء. مع ذلك، فإنَّ تأثيرها على البيئة المعويّة معقّد ومتعدّد الأوجه، وفي ظلّ ظروف معيّنة قد تؤدّي إلى تفاقم المرض.

ما يزال أمامنا الكثير لنستكشفه ونتعلّمه عن التّأثيرات الإيجابيّة والسّلبيّة والمباشرة وغير المباشرة للعاثّيّات. قد تكون لدينا في المستقبل علاجات طبّيّة فعّالة تعتمد على العاثّيّات، وربّما أيضًا مكمّلات بروبيوتيك الّتي تشمل فيروسات آكلة للبكتيريا.


وبعد زرع العاثّيّات في أمعاء المرضى، تحسّنت حالتهم. بكتيريا المطثية العسيرة الّتي تسبّب آلام شديدة في البطن والإسهال والحمّى | Dr Kari Lounatmaa / Science Photo Library

مستقبل فيروسيّ

بعد سنوات طويلة من تجنّبها، انتشر نهج العلاج بالعاثّيّات في السّنوات الأخيرة، بكامل قوّته حتّى في المؤسّسات البحثيّة في الدّول الغربيّة. واليوم يبحث العديد من الباحثين عن طرق جديدة لتسخير الفيروسات، لمحاربة الالتهابات البكتيريّة.

على الأقلّ من حيث الإمكانات، يجب أن تتمتّع العاثّيّات بالعديد من المزايا مقارنةً بالعلاجات الرّوتينيّة بالمضادّات الحيويّة. أوّلًا وقبل كلّ شيء، يبدو أنّها آمنة تمامًا للاستخدام، لأنّها متخصّصة في إصابة البكتيريا، والّتي تختلف تمامًا عن الخلايا البشريّة. لذلك من المرجّح أنَّ الآثار الجانبيّة الّتي تسبّبها ستكون قليلة ومعتدلة. وفي المقابل، فإنَّ العلاج المطوّل بالمضادّات الحيويّة، أو استخدام جرعات عالية منها، قد يؤدّي إلى تلف الكبد والكلى والجهاز الهضميّ.

إضافة إلى ذلك، فإنَّ العلاج بالعاثّيّات هو علاج مُستهدَف ضدّ بكتيريا معيّنة، ولا يضرّ بالمجموعات البكتيريّة المفيدة. علاوةً على ذلك، فهو مفيد أيضًا ضدّ البكتيريا الّتي طوّرت مقاومة للمضادّات الحيويّة.

لكن للعاثّيّات عيوب أيضًا. أوّلًا، لتطوير علاج يعتمد عليها، يجب تحديد البكتيريا المسبّبة للمرض لدى كلّ مريض - وهي ليست مهمّة بسيطة دائمًا. بعد ذلك، يجب إيجاد العاثّيّات الّتي تناسبه - وهي عمليّة معقّدة وطويلة تتطلّب عزل العاثّيّات من مياه الصّرف الصّحّيّ أو مسح بنوك العاثّيّات. وفي الخطوة التّالية، يجب تنظيف عيّنة العاثّيّات جيّدًا من بقايا البكتيريا، التي قد تضر المريض أو تؤدي إلى استجابة مناعية خطيرة. إنّها عمليّة طويلة ومعقّدة لإنتاج دواء فيروسيّ يناسب كلّ مريض، ممّا يجعل العلاج مكلِفًا للغاية، ويجعل استخدامه صعبًا.

بالإضافة إلى ذلك، ما زلنا لا نعرف ما يكفي عن العواقب والآثار الجانبيّة المحتملة للعلاج بالعاثّيّة. هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث قبل أن نتمكّن من تقييم سلامة العلاج وفعاليّته. إذا لم يكن هذا كافيًا، يبدو أنَّ البكتيريا تطوّر مقاومة بسرعة ضدّ العاثّيّات، وبالتّالي يفقد الدّواء فعاليّته. يحاول الباحثون اليوم تطوير استراتيجيّات لتحييد المقاومة، وعزل العاثّيّات الّتي طوّرت "مقاومة ضدّ المقاومة"، أو استخدام مزيج من عدة أنواع من العاثيات، بحيث يتمكّن بعضها على الأقلّ من اختراق خطوط دفاع البكتيريا. وفي النّهاية، يتعرّف جهاز المناعة البشريّ أيضًا على العاثّيّات كعامل غريب، وينتج أجسامًا مضادّة ضدّها ممّا يضعف فعاليّتها.

تحاول العديد من شركات التّكنولوجيا الحيويّة التّعامل مع هذه الصّعوبات، وتجري تجارب سريريّة كبيرة على علاجات العاثّيّات. يزدهر مجدّدًا إنتاج العاثّيّات في جورجيا وأماكن أخرى، ويبدو أنَّ هذه الفيروسات الصّغيرة ستساعد في حلّ مجموعة متنوّعة من المشكلات الصّحّيّة في المستقبل، مثل مقاومة المضادّات الحيويّة والأمراض المرتبطة باختلال التّوازن في مجموعات البكتيريا المعويّة.

وفي خطابه في حفل توزيع جائزة نوبل عام 1960، أعلن العالم البريطاني بيتر مدوار (Medawar) أنَّ الفيروسات هي "أخبار سيّئة في غلاف بروتينيّ". لو عرف العاثّيّات كما نعرفها اليوم، فربّما كان قد عدّل كلماته وأضاف: "لكنّ العاثّيّات؟ العاثّيّات هي فرصة في غلاف البروتين".

 

0 تعليقات