يحرص الإنسان على بناءِ مأوىً له، ويختلف شكله والموادّ المستخدمة فيه من مكانٍ إلى آخر ومن زمنٍ إلى آخر. فماذا عن عالم الأحياء؟ نوَجّه أنظارنا في هذا المقال إلى المباني الخاصّة الّتي تُنشئُها الحيوانات: الأعشاش والسُّدود والمباني الّتي تُقامُ لإثارة إعجاب الآخرين.

قليلٌ منّا من يُنشئون بيوتهم بأيديهم في عصرنا هذا؛ فهم بحاجةٍ إلى مقاولين ومهنيّين متنوّعين. لكنّ الأمر في الطبيعة مختلف؛ حيث تُقيمُ حيواناتٌ كثيرة إقامةً دائمةً أو مُؤقّتةً في مبانٍ تُنشِئها هي بِأنفسها. تبني الحيوانات أحيانًا مبانٍ غير مُعدّة للسكن بتاتًا وإنّما تكون بمثابة لافتة للترويج الشخصيّ: شاهدوا ماذا بوسعي فعله!

نعرض في هذه المقالة خمسة نماذج من عالم الأحياء، حيث تُنشىء هذه الكائناتُ مبانٍ غيرَ عاديّة. وهذه الخمسة هي طائرٌ ذو ميول فنّيّة متطوّرة، وطائر آخر يبني عشوشًا ضخمةً تتشارك فيها مئات من أفراد الطيور، وحشرات تتحكّم بتبادل الهواء وبِدرجة الحرارة داخل المباني الّتي تُنشئها، وحيوانٌ ثديي يُحدِث تغييراتٍ في البيئة المحيطة ليُوفّر لنفسه ظروفًا مثاليّةً، وحتّى سمكةٌ ترسم رسوماتٍ باللون الأزرق. 

أعراش طائر التّعريشة

نبدأ بعصفورٍ اكتسب اسمه من المباني الّتي يقيمها: طائر التعريشة الّذي يعيش في غابات أستراليا وغينيا الجديدة. لا تبني ذكور التعريشة الأعشاش لتربّي الفراخ فيها وإنّما تقيمها وتُزيّنها لغاية واحدة فقط - لإثارة إعجاب الإناث لِتختارهم أزواجًا لها. من طيور التعريشة ما يبني، كما يُفهم من الاسم، مبانٍ تشبه العرش، وتكتفي طيور أخرى بإقامة ما يشبه الجادةَ لها جدران، جانباها مصنوعان من الأغصان، تتمشّى فيها الأنثى وتفحص جودة البناء والزخرفات الّتي في الساحة بشكل خاصّ. 

لا تكمن مهارة طائر التعريشة في إنشاء المبنى بحدّ ذاته وإنّما في الطريقة الّتي يُزيّن بها قطعة الأرض المجاورة للمبنى، حيث يرقص رقصة المغازلة. تُفضّل الأنواع المختلفة ألوانًا مختلفة: الرُّخَيْم (Ptilonorhynchus violaceus)، مثلًا، مولعٌ باللون الأزرق. يجمع الرُّخيم الأزهار الزرقاء، والخنافس الزرقاء الميّتة، وأغطية الزجاجات وأغلفة الحلوى وشظايا الزجاج أو الأجسام البلاستيكيّة ذات اللون المناسب في المناطق المجاورة لسكنى البشر. ريش ذكر الرُّخيم له لمعان معدنيّ أزرق غامق، ومن المحتمل أن يكون الهدف من اختيار الزينة الزرقاء إبراز هذا اللمعان وتشديده، أو أنّه يُحبّ هذا اللون لا أكثر.

סוכי משיי לצד אוסף החפצים הכחולים | Dr P. Marazzi, Science Photo Library
يقوم بتزيين الساحة لإثارة إعجاب الأنثى. في الصورة: رُخيم بين مجموعة من الأشياء الزرقاء | Dr P. Marazzi, Science Photo Library

أوهام العظمة

 يصل طول طائر التعريشة الكبير (Chlamydera nuchalis)، وهو الأكبر من بين هذا النوع من الطيور، إلى 40 سنتيمترًا- نعم، "الكِبر" نسبيٌّ للغاية. تبني ذكور التعريشة جادةً وتُرصِّع السّاحة الّتي في آخرها بالحجارة وأصداف الحلزونات ذات اللون الأبيض المائل إلى الرماديّ بحيث تغطّي الأرض بالكامل تقريبًا. تضع الطيور على هذه الساحة المُرصَّعة بعض الأجسام ذات اللون البارز. لا تكمن المهارة الحقيقيّة لِطائر التعريشة الكبير في اختيار الألوان وإنّما في الشكل الّذي يضع به البلاط الأبيض. اكتُشف قبل بضع سنين أنّ هذه الطيور تُكوّن وهمًا بصريًّا. 

بيّنَ باحثون أستراليّون من خلال الدّراسة الّتي نشروها سنة 2010م أنّ طيور التعريشة تضع الحجارة والأصداف الصغيرة دائمًا على جوانب الجادة ثمّ تكبر شيئًا فشيئًا كلّما زاد بعدها عن الجادة. عكسَ الباحثون ترتيب "حجارة الرصف" في 15 مبنى ووضعوا الحجارة الكبيرة على جوانب الجادة لِيفحصوا فيما إذا كان هذا التنظيم مقصودًا أم أنّه محض الصدفة. كان ردُّ فعل الذكور أن قامت بإعادة الترتيب إلى ما كان عليه- معظمها فعلت ذلك خلال ثلاثة أيّام وأتمّت جميعها ذلك خلال أسبوعين. لم يبقَ هناك مجال للشكّ أنّ ذلك ليس محض صدفة إطلاقًا. لماذا تفعل هذه الطيور ذلك؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال ولا تُزوّدنا ذكور التعريشة بالإجابة. يمكن، مع ذلك، أن نحاول فهم كيفيّة تأثير هذا الترتيب فيما تراه الأنثى. عندما تقف الأنثى في الجادة وتنظر من موقعها، حين يَعرض الذكر مغازلته، فإنّها ترى بالرصيف المرتّب من الأصغر إلى الأكبر وهمًا يُسمّى منظورًا قسريًّا. يؤدّي هذا الوهم إلى أن تبدو الساحة أصغر ممّا هي بالفعل وذات رصيف أكثر تجانسًا. 

إنّنا لا نعرف لماذا تُكوّن الذّكور هذا الوهم. من المحتمل أنْ يبدو الذّكر الّذي يرقص رقصة المغازلة على السّاحة أكبر، من خلال المقارنة. يعمل الوهم مهما كان السبب: تُفضِّل الإناث التزاوج مع الذكور الّذين تكون ساحاتهم أكثر ترتيبًا وتُكوّن الوهم الأشدّ.

סוכי ענק | B. G. Thomson, Science Photo Library
يُرصّع الجادة الّتي يبنيها بالحجارة والأصداف من الصغير إلى الكبير. في الصورة: طائر التعريشة الكبير | B. G. Thomson, Science Photo Library

العُشّ التشاركيّ

حائك مؤنس (Philetairus socius) هو طائر آخر يبني مبانٍ غير اعتياديّة ويعيش في جنوب غرب إفريقية. يصف اسمه الطريقة الّتي يبني بها أعشاشه: يحيكها من الأعشاب الطويلة في السافانا الإفريقيّة ويفعل ذلك بالتشارك مع كثير من الطيور الحائكة الأخرى من نفس النوع. يصل ارتفاع هذه الأعشاش الكبيرة إلى أربعة أمتار، وقد تُستخدم بيوتًا لأكثر من مائة زوج من الطيور الحائكة الّتي تُربّي فراخها الواحد بجانب الآخر. تبدو الأعشاش عن بُعد كومةَ قشٍّ كبيرة مبنيّة، لسبب أو لآخر، على غصن شجرة أو على عمود كهرباء. وتظهر فيها، عند الاقتراب منها، فتحات كثيرة تقود إلى غرف التعشيش المختلفة. لكلّ زوج من العصافير غرفة خاصّة به لها مدخل منفصل. 

تعيش طيور الحائك في أعشاشها وتعتني بها على امتداد السنة كلّها بخلاف الكثير من الطيور الأخرى الّتي تبني أعشاشها في موسم التكاثر فقط. تُحافظ الغرف، عميقًا داخل المبنى المصنوع من الأعشاب، على درجات حرارة مريحة وثابتة حتّى عندما تكون الحرارة عاليةً جدًّا في الخارج، وكذلك في ليالي الصحاري الباردة إذ تنخفض درجة حرارة الجوّ إلى ما تحت الصفر المئويّ. تتيح هذه الظروف المجال لطيور الحائك وضع البيض عِدّة مرّات في السنة. ليس ثمّ موسم مفضّل للتكاثر لدى قسم من مجموعات الطيور: تضع الإناث بيوضها، بدلًا من ذلك، كلّما نزلت كميّة كافية من الأمطار جالبةً معها الحشرات الّتي تُستخدم غذاءً للفراخ وللآباء. تساعد الطيور الصغيرة، أحيانًا، أبويْها في تربية إخوانها الصغار، كما تعتني في بعض الحالات بفراخ أزواج أخرى من المجموعة ليست بالضرورة من عائلتها.

קן של אורג שתפן | Peter Chadwick, Science Photo Library
تتشارك أفراد كثيرة من الطيور وتحيك الأعشاش الكبيرة. في الصورة: عشّ الحائك المؤنس | Peter Chadwick, Science Photo Library

الضيف غير المدعوّ

تنتقل أعشاش الحائك المؤنس من جيل إلى جيل، ويقوم كلّ زوج بدوره في ترميم غرفته وتقوية العشّ كلّه، فتبقى الأعشاش قائمةً عشرات السنين. تطمع العصافير الأخرى بهذه الأعشاش وتستخدمها بدلًا من بناء عشّ خاصّ بها. الصقر القزم (Polihierax semitorquatus) هو مثالٌ على ذلك، إذ لا يُعشّش تقريبًا إلّا في أعشاش الحائك المؤنس في المناطق الّتي يعيش فيها بجواره. غالبًا ما يسكن الصقر القزم في إحدى الغرف المتاحة قريبًا من طرف العشّ بينما تسكن طيور الحائك في الغرف الأخرى في العشّ.

الصقر القزم طائرٌ جارح صغير يتغذّى على الحشرات والزواحف. ويبدو أنّ طيور الحائك تتحمّل وجوده في معظم الحالات - فهو لا يضايقها وهي لا تضايقه. مع ذلك، قد يفترس الصقر العصافير الصغيرة بما فيها فراخ الحائك، خاصّةً إذا لم يجد فريسةً أخرى. يثير ذلك، كما هو متوقّع، التوتّر بين الغازي وبين أصحاب العشّ الشرعيّين. أُجرِيَت دراسة في جنوب إفريقية أظهر فيها الباحثون كيف اضطُرَّ حوالي عشرون حائكًا من الّذين عاشوا في غرفهم داخل أعشاشهم بجانب زوج من الصقر القزم إلى مغادرة العشّ والانتقال إلى عشّ آخر. لم يشاهد الباحثون الصقور تلتهم فراخًا من العشّ، إلّا أنّ فراخ وبيوض الحائك الّتي كانت موجودة في أربع غرف داخل العشّ قد "اختفت" جميعها عند وصول الباحثين إليها: لم يَطِر أيٌّ من الفراخ من العشّ في موسم التكاثر. قد تكتنف البناء الموفّق والمتكامل سلبيّة أنّه يجذب إليه الضيوف غير المدعوّين.

בזון גמדי | Dr P. Marazzi, Science photo Library
لا يحافظ الصقر القزم الّذي يستوطن في عشّ الحائك المؤنس دائمًا على حُسْن الجوار| Dr P. Marazzi, Science photo Library

بُناة التِّلال (الأَكَمات)

ننتقل من العصافير إلى الحشرات، ونُوجِّه أنظارنا صوب البنّائين الماهرين الّذين ينشئون البنايات الكبيرة والمتينة الّتي قد يبلغ قطرها ثلاثين مترًا. إنّه النمل الأبيض بالطبع، بناة الأكَمات. أصبحت التلال الترابيّة الكبيرة الّتي تعلو عن سطح الأرض الجافّة ليصل ارتفاعها مترًا واحدًا أو أكثر مَعلمًا مشهورًا لِلسفانا الإفريقيّة. يمكن العثور على أكمات النمل الأبيض في أماكن كثيرة، من أستراليا وحتّى جنوب أمريكا. تثير هذه المباني إعجابًا كبيرًا بمجرد النظر إليها من الخارج، إلّا أنّ فهم الإنجازات المعماريّة للبُناة الصغار يستدعي النظر إلى الداخل. النمل الأبيض حشرات اجتماعيّة تدير نمط حياة شبيه بنمط حياة النمل العادي على الرغم من أنّها تنتسب لعائلات مختلفة. ينشغل ملك وملكة المستوطنة بالتزاوج ووضع البيض فقط في حين يَعتني العمّال والعاملات بالبيوض واليرقات الّتي تفقس منها. نعم، عمّالٌ أيضًا، إذ يوجد ذكور وإناثٌ ضمن طبقة العاملين لدى النمل الأبيض- بخلاف النمل العادي. ويوجد جنود من الجنسين يقومون بالدفاع عن المستوطنة من الغُزاة. قد يتجاوز مجمل تعداد النمل الأبيض داخل التلّة الكبيرة المليون. يحوي قسم من التلال، عدا عن الحشرات، المحاصيلَ الّتي يعمل النمل الأبيض على تربيتها: الفطريّات الّتي تنمو داخل الغرف تحت الأرضيّة.

תל טרמיטים | daguimagery, Shutterstock
تعلو تلال النمل الأبيض فوق الأرض وقد يتجاوز ارتفاعها مترًا واحدًا وتقطن فيها أكثر من مليون نملة | daguimagery, Shutterstock

رئات النمل الأبيض الأرضيّة

قد لا تبدو تلّة النمل الأبيض بالنظرة الأولى سِوى كومة من التراب حُفرت بعض القنوات داخلها. إلّا أنّ الحقيقة أكثر تعقيدًا. يبني النمل الأبيض بيته بشكل مميّز يضمن تهوية المستوطنة الضخمة والحفاظ على درجة حرارة مريحة. فحص باحثون من الولايات المتّحدة الأمريكيّة تلال النمل الأبيض من النوع Odontotermes obesus، ووجدوا أنّ الحشرات تستخدم تغيّر درجات الحرارة بين الليل والنهار لتحفيز عمليّة تبادل الغازات داخل العشّ- إخراج ثنائي أكسيد الكربون وإدخال الأوكسجين "الطازج". يبني هذا النوع من النمل الأبيض تلالًا يعلو منها ما يشبه "المدخنة" المركزيّة تصل إلى فراغ كبير داخل التلّة لكنّها بدون فتحة مركزيّة نحو الخارج. تتّصل ممرّات ضيّقة أكثر بالمدخنة ومن حولها. تُسخّن الشّمس الهواء داخل العشّ خلال النهار إلّا أنّها تُسخّن الأجزاء الخارجيّة بشكل خاصّ. يتصاعد الهواء نتيجةً لذلك عبر الممرّات الضيّقة ويعود إلى الدّاخل من خلال المدخنة المركزيّة. أمّا في الليل فيكون الجزء المركزيّ أكثر سخونةً من المناطق الّتي حوله فيجري الهواء بالاتّجاه المعاكس. يخرج غاز ثنائي أكسيد الكربون من خلال الثقوب الصغيرة الّتي في الجدران عندما يُضغطُ نحو الممرّات الضيّقة. 

يقول لكشمينريانان ماهاديفان (Mahadevan) كبير الباحثين الموقّعين على المقال: "يمكن لِتغيّرات درجة الحرارة بين النهار والليل تحريك الهواء بشكل لا يختلف كثيرًا عمّا تفعله الرئتان"، ويتابع: "يمكن القول إذًا إنّ التلّة 'تتنفس' مرّة واحدةً في اليوم". 

اكتشف باحثون بريطانيّون، ركّزوا على نوع آخر من النمل الأبيض، أنّه توجد وظيفة مهمّة لمبنى حيطان التلّة. تملأ الحيطانَ ثقوبٌ صغيرةٌ جدًّا وبينها ثقوب أكبر قليلًا متّصلة فيما بينها، فهي، أي الحيطان، ليست محكمة الإقفال. يمكن أن ينطلق غاز ثنائي أكسيد الكربون إلى الخارج ويدخل الأوكسجين من خلال القنوات الضيّقة المتكوّنة. تتيح هذه الشبكة من الثقوب تجميع المياه الّتي قد تتراكم في العشّ بعد المطر، كما يُشكِّلُ الهواء المحبوس داخلها عاملًا عازلًا ويحافظ على درجة حرارة ثابتة نسبيًّا داخل التلّة.

מראה תל טרמיטים מבפנים | Sally Bensusen, Science Photo Library
يتيح مبنى المِدخنة المركزيّة والممرّات الّتي تتّصل بها تبادل الغازات داخل التلّة. في الصورة: تلّة النمل الأبيض من الداخل. | Sally Bensusen, Science Photo Library

غموض تحت الماء

ننتقل من التلال الّتي تبرز فوق سطح الأرض إلى تحت سطح الماء- نحو الحلقات الدّائريّة الغامضة المرسومة في الرمل. لاحظ غوّاصون في سنة 1995م وجود حلقات دائريّة ليس بعيدًا عن اليابان. يبلغ قطر هذه الدوائر مترَيْن تقريبًا، وفي مركزها ما يشبه المتاهة المبنيّة من تلال منخفضة من الرمل، بينها قنوات ضحلة. تنطلق من المتاهة إلى الخارج تلال رمليّة أعلى قليلًا. يُذكّرُنا هذا المبنى بمجمله إلى حدٍّ ما بـِ"حلقات المحاصيل" الّتي نراها أحيانًا في الحقول والّتي ينسبها البعض خطأً للكائنات الفضائيّة الغريبة. 

بقيت هذه الحلقات بمثابة لغز لمدّة تزيد عن 15 عامًا إلى أن تمّ اكتشاف بُناتها المجهولين: إنّها سمكة من عائلة الأسماك الينفوخيّة، تلك المُسمَّاة عندنا بِـ "السمكة المنتفخة"، من نوع السمكة المنتفخة ذات البقع البيضاء (Torquigener albomaculosus). تسبح هذه الأسماك الصغيرة الّتي يصل طولها إلى 12 سنتيمترًا بالقرب من قاع البحر المرّة تلو الأخرى على مدار عِدّة أيّام وتخفق بزعانفها وذلك لتكوين الحلقات الكبيرة. وتُزيّن الأسماك أحيانًا الحلقات بالأصداف. 

يبدو أنّ ذكور الأسماك يستخدمون الحلقات الّتي يصنعونها للمغازلة: تضع الأنثى بيضها بعد التزاوج في الرمل الطريّ في مركز الحلقة. من المحتمل أنّه، كما في حالة مباني طيور التعريشة، تختار إناث الأسماك المنتفخة الذكرَ الّذي يصنع الحلقة الأجمل والأكثر إثارة وإعجابًا. 

אמנות מעגלית על קרקעית הים | ויקיפדיה, נחלת הכלל
تصنع السمكة " المنتفخة" الصغيرة الحلقات بواسطة خفق زعانفها كجزء من عمليّة المغازلة. في الصورة: فنّ الحلقات الدائريّة في قاع البحر | ويكيبيديا، مُتاحٌ للجميع 

سؤال من الأعماق 

قال ألِيكس جوردان (Jordan)، باحث الأسماك الأمريكيّ الّذي لم يشترك في هذه الدراسة، لموقع Live Science إنّه اعتقد، عند سماعه عن الحلقات الدائريّة لأوّل وهلة، أنّ سمكةً أكبر بكثير هي الّتي صنعت هذه المباني. وتابع ألِيكس: "إنّ حقيقة بناء الحلقات من قِبل أسماك صغيرة رائعة حقًّا. يشير ذلك إلى دافع بيولوجيّ لبناء هذا الحجم الكبير، مثل مجال الرؤية المنخفض في أعماق البحر أو البعد الكبير بين الأفراد الّذي يُحتّم على الذّكورصُنعَ أعشاشٍ كبيرة لِتستطيع الإناث العثور عليها بسهولة". 

وُجدت مثل هذه الدوائر لأوّل مرّةٍ قبل عامَيْن بعيدًا عن شواطئ اليابان، بجانب أستراليا، وكانت أكثر عمقًا إلى حدٍّ كبير. شوهدت 21 حلقة مثل هذه الحلقات الدائريّة على عمق حوالي 130 مترًا- في حين بَنَت الأسماك الّتي في اليابان أعشاشها على عمقٍ وصل إلى حوالي 30 مترًا "فقط". هل الأسماك الأستراليّة الّتي تبني الحلقات الدّائريّة هي من نفس نوع الأسماك الّتي تبنيها في اليابان أو من نوع قريب؟ لم يُعرَف ذلك بعد. 

تقول إليزابيث فورسغرن (Forsgren)، عالمة البيولوجيا النّرويجيّة الّتي لم تشترك في الدّراسة لِموقع Science News "إنّه من غير المتوقّع أن نرى الحلقات الدّائريّة على عمقٍ قليل الضّوء". كيف يمكن للإناث أن ترى هذا العشّ الجميل الّذي بُنِيَ من أجلها في هذه الأعماق المُظلِمة؟ لا إجابة عن هذا السؤال أيضًا. يبدو أنّ الاكتشاف في شواطئ أستراليا جعلنا نسأل أكثر بكثير من كوننا نوفّر الإجابات. 

نشاهد في الفيديو التالي الصادر عن الــ BBC ذَكَر السمكة المنتفخة ذات البقع البيضاء يبني حلقةً دائريّة:

سدودٌ وأوكار

هيّا بنا نعود من أعماق البحار ومن قسم الحشرات إلى قسم الثدييات. لا تمتاز الثدييات، عدا عن بعض الشواذّ منها وعلى رأسها الإنسان، في البناء وهي تختار عادةً حفر الجحور والأوكار لتوفير مكان السكنى. القُندس (البنّاء) هو أحد الثدييات الشاذّة، إذ يبني له بيتًا مثيرًا للإعجاب وقد مُنِح اسم البنّاء بفضل مهارته في البناء. يعيش القندس، وهو من القوارض الكبيرة، في الماء إلّا أنّه لا يقتات على الأسماك وإنّما على الأوراق وقشور الأشجار. يوجد نوعان من القندس، القندس الكنديّ (Castor canadensis)، الّذي يعيش في الولايات المتّحدة الأمريكيّة أيضًا (بالرغم من اسمه)، والقندس الأوروبيّ (Castor fiber)، الّذي يمكن أن نجده في شمال قارّة آسيا أيضًا. 

إنّ ما قد تعرفونه عن القندس هو أنّه يبني السُّدود. يتيح السّدّ تكوُّن بركةٍ هادئة يزيد عمق الماء فيها عن 60 سنتيمترًا. قد يتنازل القندس عن عناء بناء السدّ إذا كان الجدول عميقًا وهادئًا بما يكفي ليتّخذ من ضفافه بيتًا. أمّا في الحالات الأخرى فيجرُّ القندس فروع وأوراق الشجر والحجارة الكبيرة وكلَّ ما يتوفّر في محيطه ويغرسها داخل الوحل ليبني السدّ. يتراوح طول السدّ غالبًا بين بضع وعشرات الأمتار، وقد بلغ طول أطول سدٍّ وُجد في ألبرتا في كندا نصف كيلومتر. يحفر القندس قناةً جانبيّة يواصل الجدول المائيّ جريانه من خلالها ولا يتوقّف توقّفًا تامًّا عند السدّ. لا يسكن القندس في السدّ ذاته وإنّما يُقيمُ له جزيرةً صغيرةً من فروع الشجر داخل البركة الّتي أنشأها، وفيها وكرٌ للسكنى. تكون المداخل إلى هذا الوكر من تحت الماء أمّا الوكر ذاته فهو فوق الماء طبعًا، فيكون محميًّا من الحيوانات المفترسة البرّيّة. 

סכר ולצידו מגורים של בונה |  Michael Giannechini, Science Photo Library
يتّضح لنا شيئًا فشيئًا دور حيوان القندس في المنظومة البيئيّة (الإيكولوجيّة)، بعد أن اعتُبِر سابقًا حيوانًا ضارًّا تعرّض للصيد والقنص. في الصورة: مكان سكنى القندس بجانب السدّ | Michael Giannechini, Science Photo Library

عدوٌّ أم صديق؟

كان الاعتقاد السائد لسنوات كثيرة أنّ القندس حيوانٌ ضارٌّ يهدم الوديان بسدوده الّتي يقيمها فيها ويَحدُّ من حركة الأسماك، مثل أسماك السلمون، خلال صعودها إلى أعالي تيّار الوادي لتضع بيوضها. تمّ اصطياد القندس دون رحمة وفُكّكت سدوده وأُزيلت من جداول الوديان أينما وجدت. لقد اعتُبِرت حيوانات القندس، وما زالت تُعتبَر في أعين الكثيرين، عوامل هدّامة يجب إقصاؤها بل إزالتها كليّةً. 

كشفت الدراسات الّتي أُجرِيت في السنوات الأخيرة عن وجه مغايرٍ بل معاكس تمامًا لهذا الاعتقاد السائد. لا تعيق السدود حركة الأسماك في جداول الوديان، كما تُشكّلُ البرك الّتي يُنشئها القندس موطنًا مثاليًّا لصغار الأسماك: بهدوئها وبرودة مائها مقارنةً بالمناطق الأخرى. أقام الباحثون مثلًا، خلال دراسةٍ أُجرِيت في أوريغون، مبانٍ تشبه السدود من عوارض خشبيّة وضعوا بينها فروع الأشجار، على أمل أن ينقُلَ القندس مكان سكناه إليها ويبني السدّ على هذه الأساسات. زادت حيوانات القندس من فعاليّتها في هذه المناطق فعلًا كما لوحِظ في الوقت ذاته ازدياد كبير في أعداد أسماك تراوت قوس قزح (Oncorhynchus mykiss) الصالحة للأكل.

توصّل العلماء في الجانب الآخر من المحيط الأطلسيّ أيضًا إلى استنتاجات مشابهة. لقد انقرض القندس من بريطانيا قبل مئات السنين بسبب صيده بعد أن كانت غنيّةً بهذا النوع من الحيوانات في الماضي. يحاول البريطانيّون الآن إعادة القندس بعد أن أظهرت الدّراسات أنّ السدود الّتي يبنيها تدعم المنظومة البيئيّة. تفيض الوديان الّتي يعيش فيها القندس وتغمرُ محيطها بسبب العواصف، وفقًا لدراسة أُجرِيت سنة 2017م، أقلّ كثيرًا من الوديان الأخرى. تتّضح شيئًا فشيئًا أهميّة البرك والقنوات الّتي ينشئها القندس في الحفاظ على الماء والدَّوْر الّذي تلعبه في مكافحة أزمة المناخ. لا يقتصر ذلك على تقليل غمر المياه للمحيط بل يُسهّلُ الأمور عند حصول القحط - وهما ظاهرتان تعاظم حدوثهما في أعقاب الأزمة المناخيّة. 

تقول إميلي فيرفَكس (Fairfax)، عالمة البيولوجيا الأمريكيّة الّتي تبحث في آثار القندس، لِسايانتيفيك أميريكان: "إذا وضعنا هناك القنادس وتركناها تفعل ما اعتادت أن تفعله، فإنّ عدد الأشياء الّتي يمكنها فِعلها لصالح المنظومة الإيكولوجيّة والتأثير الإيجابيّ في التغيّرات المناخيّة كبير جدًّا، وليس ذلك مكلفًا فَالقندس يعمل دون مقابل". 

لخّصَ مايكل بولوك (Pollock)، الّذي يعمل لصالح مديريّة المحيطات والجوّ في الولايات المتحدة الأمريكيّة (NOAA)، في مقابلة أجرتها معه مجلّة أتلانتك: "يقيم القندس محيطًا معقّدًا ويزيد من التنوّع البيولوجيّ المحلّيّ بشكل غير اعتيادي حقًّا". وواصلَ: "ما يقوم به القندس من عملٍ في إدارة هذه المنظومات الإيكولوجيّة هو أفضل كثيرًا ممّا نفعله نحن". 

فيما يلي فيديو فاكس يعرض أهمّيّة القندس لِلمنظومة الإيكولوجيّة:

 

 

0 تعليقات