يعاني روّاد الفضاء في البعثات الفضائيّة من مشاكل في التّوازن، اضطرابات بصريّة، إصابة في عضلة القلب وتآكل في العظام. كيف يمكن تجنّب هذه المشاكل وضمان هبوط روّاد الفضاء بسلام من بعثاتهم المطوّلة في الفضاء؟
في بداية شهر آذار 2016، عاد رائد الفضاء سكوت كيلي إلى الأرض، محطِّماً الرّقم القياسيّ لأطول مكوث فضائيّ لرائد فضاء أمريكيّ - 340 يومًا. كان هدف مهمّته في محطّة الفضاء الدّوليّة هو تعميق فهمنا لاستجابة جسم الإنسان للظّروف الفضائيّة القاسية وكيفيّة التّأقلم معها، من أجل الاستعداد لمهامّ بحثيّة مأهولة على القمر، وربّما أيضًا على الكويكبات والمرّيخ في نهاية المطاف وتقليل المخاطر المتوقّعة أن تنجم جرّاء هذه المهام. كيف يستجيب الجسم للبيئة الفضائيّة، ما هي المشاكل الّتي تنجم فيها وكيف يمكن مواجهتها؟
التّأثيرات الصّحّيّة للمكوث في الفضاء
كتب المغنّي ديفيد بوي في قصيدته Space Oddity، واصفًا تجربة رائد الفضاء توم: "I am floating in a most peculiar way" (أنا أحلّق بطريقة غريبة). وبالفعل، فإنّ الفرق الرّئيسيّ بين الفضاء والأرض هو الجاذبيّة المنخفضة جدًا في الفضاء، الّتي تسبّب شعورًا بانعدام الوزن أو فقدان الجاذبيّة، النّابع من وجود المركبة الفضائيّة أو محطّة الفضاء (وفيها رائد الفضاء) في وضعيّة سقوط حرّ باتّجاه مركز الأرض. السّقوط الحرّ هو حركة جسم المتأثّرة فقط من قوّة الجاذبيّة. بما أنّه تدور المركبة أو المحطّة الفضائيّة حول الأرض تحت تأثير الجاذبيّة فقط (لا توجد مقاومة للهواء في الفضاء)، فهما في حالة سقوط حرّ. سبب عدم "السّقوط" والحركة في مدار دائريّ هو أنّ قوّة الجاذبيّة معامدة لاتّجاه السّرعة الأوّليّة المعطاة، بحيث تغيّر من اتجاه السرعة فقط وليس من حجمها.
يتدرّب روّاد الفضاء على أدائهم تحت ظروف انعدام الجاذبيّة في طائرة تحلّق في مسار قوسيّ (مكافئ) خاصّ. تساهم التّدريبات على أدائهم في الفضاء ولكن ليس بإمكانها أن تمنع التّأثيرات الضّارة لانعدام الجاذبيّة على الصّحّة. تُظهر الدّراسات الّتي أُجريت على الأشخاص الماكثين في محطّات الفضاء لفترات طويلة أنّ بعض التّأثيرات هي مؤقّتة وأخرى هي طويلة الأمد.
يؤدّي المكوث القصير تحت ظروف انعدام الوزن ل "متلازمة التّأقلم مع الفضاء" (Space adaptation syndrome) أو "مرض الفضاء" (Space sickness)، وهي المشكلة الأكثر شيوعًا في رحلات الفضاء. يؤثّر انعدام الوزن على الإدراك المكانيّ ويتطلّب منّا تكييف الكثير من عملياتنا الفسيولوجيّة مع الظّروف الجديدة- خاصّةً العمليّات الّتي يلعب فيها جهاز التّوازن في الجسم دورًا. في حال كانت عمليّة التّأقلم غير كاملة يعاني روّاد الفضاء من الغثيان، الدّوار، التّقيّؤ، الصّداع، التعب، التّوعّك، الأوهام البصريّة وانعدام التّوجّه/ الإدراك المكانيّ.
كان أول من أبلغ عن مثل هذه الأعراض هو رائد الفضاء السّوفييتي جيرمان تيتوف، الّذي كان الرّائد الرّابع على الفضاء في رحلته في أواخر عام 1961، والثّاني بعد يوري جاجارين الّذي تمكن من إتمام دورة حول الأرض. تظهر البيانات الّتي جُمِعت منذ حينها أنّ حوالي %45 من روّاد الفضاء يعانون من مرض الفضاء. ومع ذلك، نادرًا ما يستمرّ المرض لأكثر من ثلاثة أيام إلى أن يعتاد الجسم للبيئة الجديدة.
يؤدّي التّعرّض الطّويل لظروف انعدام لجاذبيّة لمشاكل صحّيّة عديدة، بما في ذلك إعادة توزيع السّوائل وفقدان العظام والعضلات. مع الوقت، يمكن لهذه التأثيرات أن تضعِف أداء روّاد الفضاء، تزيد من خطر إصابتهم، تقلّل من قدرة امتصاصهم للأكسجين وتبطئ نشاط القلب والأوعية الدّمويّة.
إعادة توزيع السّوائل في الجسم
تتجمّع سوائل الجسم، الّتي تشكّل حوالي %60 من وزنه، في الجزء السفليّ بتأثير قوّة الجاذبيّة. عبر التّطوّر، نشأت أجهزة في الجسم الّتي توازن تدفّق الدّم إلى القلب والدّماغ عند الوقوف. تستمرّ هذه الأجهزة في العمل حتّى في حالة نقص الجاذبيّة، ممّا يؤدّي إلى تجميع السّوائل في الجزء العلويّ للجسم. هذا هو سبب انتفاخ وجوه روّاد الفضاء. يحجب تجميع السّوائل في العينين أيضًا الرّؤية، لعدّة أيام أحيانًا، إلى أن يتعلّم الدّماغ بالتّعويض عن ذلك وتصحيح الصّورة.
تظهر التّغييرات في توزيع السّوائل أيضًا في مشاكل التّوازن، بالإضافة إلى فقدان حاسّتي الطّعم والرّائحة. والأهمّ من ذلك، هي تؤدّي إلى سلسلة من التّأثيرات الجهازيّة الّتي تهدف إلى تكييف الجسم مع البيئة الجديدة، إلّا أنّها ذات عواقب وخيمة عند العودة إلى الأرض. مثلًا، "عدم تحمّل حالة الوقوف"، والّتي تتجلّى في عدم القدرة على الوقوف دون مساعدة لأكثر من عشر دقائق متتالية دون الإغماء.
تنبع هذه الظّاهرة، جزئيًّا، من تغييرات تحدث في عمليّة تنظيم ضغط الدّم بواسطة الجهاز العصبيّ الذّاتيّ وفقدان حوالي %20 من حجم سائل الدّم، بما أنّه في ظروف انعدام الجاذبيّة لا نحتاج إلى الأجهزة الّتي تحافظ على ضغط الدّم، ويتمّ توزيع السّوائل بشكل متساوٍ في جميع أنحاء الجسم يتفاقم هذا التّأثير كلّما طالت مدّة المكوث في الفضاء، إلّا أنّه يعود جميع روّاد الفضاء إلى حالتهم الطّبيعيّة في غضون أسابيع قليلة من الهبوط على الأرض.
بالإضافة، تضمر عضلة القلب تدريجيًّا نتيجة وجود حجم أصغرمن الدّم للضّخّ. يسبّب ضعف عضلة القلب انخفاضًا في ضغط الدّم ويمكنه أن يصعّب على تدفق الأكسجين إلى الدّماغ.
التّدريب البدنيّ المنتظم ضدّ تأثير المقاومة مهمّ للحفاظ على كتلة العضلات والعظام في ظروف انعدام الجاذبيّة | الصّورة: وكالة ناسا
ضمور العضلات وتخلخل العظام
يعتبر فقدان كتلة العضلات وكتلة العظام أحد التّأثيرات الرّئيسيّة طويلة الأمد لانعدام الوزن. في حالة نقص الجاذبيّة، لا يشغَّل/ لا تأثير للوزن على عضلات الظّهر أو عضلات السّاقين اللّازمة للوقوف، ولذا فهي تبدأ في الضّعف والضّمور. يضمر بعضهم بسرعة. يفقد روّاد الفضاء ما يصل إلى %20 من كتلة عضلاتهم، في غضون 11-5 يومًا، إذا لم يواظبوا على التّدريبات بانتظام.
تفقد العظام حوالي %1.5 من كتلتها تحت ظروف انعدام الجاذبية، بما أنّه لا يشغل عليها أيّ ضغط. بينما يفقد الإنسان السّليم في ظروف طبيعيّة حوالي %3 من كتلة عظامه في العقد. يؤثّر فقدان كتلة العظام بشكل أساسي على الفقرات السّفليّة من العمود الفقريّ، مفصل الورك وعلى عظمة الفخذ. بسبب التّغيّر السّريع في كثافة العظام، يمكنها أن تصبح هشّة وتظهر عليها أعراض مشابهة لمرض هشاشة العظام (اوستيوبروزيس).
تتغيّر أيضًا عمليّات هدم وبناء العظام في الفضاء. تتمّ عمليّة هدم وتجديد العظام على الأرض باستمرار من خلال نظام متوازن المكوّن من الخلايا الهادمة (النّاقضة) والخلايا البانية للعظام. مع كلّ عمليّة هدم للعظام، هناك طبقات جديدة تحلّ مكانها، وتكون العمليتان (الهدم والبناء) مترافقتان معًا. أمّا في الفضاء فهناك زيادة في نشاط الخلايا الهادمة للعظام بسبب نقص الجاذبيّة، وتتحلّل العظام إلى معادن يمتصّها الجسم.
أظهرت الدّراسات الّتي أُجريت على الفئران أنّه بعد مكوثهم 16 يومًا تحت ظروف نقص الجاذبيّة، هناك ارتفاع في عدد الخلايا الهادمة للعظام وانخفاض في عدد الخلايا البانية، بالإضافة إلى انخفاض في مستوى هورمونات النموّ الّتي تساهم في بناء عظام جديدة. أدّى ارتفاع مستويات الكالسيوم في الدّم، نتاج العظام المتحلّلة، إلى تكلّس خطير في الأنسجة الرّخوة (اللّيّنة) وإلى زيادة احتماليّة تكوّن حصى في الكلى.
شهد روّاد الفضاء ارتفاعًا في نشاط الخلايا الهادمة للعظام، خاصّةً في منطقة الحوض، الّتي تحمل معظم وزن الجسم في ظروف الجاذبيّة العاديّة. ومع ذلك، على النّقيض من مرضى هشاشة العظام، عادةً ما يستعيد روّاد الفضاء الّذين مكثوا في الفضاء لمدّة ثلاثة- أربعة أشهر كثافة العظام الطّبيعيّة خلال عامين- ثلاثة أعوام بعد الهبوط على الأرض.
طرق التّعامل مع تأثيرات نقص الجاذبيّة
أفضل طريقة لتجنّب التّأثيرات النّاجمة عن ظروف نقص الجاذبيّة هي خلق ظروف للجاذبيّة الاصطناعيّة. حتّى الآن، تمكّن العلماء من خلق مثل هذه الظّروف فقط في المختبر، بواسطة إنتاج حقول مغناطيسيّة فائقة القوّة، فوق المستوى المسموح به وفقًا لمعايير السّلامة/ الأمان، ممّا يجعله أمرًا لا يمكن تطبيقه في الرّحلات الفضائيّة. ومع ذلك، تستخدَم الجاذبيّة الاصطناعيّة في الخيال العلميّ. على سبيل المثال، في فيلم "The Martian"، كان في المركبة الفضائيّة لكوكب المرّيخ مبنى حلقيّ يدور،تصل الجاذبيّة في محيطه إلى نسبة %40 من الجاذبيّة على الأرض، ما يشبه الجاذبيّة على الكوكب الأحمر (المرّيخ).
يمكن للأدوية المستخدَمة لعلاج دوار البحر، والّتي تنتج أيضًا عن نمط حركيّ غير عاديّ للجسم، أن تساعد أيضًا في علاج مرض الفضاء، ولكنّها نادرًا ما تستخدم فهناك أفضليّة للتّأقلم الطّبيعيّ للجسم خلال الأيّام الأولى في الفضاء، عن النّعاس والأعراض الجانبيّة الأخرى للدّواء.
ومع ذلك، عندما يرتدي روّاد الفضاء البدلة الفضائيّة، يلصقون على جلدهم ملصقات مضادّة للغثيان، لأنّ القيء داخل البدلة يمكن أن يكون خطرًا حتّى الموت. عادةّ ما يتمّ ارتداء بدلات الفضاء عند الإنطلاق والهبوط، وفي كلّ فعاليّة خارج المركبة (كالمشي في الفضاء). لكي يتمكّن الطّاقم من التّأقلم لظروف الفضاء، لا يتمّ تخطيط أنشطة خارج المركبة أو المحطّة الفضائيّة خلال الأيّام الأولى من المهمّة. هكذا يتمّ تجنّب خطر القيء داخل البدلة وعادةّ ما تكون الملصقات ليست إلّا احتياطيّة.
لتجنّب بعض التّأثيرات السّلبيّة لنقص الجاذبيّة على العضلات، وخاصّةً على عضلة القلب، تمّ تجهيز محطّة الفضاء الدّوليّة بأجهزة رياضيّة تمكّن الطّاقم من ممارسة تمارين مقاومة، لتقليل أعراض نقص الجاذبيّة. يُطلب من كلّ رائد فضاء ممارسة ساعتين رياضة على الأقلّ في اليوم، تشمل الرّكض على جهاز المشي (وهم مرتبطون به بواسطة أشرطة مطاطيّة لئلّا يحلّقون)، ركوب الدّراجات، رفع الأثقال مع مقاومة الرفّاصات طبعًا. يرتدي روّاد الفضاء في المهام الطّويلة سروالًا خاصًّا يضغط على عظام السّاقين ويقلّل من الانخفاض في كثافة العظام.
تستعين وكالة ناسا بوسائل حاسوبيّة متقدّمة لكي تفهم ما هي أفضل طريقة للحدّ من ضمور عضلات وعظام روّاد الفضاء عند المكوث الطّويل تحت ظروف نقص الجاذبيّة. على وجه الخصوص، يتمّ استعمال المحاكاة الحاسوبيّة لتقييم تأثيرات التّمارين على قوى الالتواء (عزم الدوران) لمفاصل العظام، لتوصية روّاد الفضاء بأفضل نظام تمارين.
نأمل أنّ المعلومات الّتي جُمِعت عن سكوت كيلي خلال مكوثه المطوّل في الفضاء ستلقي الضّوء أكثر على تأثير نقص الجاذبيّة على الصّحّة، ويمكنها أن تمنع العديد من المشاكل الّتي يواجهها روّاد الفضاء عند العودة إلى الأرض. تتميّز مهمّة سكوت في مدّتها الطّويلة، الّتي تتيح فحص تأثيراتها لمدى أطول ممّا تعرّضوا لها روّاد الفضاء في مهام سابقة.
أغنية ديفيد بوي، Space Oddity
الترجمة للعربيّة: د. ريتا جبران