تساهم الأجهزة الصّغيرة المزروعة في الجهاز العصبيّ المركزيّ في تمكين الصّمّ من السّمع، المكفوفين من البصر، والمقعدين من المشي. وهذه مجرّد البداية، فنحن بالاتجاه الصّحيح لقراءة الذّكريات وتحسين قدرات الإنسان.

تخيّل للحظةٍ أفضل آلة حاسبة يمكنك تخيّلها على الإطلاق: آلة تتمتّع بقدرة هائلة على فكّ شفرة المعلومات والذّاكرة، كما تتمتّع بقدرة تعليم ذاتيّ والتّعرّف على قدرات جديدة تمامًا. هناك عيب واحد فقط في آلتنا الرّائعة - فهي محصورة في صندوق مظلم، واتّصالها الوحيد بالعالم الخارجي هو من خلال مجموعة من أجهزة الاستشعار والأذرع التي يمكنها تفعليها. إذا انقطعت إحدى اتّصالاتها بالعالم الخارجيّ، ستفقد وظائف مهمّة، وبالواقع ستبقى محصورة داخل الصّندوق المظلم. لا نقصد هنا نسخة مطوّرة من ChatGPT، بل الدّماغ البشريّ والجهاز العصبيّ. بهذه الطّريقة، يمكننا تحرير الدماغ من قيود الجمجمة البشريّة، وهي الصّندوق الّذي يسجنه. يُطلق على هذه التّقنيات اسم "واجهات الدّماغ والحاسوب"، وعلى الرّغم من الصّيغ المتقدّمة لـ"السّايبورغ" (cyborg) أو "الكائن السّيبرانيّ" الّذي يدمج بين واجهات بشريّة وآليّة - كائن حي في الأساس، استطاع استعادة وظائفه بواسطة دمج أجزاء آليّة- إلّا أنّها موجودة بيننا منذ أكثر من 40 عامًا.

لا تعتبر واجهات الدّماغ والحاسوب جديدة. تسمح التّطوّرات الحديثة في هذا المجال، بمستويات متفاوتة من النّجاعة،  للأشخاص ذوي الإعاقة بأن يمشوا، يبصروا، يسمعوا أو يتكلّموا. بالإضافة إلى ذلك، هناك جهد مستمرّ لتطوير التّقنيات الّتي من شأنها تحسين قدرات الدّماغ، بشكل يتجاوز الحالة الطبيعيّة. قبل أن نتحدّث عمّا يمكن لواجهات الدماغ والحاسوب القيام به، دعونا نفهم قليلًا عن كيفيّة عملها، وما الّذي يمكّن عمليّة "قراءة" العقل.

حاسوب يسمح للأشخاص الصّمّ بالتواصل باستخدام العقل. فيديو حول بحث من جامعة كاليفورنيا (باللّغة الإنجليزيّة):

أساس الاتّصال بين الخلايا العصبيّة هو الإشارات الكهربائيّة، والّتي تُسمّى "جهد الفعل" (Action Potential). يتأثّر معدّل إرسال الإشارات وقوّتها بالمدخلات الّتي تصل الخليّة العصبيّة، والنّشاط الّذي يحدث في بيئتها. يتيح لنا قياس معدّل إرسال الإشارات الكهربائيّة من الخلايا الحصول على معلومات حول نشاط الدّماغ. مع ذلك، يحتوي الدماغ البشري على حوالي 86 مليار خليّة عصبيّة، والّتي تنشط بتزامن مختلف. ولذلك، فإنّ قياس الإشارات الكهربائيّة النّاتجة عن خليّة عصبيّة واحدة، يُعدّ مهمّة معقّدة إلى حدٍّ ما.

مع ذلك، يُمكن قياس النّشاط الكهربائيّ لمجموعة من الخلايا معًا، في عدّة مناطق من الدّماغ، باستخدام فحص تخطيط كهربيّة الدّماغ (EEG)، الّذي طُوِّر عام 1924. يعتبر هذا الفحص غير اجتياحيّ، حيث يتمّ ارتداء نوع من الغطاء المرن على شكل قبعة، الّذي يتضمّن أقطابًا كهربائيّة تقيس التّغيّرات في النّشاط الكهربائيّ، لمناطق الدّماغ بأكملها. تتيح هذه التّقنية البسيطة مراقبة النّشاط الإجماليّ، للخلايا العصبية الموجودة بالقرب من الأقطاب الكهربائيّة، وخاصّة في المناطق القريبة من سطح الدّماغ، بالقرب من الجمجمة. لحسن الحظّ، تتوفّر هذه الخصائص في المناطق المسؤولة عن التّحكّم بالعضلات في الدّماغ- القشرة الحركيّة الأوّليّة (primary motor cortex)، أو القشرة أمام الحركيّة (premotor cortex). في أواخر سنوات الثّمانينات، طوّرت تقنيات تتيح قراءة إشارات الدّماغ، من مناطق الدّماغ المسؤولة عن تخطيط الحركة وحركة العضلات، وبناءً عليها، يتمّ اختيار أشياء أو كتابة الكلمات على الحاسوب. في الوقت الحاليّ، يعتبر مخطّط كهربيّة الدّماغ الخيار الأرخص والأبسط لقراءة إشارات الدّماغ، والّذي يسمح للأشخاص الّذين يواجهون تحدّيات جسديّة باستعمال فأرة الحاسوب، التّحكّم في الأذرع الآليّة، وحتّى الرّوبوتات بأكملها. على وجه التحديد، أظهر الباحثون أنّ هذه التّقنيات تسمح لهؤلاء الأشخاص بالتّحكّم في الهيكل الخارجيّ للرّوبوت، ممّا أعاد قدرتهم على التّحرّك في الفضاء بحُرّيّة نسبيّة. مع ذلك، فإنّ سلبيّات هذه الطّريقة أنّها ليست دقيقة، وتتطلّب تثبيت مجموعة من الأقطاب الكهربائيّة على الرّأس دون حركة، الأمر الّذي يمنعها من أن تصبح حلًّا دائمًا في معظم الحالات.


الخيار الأبسط لقراءة إشارات الدّماغ. يوضّح الباحث كيفيّة التّحكّم في كرسيّ متحرّك كهربائيّ باستخدام غطاء تخطيط كهربيّة الدّماغ (EEG) | تصوير: PHILIPPE PSAILA / SCIENCE PHOTO LIBRARY

بالإضافة، يمكن التّواصل مع الدّماغ عن طريق إدخال أقطاب كهربائيّة مباشرة فيه. بالأساس، يمكن إجراء ذلك بطريقتيْن: توزيع العديد من الأقطاب الكهربائيّة الصّغيرة على سطح الدّماغ (مصفوفة متعدّدة الأقطاب الكهربائيّة - Multi electrode array)، أو زرع عدد محدود من الأقطاب الكهربائيّة الّتي تنغرس بعمق في الدّماغ (التّحفيز العميق للدّماغ - Deep brain stimulation). تسمح الأخيرة بالاتّصال المباشر مع عدد قليل من الخلايا العصبيّة، وتلقّي قياس دقيق للإشارات الكهربائيّة من خلية واحدة، أو من عدد محدود من الخلايا أثناء نشاط معيّن. بالإضافة إلى ذلك، تسمح هذه الطّريقة بإعادة الإشارات الكهربائيّة إلى خلايا الدماغ، وبالتّالي التّأثير على نشاطها، وهو أمر غير ممكن مع تخطيط كهربيّة الدّماغ. مع ذلك، من الواضح أنّ هناك سلبيّة كبيرة – تتطلّب هذه الطّريقة إجراء جراحة مفتوحة للدّماغ، مع كلّ المخاطر الّتي تنطوي عليها.

شخص مصاب بالشّلل، يتمكّن من المشي بمساعدة هيكل خارجيّ يعمل بواسطة تسجيل موجات دماغه. فيديو من شبكة Bloomberg (باللّغة الإنجليزيّة):

عندما يسمع الصّمّ

في سنوات السّتينيات، أصبحت استعادة السّمع للصُّمّ ممكنة بالفعل، بفضل الغرسة القوقعيّة الصّناعيّة (Cochlear implant). تمكّن هذه العمليّة إرسال إشارات مباشرة إلى العصب السّمعيّ في الأذن الوسطى، ممّا يسمح للصُّمّ بالسّمع. تعتبر هذه العمليّة ناجحة فقط إذا كان العصب السّمعيّ يعمل بشكل جيّد. فماذا إذا كان هناك تلف أو تنكّس في العصب السّمعيّ؟ في هذه الحالة، يمكن الاتّصال مباشرةً بجذع الدّماغ، ونقل الإشارات الكهربائيّة المناسبة إليه، لتمكينه من السّمع مرّةً أخرى. وليس غريبًا أن يكون هذا أحد الاستخدامات الأولى للأقطاب الكهربائيّة في الدّماغ، حيث ظهر لأوّل مرّة في عام 1979. في تلك الأبحاث الأوّليّة، قام الباحثون بتوصيل أقطاب كهربائيّة من البلاتين إلى جذع دماغ امرأة صمّاء، الأمر الّذي مكّنها من السّمع لأوّل مرّة، على الرّغم من أنّها لم تتمكّن من الحصول على غرسة قوقعيّة صناعيّة. أصبح السّمع ممكنًا بفضل حاسوب، قد ترجم الأصوات الّتي يلتقطها الميكروفون إلى إشارات تُنقل إلى جذع الدماغ، ومحاكاة عمل الخلايا العصبيّة في الأذن. حقّقت تلك الجراحة نجاحًا محدودًا للغاية، وذلك لأنّ القوقعة الصّناعيّة تتوقّف عن العمل بعد فترة، وتنتقل إلى مكان آخر. وبعد أن قام الباحثون والأطباء بتطوير الأساليب الجراحيّة وطرق تثبيتها، إلى جانب تحسينها صناعيًّا، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكيّة (FDA)، على استخدام هذه التّقنيّة على البشر في عام 2000. ومنذ ذلك الحين، أُجرِيت أكثر من 1000 عمليّة جراحيّة من هذا القبيل في جميع أنحاء العالم، لتمكين الصّمّ من السّمع.


يقوم الحاسوب بترجمة الأصوات إلى إشارات كهربائيّة وتقوم الغرسة بنقلها إلى الخلايا العصبيّة في جذع الدّماغ. جهاز يسمح بالسّمع حتّى لأولئك الّذين أُصيبوا بالصّمم بعد إصابة مدمّرة في الأذن الدّاخليّة | تصوير: DR P. MARAZZI / SCIENCE PHOTO LIBRARY

عندما يبصر للمكفوفين

كانت حاسّة السّمع هي الأولى الّتي تُستعاد بطريقة محوسبة، ولكنّها بالتّأكيد ليست الأخيرة. في عام 2002، أجريت عمليّة زرع متعدّدة الأقطاب الكهربائيّة لأوّل مرّة، والّتي رُبِطت بشبكيّة العين. مكّنت هذه العمليّة من استعادة البصر بشكل محدود لستّة مرضى، الّذين عانوا من التهاب الشّبكيّة الصّباغيّ (Retinitis pigmentosa)، وهو مرض نادر يصيب شبكيّة العين، ويؤدّي إلى العمى. نجح هؤلاء المرضى في التّمييز بين الضّوء والظّلام، واكتشاف حركة الأشياء، في مجال رؤية ضيّق للغاية. اليوم، تتيح مصفوفات الأقطاب الكهربائيّة الأكثر تطوّرًا إعادة بناء أجزاء كبيرة من حقل الرّؤية، وحتّى دمجها مع حقل الرّؤية الطّبيعيّ للمريض، في الحالات الّتي لم يؤثّر فيها مسبّب العمى على الأعصاب البصريّة. تتضمّن حاسّة البصر المستعادة مصفوفات من عدّة عشرات، إلى عدة مئات من "البكسلات-pixels" الّتي يراها المريض، مع ذلك، فإنّها ما تزال بعيدة كثيرًا عن الأصل. في آذار 2021، عُرضت زراعة الشّبكيّة لأوّل مرّة، والّتي تسمح باستعادة البصر بدقّة أفضل بكثير، وتحوي أكثر من 10000 أقطاب كهربائيّة، الّتي مرتبطة بشبكيّة العين. وتخضع هذه الزّراعة حاليًّا لإجراءات الموافقة قبل إجرائها على البشر.

تأسّست عمليّة استعادة البصر المبكّرة على وجود شبكيّة في العين، والتّي تحوي خلايا تمتصّ الضّوء، ثمّ تقوم بترجمته إلى إشارة كهربائيّة، تنتقل عبر الخلايا العصبيّة إلى المناطق البصريّة في الدّماغ، وكذلك تكون على اتّصال مباشر مع الألياف العصبيّة الموجودة هناك. في الحالات الّتي تتضرّر فيها العين بأكملها، أو يتعرّض العصب البصريّ للتّنكّس، ما يزال من الممكن استعادة البصر، من خلال التّواصل المباشر مع مركز الرّؤية في الدّماغ. في تشرين الأوّل 2021، قام باحثون من إسبانيا والولايات المتّحدة باستعادة البصر لامرأة مكفوفة، باستخدام مجموعة من 96 قطبًا كهربائيًّا مزروعة في منطقة القشرة البصريّة في دماغها. بعد 16 عامًا من العمى، وبفضل هذه العمليّة، تمكّنت المرأة من التّمييز بين الأسود والأبيض، والتّعرّف على الأشياء وحتّى الحروف. أصبح هذا الانجاز المذهل ممكنًا، بفضل الاتّصال المباشر بين الحاسوب الّذي يستقبل الصّور من الكاميرا، وعقل المريضة. يقوم الباحثون بترجمة الصّورة، الّتي يستقبلها الحاسوب من الكاميرا، إلى إشارات كهربائيّة تُنقل إلى دماغ المريضة، عبر مجموعة من الأقطاب الكهربائيّة، بحيث تُفك شفرتها في مركز الرّؤية لديها كإشارات بصريّة قادمة من العينين. لسوء الحظّ، نظرًا لأنّها تقنيّة تجريبيّة، أُزيلت المصفوفة من دماغ المرأة بعد حوالي ستّة أشهر.

بعد أربعة أشهر، تمّ تحقيق قفزة تكنولوجيّة إضافيّة عندما زُرِع جهاز لاسلكيّ يحوي 400 قطب كهربائيّ بشكل تجريبيّ. في هذه المرحلة، ما يزال المريض غير قادر على الرّؤية بواسطة الزّرعة، ولكن في المرحلة التّالية من التّجربة السّريريّة، والّتي لم تنته بعد، من المتوقّع أن يصل إلى هذا الإنجاز.


على الرّغم من التّقدّم الكبير، ما يزال هناك طريق طويل لنقطعه للحصول على رؤية محوسبة حقيقيّة للدّماغ. مكفوف بزراعة مصمّمة لاستبدال شبكيّة العين| تصوير: PHILIPPE PSAILA / SCIENCE PHOTO LIBRARY

المشي بمجرّد الفكرة

هناك استخدام شائع إضافيّ لزراعة أجسامٍ داخل الدّماغ عند وجود إصابات في الحبل الشّوكيّ، ما يُسمى بـ "الجسر التّكنولوجيّ". الحبل الشّوكيّ هو مجموعة من الأعصاب الّتي تربط المخّ بالجهاز العصبيّ المحيطيّ (Peripheral Nervous System)، وإصابة فيه قد تؤدّي إلى قطع الاتّصال بين الدماغ، وأعضاء الجسم الموجودة أسفل منطقة الإصابة. مع ذلك، تبقى بقيّة الخلايا العصبيّة سليمة، ممّا يتيح نقل إشارات الدّماغ مباشرةً إلى العضو المطلوب، بفضل هذه الزّراعة.

بالفعل في عام 2013، أثبِت أنّ الأطراف الآليّة يمكنها قراءة الإشارات، مباشرةً من الجهاز العصبيّ للمريض، وفي عام 2015، تمكّن الباحثون من استخدام مصفوفات الأقطاب الكهربائيّة، للسّماح لشخص مصاب بالشّلل من الرّقبة إلى الأسفل، بالتّحكّم في ذراع آليّة بواسطة التّفكير فقط. في العام التّالي، تمكّنت مجموعة أخرى من الباحثين من الاتّصال ثنائيّ الاتّجاه بين الذّراع الآليّة والدّماغ. حيث يستطيع المريض من التّحكّم في ذراعه وتحريكها، وكذلك تنقل الذّراع أيضًا الشّعور بالقوام المختلف، بالتّالي يسمح للمريض المصاب بالشّلل بتجربة حاسّة اللّمس.

قبل أقلّ من شهر، حدث أكبر تقدّم في هذا المجال، عندما تمكّنت مجموعة دوليّة من الباحثين بقيادة علماء من سويسرا، من استعادة القدرة على المشي لرجل مصاب بالشّلل، باستخدام غرسة في دماغه الّتي تنقل الإشارات مباشرةً إلى ساقيْه. تعتمد الغرسة أيضًا على مجموعة من الأقطاب الكهربائيّة، وتقوم بتسجيل إشارات الدّماغ في المنطقة المسؤولة عن المشي، ونقلها إلى مجموعة أخرى مزروعة في الحبل الشّوكيّ للمريض. لم تكن المشية مثاليّة، لكنّها سمحت للمريض بالتّحرّك باستخدام المشاية، والتّغلّب على العوائق الأساسيّة.


تعمل زرعة الدّماغ بمثابة "جسر تكنولوجيّ" بين الدماغ والحبل الشّوكيّ، بحيث يسمح للمصاب بالشّلل بالمشي، حتّى لو بمساعدة عكّازين أو مشاية. المريض المشترك في الدّراسة السّويسريّة | تصوير:  CHUV/Gilles Weber

قراءة العقل وتحسين الذّاكرة

لا تقتصر واجهات الدّماغ والحاسوب على تطبيقات الاستشعار والحركة فقط. توجّه الكثير من الجهود البحثيّة أيضًا إلى قراءة الإشارات الصّادرة عن الذّكريات والأفكار. بخلاف الحاسوب الّذي يحوي وحدة التّخزين الّتي تُدعى بـ"القرص الصّلب" (Hard Disk)، تتولّى أجزاء مختلفة من الدّماغ مسؤوليّة تخزين المعلومات في الذّاكرة، واسترجاع التّفاصيل منها. في شهر أيّار الماضي، نجح فريق من الباحثين من الولايات المتّحدة في فكّ شفرة الذّكريّات جزئيًّا، باستخدام فحص الرّنين المغناطيسيّ الوظيفيّ (fMRI) للدّماغ. يكتشف الفحص التّغيّرات في نشاط الدّماغ، عن طريق قياس استهلاك خلايا الدّماغ للأكسجين بشكل غير مباشر.

اعتمدت التّقنيّة الّتي طوّرها الباحثون على فكّ تشفير فريد لفحوصات مسح الدّماغ، باستخدام الذّكاء الاصطناعيّ. قام الباحثون بتدريب الذّكاء الاصطناعيّ على البيانات، الّتي جُمعت في عمليّات مسح الدماغ للأشخاص الذين تم سماعهم جمل معروفة مسبقًا. وفي الخطوة التّالية، أُدخِلت فحوصات الدّماغ النّموذجيّة الّتي أُجرِيت، أثناء سماع الأشخاص جملًا لم تكن مدرجة في مرحلة "التّعلّم" لنظام الذّكاء الاصطناعيّ. قام النّظام بتكييف أنماط نشاط الدّماغ عند التّفكير بكلمة معيّنة، وبالتّالي حاول فكّ تشفير الجمل الجديدة. كان فكّ التّشفير بعيدًا عن الكمال. نجح الذّكاء الاصطناعيّ في التّعرّف على بضع كلمات فقط من كلّ جملة، وحتّى إذا فهم المعنى العامّ للجملة، فإنّه لم يفسّرالكلمات بمعناها الدّقيق، أو قام بفكّ تشفير الكلمات بشكل خاطئ تمامًا. حتّى بالنّسبة لهذا الانجاز المتواضع، كان مطلوب من الباحثين تعليم الذّكاء الاصطناعيّ، فكّ تشفير أنماط نشاط الدّماغ لكلّ فرد بشكل منفصل، الأمر الّذي تطلّب من كلّ مشترك، أن يقضي ما يقارب 16 ساعة في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسيّ. بالتّالي، ما زلنا بعيدين عن فكّ التّشفير العام للذّكريات. 

على عكس فكّ تشفير الذّكريات، فإنّ تحسين الذّاكرة البشريّة لا يتطلّب معلومات حول الدّماغ بأكمله، حيث يمكن تحسين نوع معيّن من الذّاكرة بطريقة فوريّة. وهذا بالضّبط ما فعله الباحثون في عام 2018. شملت الدّراسة أشخاصًا مصابين بالصّرع، والّذين زرع في أعماق أادمغتهم أقطاب كهربائيّة لعلاج مرضهم. بالإضافة إلى العلاج نفسه، استخدم الباحثون أقطابًا كهربائيّة لتسجيل الاتّصالات الكهربائيّة، في أدمغة المرضى أثناء قيامهم بمهام الذّاكرة. ثمّ أعادت الأقطاب الكهربائيّة إرسال الإشارات المسجّلة خلال المهمّة الأولى إلى الدّماغ، وأظهر الباحثون أنّ تشغيل الأقطاب الكهربائيّة، قد نجح في تحسين ذاكرة الأشخاص بنسبة 35 بالمائة.

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في فك تشفير محوسب للذكريات، على الرغم من أننا لا نزال في بداية الطريق لذلك. فيديو عن دراسة فك رموز الذكريات (باللغة الانجليزية): 

نظرة للمستقبل

إنّ التّحسينات في تكنولوجيا رقائق الدّماغ، إلى جانب تحسين قدرات الحوسبة والذّكاء الاصطناعيّ تقرّبنا من المستقبل، حيث يمكننا فكّ تشفير الإشارات من الدّماغ، والتّغلّب على العديد من التّحدّيات، وحتّى رفع مستوى قدراتنا. إنّ الأمثلة التي قدمناها هنا ليست سوى غيض من فيض من الجهد العلمي لتطوير واجهات الدماغ والحاسوب وتحسينها. إنّ الواجهات الموجودة اليوم بعيدة كلّ البعد عن الكمال، لذلك، نحن محدودون في فهم الإشارات الموجودة في الدّماغ، وبعضها لا تُخزّن بالوسائل الكهربائية على الإطلاق. على وجه التحديد، هناك هياكل بروتينيّة وسكّريّة حول الخلايا العصبيّة،  والّتي تُسمى الشّبكة السّابقة للعصب (Perineuronal net أو باختصار PNN)، التي تقوم بتخزين الذّكريات كجزء من بنيتها. ولهذا السّبب، فإنّ التّقنيات الموجودة اليوم، وكذلك متضمّنات تقنية الأقطاب الكهربائيّة، لن تتمكّن من تحديد موقع الذّكريات المشّفرة بهذه الطريقة، أو حتّى معرفة وجودها. علاوةً على ذلك، رغم أنّ هناك معرفة جيّدة لتشفير الذّكريات وتخزينها باستخدام الإشارات الكهربائيّة، إلّا أنّنا لا نعرف سوى القليل جدًّا عن الشّبكة السّابقة للعصب، ممَّ تتكوّن، كيف تُبنى وتُفكّك، وما هي الذّكريات المخزّنة فيها.

كما يجب الأخذ بعين الاعتبار أنّ زراعة الرّقائق في الدّماغ ليست إجراءً بسيطًا، وتتضمّن العديد من مخاطر تلف الدماغ. ولهذا السّبب، فمن غير المرجّح أن تصبح هذه التّقنية شائعة في المستقبل القريب. كلّ هذا قبل أن نأخذ بعين الاعتبار الجوانب الأخلاقيّة، والسّلامة لزرع أجهزة دائمة في الدّماغ، والّتي لها اتّصال بجهاز الكمبيوتر. مثل أيّ منتج حاسوبيّ، قد يتعرّض هذا النّظام أيضًا للفشل، وحتّى لهجمات ضارّة من قراصنة الحاسوب (Hackers). في هذا السّياق، تجدر الإشارة إلى شركة "نويرالينك" التّابعة لإيلون ماسك (Elon Musk)، والّتي يتمثّل ابتكارها الرئيسيّ في جعل عمليّة زرع شرائح الدّماغ المعقّدة تلقائيّة، وجعل شرائح الدّماغ لاسلكيّة. ورغم حصول الشّركة مؤخّرًا على موافقة مبدئيّة لإجراء تجارب على البشر، إلّا أنّها بعيدة جدًّا عن منافسيها الآخرين في مجال الواجهات الدّماغيّة، خاصّة في القدرة على التّعامل مع الإعاقة الحركيّة والبصريّة.

من ناحية أخرى، فإنّ التّحسينات في قدرتنا على قراءة الدّماغ بطريقة غير جراحيّة، ومعالجة الإشارات الواردة منه بمستوى أفضل، قد تسمح لواجهات الدّماغ والحاسوب بأن تكون وسيلة أخرى، من شأنها تعزيز قدراتنا البشريّة، لمعالجة محدوديّتنا وربّما حتّى السّماح لنا بدمج وعينا مع القدرات المتزايدة للذّكاء الاصطناعيّ.

يؤدّي الانفتاح الواسع والتّقدّم السّريع في هذا العالم، من خلال واجهات الدّماغ والآلة إلى إثارة أسئلة أخلاقيّة وقانونيّة، يتعيّن علينا التّعامل معها. هل يجوز قراءة الأفكار كأداة تحقيقيّة؟ هل من الممكن الموافقة على خضوع الأشخاص لعمليّات جراحيّة في الدّماغ لاحتياجات طبّيّة، بل لتعزيز قدراتهم؟ والأهمّ من ذلك، كيف يمكنك ضمان سلامة المستخدمين؟ حتّى اليوم، لا يوجد تشريع أو سياسة في هذا المجال، ويبدو أنّه سيتعيّن علينا قريبًا جدًّا أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار.

0 تعليقات