سمّ العقرب الأصفر، العقرب الّذي شوّه سمعة بقيّة العقارب الصّفراء، لا يساوي حقًّا 10 ملايين دولار للّتر. ولكن، في المستقبل، قد نتمكّن من استخدامه كعلاج للسّرطان
هل أخبرك أحدهم بأنّه لا يريد العيش في أستراليا بسبب كثرة الحيوانات السّامّة؟ إذا كان الأمر كذلك، فربّما لن يكون من المفضّل إخبارهم أنَّ البلاد مليئة أكثر بالحيوانات السّامّة الّتي تشكّل خطورة أو ضررًا على صحّة الإنسان: الثّعابين، العناكب، أسماك التّنّين، الأسماك الصّخريّة، الحلزونات المخروطيّة، أمّ أربعة وأربعين، قنديل البحر، وحتّى بعض أصناف متباينات الأجنحة (البقّ)، ولكن من بين كلّ هذه الحيوانات، ربّما يكون العقرب هو الحيوان الأكثر سمّيّة وخطورة في نظر النّاس.
جميع العقارب سامّة، لكن تأثير السّمّ على البشر يختلف من شخص لآخر. يوجد في إسرائيل حوالي 23 نوعًا: عقارب الرّمل، عقرب ذو العقلة، شبدعيّات والعقارب الصّفراء الشّائعة والمزيد. لكنّ قلّة منهم فقط تعتبر خطرة على البشر: ثلاثة أنواع من جنس العقرب العربيّ ذهنيّ الذّيل Androctonus، والنّوع الأكثر شهرة من بين عقارب البلاد - هو العقرب الأصّفر ذو العقلة السّوداء (Leiurus hebraeus).
في الماضي كان يُعتقد أنَّ هناك نوعًا واحدًا فقط من اللّوادغ في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولكن من المتعارف عليه اليوم أنَّ هناك خمسة أنواع من اللّوادغ تعيش في هذه المنطقة. تحتفظ هذه الأنواع الموجودة في إسرائيل باللّقب المغالط "العقرب الأصفر"، على الرّغم من أنَّ أكثر من نصف أنواع العقارب في البلاد صفراء. تعيش العقارب الصّفراء اللّادغة في المناطق الصّخريّة في جميع أنحاء البلاد، ويمكن التّعرّف عليها بفضل الفقرة قبل الأخيرة من بطنها الخلفيّ (العضو الّذي يشبه الذّيل)، والّتي تكون سوداء أو بنّيّة اللّون. على الرّغم من أنَّ هذه العلامة مألوفة، إلّا أنّها غير موثوقة، حيث أنَّ هناكَ حالات يكون فيها لون هذه الفقرة صفراء، ومن ناحية أخرى تظهر مثل هذا الفقرة غامقة أحيانًا في عقارب من أنواع أخرى أيضًا. لتحديد العقرب الأصفر اللّادغ بشكلٍ مؤكّد، يجب الاستعانة بكرّاس خاصّ (دليل المفصليّات)، والتّأكّد من وجود عدة ميزات معًا، وفي أفضل حال، استشارة اختصاصيّ.
تعيش خمسة أنواع مختلفة من العقارب الصّفراء اللّادغة في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، يُطلق عليها في إسرائيل لقب "العقرب الأصفر". اللّادغ الأصفر في وادي أشليم. الصّورة: إيغور أرمياش شتاينبرس
الذّعر من السّمّ
شهرة العقرب اللّاذع تتجاوز مدى انتشاره الطّبيعيّ. يسطع نجم اللّاذع في قوائم "أخطر العقارب في العالم" في الكتب وعلى الإنترنت، غالبًا إلى جانب أنواع من العقارب القاتلة والسّوداء. هذه القوائم من بين أسباب شعبيّته لدى مربّي العقارب الأليفة في أوروبا، أمريكا وأجزاء أخرى من العالم، الّذين يطلقون عليه اسم Deathstalker (الموت المتربّص). لتلبية الطّلب المتزايد على الحيوانات الأليفة الغريبة، يسافر هواة الجمع إلى دول شمال إفريقيا والشّرق الأوسط ويصدّرون منها، أحيانًا بشكل غير قانونيّ، الآلاف من العقارب الصّفراء اللّادغة الّتي جُمعت من الطّبيعة.
حدث ارتفاع حادّ في شعبيّة اللّادغ في العامين الماضيين، بعد انتشار مقالات في الصّحف ووسائل التّواصل الاجتماعي الّتي زعمت أنَّ سمّ العقارب، وخاصّة سمّ العقرب اللّادغ، هو أغلى السّوائل في العالم، حيث يتمّ بيعه مقابل 10 ملايين دولار للّتر الواحد. بعد هذه الأخبار، ظهرت العديد من الشّركات التّجاريّة الّتي عملت على استخراج سمّ اللّوادغ في مصر، المغرب وبلدان أخرى. في إيران، كان هناك اندفاع يشبه "الاندفاع نحو الذّهب"، بتشجيع من المحتالين الّذين عرضوا تعليم النّاس كيفيّة إنتاج السّمّ، وزوّدوهم بالمعدّات لمزارع العقارب. لكنّ آلاف الأشخاص الّذين أملوا تحقيق ثراءً سريعًا، اكتشفوا أنّه على الرّغم من ثمن اللّتر المرتفع، لم يكن هناك طلب كبير على منتوجهم. يتمّ استخدام سمّ العقرب في البحث ولإنتاج مصل مضادّ للسّمّ، وفي كلتا الحالتين يتمّ استخدام كمّيّات صغيرة من المادّة، يتم إنتاجها وفقًا لمعايير عالية وصارمة. تبيّن أنَّ السّمّ الّذي تمّ إنتاجه بطريقة غير مهنيّة، بدون التّفريق بين أنواع العقارب المختلفة، لا قيمة له.
في السّنوات الأخيرة، لجأ الكثيرون إلى تربية العقرب الأصفر اللّادغ بقصد الاستفادة من بيع السّمّ، لكنّهم وجدوا أنّه لا يوجد طلب على منتوج المربّين الهواة. العقرب الأصفر اللّادغ في وادي أشليم | الصّورة: إيغور أرمياش شتاينبرس
سمّ العقرب عبارة عن خليط من موادّ عديدة ذات خصائص مختلفة. تمّت دراسة مكوّنات السّمّ لفترة طويلة، ووجد أنَّ لبعضها استخدامات محتملة في الطّبّ. أحد هذه المكوّنات هو مادّة موجودة في سمّ العقارب اللّاذعة وتسمّى كلوروتوكسين (chlorotoxin) - وهو جزيء صغير يتكوّن من الأحماض الأمينيّة (اللّبنات الأساسيّة للبروتينات). يسبّب الكلوروتوكسين شلل قنوات الكلور، وهي الهياكل الموجودة في أغشية الخلايا والّتي تمرّ عبرها الأيونات المختلفة، وخاصّة أيونات الكلور. في سمّ العقرب، تُستخدم هذه المادّة لشلّ الفرائس - المفصليّات والفقاريّات الصّغيرة.
تُستخدم هذه المادّة في المختبر لغرضٍ آخر: لمحاربة نوع شائع من سرطان الدّماغ يسمّى الورم الدِّبْقِيّ. لا تنتج خلايا الدّماغ العاديّة عادةً قنوات الكلور، بالمقابل تنتج خلايا الورم الدّبقيّ هذه القنوات بكمّيّات كبيرة. يُستخدم الكلوروتوكسين كـ "كلب آثر"، إذ يجد الخلايا السّرطانيّة ويرتبط بها. يتمّ ربط جزيء الكلوروتوكسين بصبغة لون، وبالتّالي صبغ الورم بهذا اللّون فيمكن تمييزه عن الأنسجة السّليمة. بدلًا من ذلك، يمكن ربط جزيء الكلوروتوكسين بمادّة سامّة أو مادّة مشعّة، وبالتّالي استهداف الأنسجة الخبيثة والتّخلّص منها. قد يتحوّل سمّ اللّوادغ من جرعة قاتلة إلى عقار للحياة في السّنوات القادمة، لكن من المحتمل ألّا يتأثّر سوق تجّار العقارب جرّاء هذا التّحوّل، إذ أنّه منذ وقت طويل، يتمّ إنتاج الكلوروتوكسين المستخدم في الأبحاث بشكل اصطناعيّ.
يتمّ انتاج جزيء الكلوروتوكسين من سمّ اللّوادغ بحيث يعمل على شلّ فريسته. يتمّ استخدامه في الطّبّ كدواء ضدّ الأورام الدّبقيّة | Kateryna Kon, Science Photo Library
شعبيّة ضارّة
كما هو الحال في كثير من الأحيان مع حيوانات ونباتات أخرى، سبّب الارتفاع في شعبيّتها إلحاق الضّرر بالأنواع المختلفة من العقارب اللّادغة. تعتبر العقارب من الحيوانات المعمّرة، الّتي تتكاثر ببطء نسبيًّا مقارنة بمفصليّات الأرجل الأخرى. يمكن أنَّ تؤثّر إزالة أعداد كبيرة من العقارب من بيئتها الطّبيعيّة على النّظام البيئيّ بعدّة طرق. من بين التّغييرات الأكثر ترجيحًا، فرط تكاثر الحشرات الّتي تمّ استخدامها كغذاء للعقارب، وتضاؤل عدد الثّدييّات الّتي تتغذّى على العقارب. يمكن التّوقّع أنّه بعد مرحلة "هوس السّمّ" في العامين الماضيين، قد نجد أجزاءً من الصّحراء في البلدان المحيطة بنا خالية من العقرب لسنوات.
بالرّغم من السّمعة وكلّ العاصفة الإعلاميّة من حوله، فإنَّ العقرب الأصفر اللّاذع هو في النّهاية حيوان. يعيش تحت الصّخور ويأكل الصّراصير والعناكب ويحاول تفادي أن يؤكَل من قبل القنفذ أو الخفّاش. هو لا يهتمّ بقتلنا أو شفائنا أو مساعدتنا على تحقيق ثروة. على الرّغم من قيمته الهامّة للبشريّة، إلّا أنَّ قيمته الحقيقيّة كامنة في اعتباره جزءًا من الطّبيعة. في حال قابلناه في رحلة، علينا احترامه والابتعاد عنه، مع أخذنا بعين الاعتبار الإمكانات الكامنة الكثيرة في هذا الحيوان الصّغير والمميّز.