في عصرنا الرقميّ الحاليّ، يتعرض الأطفال بشكل متزايد لوقائع الحرب والأحداث المؤلمة الأخرى، ليس من خلال وسائل الإعلام التقليدية فحسب، إنّما أيضًا عبر منصات التواصل الاجتماعيّ. يمكن أن تكون لهذا التعرّض المستمر آثار نفسية عميقة، حتى عندما لا يكون الأطفال منكشفين على حدث بشكل مباشر أو عندما يكونون بعيدين جسديًا وجغرافيًا عن الحدث نفسه. يشير اضطراب ما بعد الصدمة غير المباشر (Indirect PTSD)، أو الصدمة الثانويّة (Secondary trauma)، إلى التأثير النفسيّ الذي يعاني منه الأفراد الذين يشهدون أو يتعلّمون عن أحداث مؤلمة او صادمة (Traumatic)، غالبًا من خلال شاشة.
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعيّ قوّة ثوريّة في الحياة الحديثة، حيث غيّرت الطريقة التي نتواصل بها، ونشارك بها المعلومات، ونتفاعل مع محيطنا. وأصبح لها حضورٌ مهيمنٌ في حياتنا جميعًا، وحياة الأطفال على وجه أخص، وغالبًا ما تعمل كنافذتهم الأساسية على العالم. تسمح منصات مثل TikTok و Instagram و YouTube بالانتشار السريع للأخبار، بما في ذلك الصور ومقاطع الفيديو المؤلمة من الأحداث العالمية مثل الحروب والكوارث الطبيعية وأعمال العنف. على عكس وسائل الإعلام التقليديّة، غالبًا ما يكون محتوى وسائل التواصل الاجتماعي "غير مفلتر"، ويفتقر إلى الأطر التنظيميّة التي من شأنها أن تحمي الأطفال عادةً من التعرض الضار بدون رقابة منظّمة. هذا يعني أن الأطفال يتعرضون لعدد أكبر من الأحداث المؤلمة وبشدّة أكبر، مما قد يؤدي إلى عواقب سلبيّة على صحتهم العقلية والنفسية.
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعيّ قوّة ثوريّة في الحياة الحديثة، حيث غيّرت الطريقة التي نتواصل بها، ونشارك بها المعلومات، ونتفاعل مع محيطنا. وأصبح لها حضورٌ مهيمنٌ في حياتنا جميعًا، وحياة الأطفال على وجه أخص | شترستوك
وبالتالي، يعرب العديد من الآباء والأمهات عن قلقهم بشأن عدم قدرتهم على حماية أطفالهم من الصور غير اللائقة أو العنيفة على هذه المنصّات. وجدت دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث أن ما يقرب من نصف الآباء قلقون بشأن آثار منصّات التواصل الاجتماعيّ على أبنائهم، خوفًا من أن تؤدّي إلى القلق أو الاكتئاب أو صعوبات عاطفيّة أخرى. على الرغم من بعض المحاولات لتطبيق الرقابة الأبويّة، فإن طبيعة وسائل التواصل الاجتماعيّ غير المنظّمة والواقعيّة تجعل من الصعب منع الأطفال من مواجهة المحتوى الضارّ.
ما هو اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)؟
اضطراب ما بعد الصدمة هو حالة اضطراب عقليّ ونفسيّ ناجمة عن التعرض لصدمة. قد تنطوي الصدمة على التعرّض لحالة تهدّد حياة الشخص، أو إصابة خطيرة، أو عنف جنسيّ، مما يؤدي إلى اضطراب في الحالة العاطفية والنفسية للشخص نفسه. يتميز اضطراب ما بعد الصدمة بحالة مستمرة من القلق المتزايد والذكريات المتطفلة والمتكررة والاضطرابات العاطفية التي يمكن أن تستمر لأشهر أو سنوات إذا لم يتم معالجتها. تم التعرف على اضطراب ما بعد الصدمة في البداية لدى الجنود، ولكن من المفهوم الآن أن هذه الحالة لا تقتصر على الجنود، انما يمكن أن تتطور لدى الأشخاص الذين واجهوا حوادث أو كوارث طبيعية أو إساءة. تحدد الجمعية الأمريكية للطب النفسي اضطراب ما بعد الصدمة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM-5)، حيث تحدد أن الأعراض يجب أن تستمر لأكثر من شهر وتسبب ضعفًا كبيرًا في الأداء اليومي لكي يتم التشخيص بهذه الحالة.
تُصنف أعراض اضطراب ما بعد الصدمة عادةً إلى أربع فئات: الأفكار المتطفِّلة، والتجنُّب، والتغيّرات السلبيّة في التفكير والمزاج، والتغيّرات في ردود الفعل الجسديّة والعاطفيّة.
-
الأفكار المتطفِّلة: غالبًا ما يعيش الأشخاص المصابون باضطراب ما بعد الصدمة الحدث المؤلم من خلال ذكريات تعود على نفسها أو الكوابيس أو الذكريات المؤلمة. يمكن أن يتسبّب تكرار هذه الأفكار في ضائقة كبيرة، مما يجعل من الصعب على الأفراد التركيز على المهام اليوميّة.
-
التجنُّب: قد يبذل الأفراد المصابون باضطراب ما بعد الصدمة جهودًا كبيرة لتجنّب الأماكن أو الأنشطة أو الأشخاص الذين يذكّرونهم بالتجربة المؤلمة. يمكن أن يشمل هذا تجنُّب المحادثات حول الصدمة أو الابتعاد عن الأماكن التي وقع فيها الحدث.
-
التغيُّرات السلبيّة في التفكير والمزاج: غالبًا ما يعاني الأشخاص المصابون باضطراب ما بعد الصدمة من تحولات سلبية في كيفية نظرتهم إلى أنفسهم والعالم. قد يشمل ذلك الشعور باليأس والانفصال عن الآخرين والشعور الشامل بالذنب أو الخجل. قد يفقدون أيضًا الاهتمام بالأنشطة التي كانوا يستمتعون بممارستها قبل ذلك، ويواجهون صعوبة في تكوين ذكريات إيجابية. يمكن أن تحدّ هذه التغييرات على المصاب من القدرة على الحفاظ على العلاقات والتواصل مع الآخرين على المستوى العاطفيّ وتؤدّي إلى العزلة الاجتماعيّة.
-
التغيّرات في ردود الفعل الجسديّة والعاطفيّة: غالبًا ما يؤدي اضطراب ما بعد الصدمة إلى زيادة أعراض الإثارة، مثل الشعور بالانزعاج بسهولة، والشعور المستمر "بالتوتّر"، أو صعوبة النوم. يمكن أن تشمل هذه الأعراض، المعروفة باسم "فرط الإثارة"، أيضًا الانفعال، أو الانفجارات العدوانية، أو السلوك المتهوّر. قد يشعر الناس المصابون بالقلق المستمر، وكأنهم في خطر، حتى في البيئات الآمنة.
يتميز اضطراب ما بعد الصدمة بحالة مستمرة من القلق المتزايد والذكريات المتطفلة والمتكررة والاضطرابات العاطفية التي يمكن أن تستمر لأشهر أو سنوات إذا لم يتم معالجتها | شترستوك
يمكن أن تحدث الصدمة في أي عمر. تشير الدراسات إلى أن حوالي 15% - 43% من الفتيات و14% - 43% من الفتيان يمرون بصدمة واحدة على الأقل. ومن بين هؤلاء الأطفال والمراهقين الذين تعرضوا لصدمة، يصاب 3% - 15% من الفتيات و1% - 6% من الفتيان باضطراب ما بعد الصدمة. وتكون معدّلات اضطراب ما بعد الصدمة أعلى في بعض أنواع الصدمات بشكلٍ خاص.
إن اضطراب ما بعد الصدمة هو حالة نفسيّة حادّة تؤثّر بشكل كبير على جودة حياة الأشخاص الذين تم تشخيصهم به، حيث يمكن لأعراضه أن تعطّل الأداء اليومي والرفاهية العاطفيّة لدى لمصاب. لذلك، فمن المهم زيادة الوعي تجاه هذا النّوع من الاضطرابات، وتيسير استراتيجيات الوقاية حيثما أمكن، وتوفير العلاج في الوقت المناسب للتخفيف من آثاره طويلة الأمد ومساعدة الأفراد على استعادة القدرة على السيطرة على حياتهم.
ماذا يحدث في الدماغ أثناء اضطراب ما بعد الصدمة؟
على مدى السنوات الأربعين الماضية، مكّنت الأساليب العلمية لـ"التصوير العصبي" العلماء من رؤية أن اضطراب ما بعد الصدمة يسبب تغيّرات بيولوجيّة مميّزة في الدماغ. لا يعاني كل المصابين باضطراب ما بعد الصدمة من نفس الأعراض أو نفس التغيرات الدماغية، ولكن هناك أنماط يمكن ملاحظتها ويمكن فهمها وعلاجها. في عام 2024، نشرت دراسة مراجعة تلخّص معرفتنا العلمية بالتغيّرات التي تحدث في أدمغة مرضى اضطراب ما بعد الصدمة.
أظهرت أبحاث التصوير العصبي (neuroimaging) أن البالغين واليافعين الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة يظهرون تغيّرات بنيويّة ووظيفيّة في مناطق الدماغ الهامّة لتعلّم الخوف والذاكرة، مثل اللوزة (amygdala) والحُصين (hippocampus). تشمل هذه التغييرات انخفاض حجم هذه المناطق وضعف التواصل في المادة البيضاء (White matter connectivity)، مما يشير إلى ضعف القدرة على تنظيم استجابات الخوف. تؤكد الدراسات الوظيفية على فرط النشاط في اللوزة وقلة النشاط في مناطق مثل القشرة الجبهية الأماميّة البطنيّة (ventromedial prefrontal cortex vmPFC)، والتي تعد ضروريّة للتنظيم العاطفيّ.
أظهرت أبحاث التصوير العصبي أن البالغين واليافعين الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة يظهرون تغيرات بنيوية ووظيفية في مناطق الدماغ المهمة لتعلم الخوف والذاكرة. صورة ت تشريحيّة لفصّي الدماغ تظهر فيها مناطق الدماغ المرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة | الصورة مأخوذة من المقال
هل يمكن تطوير اضطراب ما بعد الصدمة دون التعرّض المباشر للصدمة؟
الإجابة على هذا السؤال هي للأسف نعم! يمكن أن يتطوّر اضطراب ما بعد الصدمة لدى أشخاص وأطفال دون التعرض المباشر للحدث المؤلم أو الصادم. يشير مصطلح "الصدمة غير المباشرة" (Vicarious Trauma- VT) أو اضطراب الصدمة الثانويّ (Secondary Traumatic Stress) إلى أعراض الصدمة النفسية التي يعاني منها الشخص عند التعرّض لقصص مؤلمة أو صور مؤلمة أو أحداث صادمة حدثت لأشخاص آخرين. تم تقديم مصطلح الصدمة غير المباشرة من قبل Pearlman & Saakvitne في عام 1995 لوصف كيف قد تتغير وجهات نظر المهنيين للعالم سلبًا بعد التعرض المتكرر للصدمة.
في كتابهم، بيرلمان وساكفيتن (1995)، يركز الباحثون على التأثير النفسي للعمل مع الناجين من الصدمات ويقدم الكتاب للمرة الأولى أيضا مفهوم الصدمة غير المباشرة، موضحًا كيف يمكن للمعالجين والمهنيين الخضوع لتغييرات معرفية وعاطفية كبيرة بسبب التعرض المتكرّر لصدمات الأشخاص الذين يقدّمون لهم العلاج. يقدّم الكتاب رؤى حول كيف يمكن لهذه التغييرات أن تؤثر على نظرة المعالج للعالم ومعتقداته وأدائه المهني. منذ ذلك الحين، تم توسيع مفهوم الصدمة غير المباشرة ليشمل عددًا أكبر من الناس. على سبيل المثال، تُظهر الأبحاث اللاحقة تأثيرات مماثلة للصدمة غير المباشرة لدى الصحفيين، وتُظهر أن أولئك الذين يغطون الأحداث المؤلمة، مثل الحروب والكوارث والعنف، يمكن أن يعانوا من أعراض مماثلة لاضطراب ما بعد الصدمة. درس فينشتاين وآخرون (2002) وسميث وآخرون (2018) مراسلي الحرب ووجدوا أنهم أظهروا مستويات مرتفعة من اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب وتعاطي المخدرات بسبب التعرض المطول للصدمة. تؤكّد البيانات على المخاطر النفسيّة المرتبطة بالتعرّض المطوّل للمواد المؤلمة.
مفهوم الصدمة غير المباشرة لا يقتصر فقط على المهنيين، فغي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، ركزت الأبحاث النفسية على آثار التعرض الإعلامي للصدمات الجماعية (collective trauma). وقد ارتبط المشاهدة المستمرة للصور والقصص التلفزيونية المتعلقة بالهجمات بزيادة معدلات اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب بين سكان نيويورك والأشخاص في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وفي الأشهر التي أعقبت الحدث، أبلغ 17٪ من الأشخاص خارج مدينة نيويورك عن أعراض قلق حادة، بينما عانى 6٪ منهم من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة طويل الأمد. حتى الأطفال في أماكن جغرافية بعيدة عن الحدث نفسه، مثل لندن، الذين شاهدوا الحدث عبر شاشات التلفاز فقط، عانوا من أفكار تدخلية واضطراب ما بعد الصدمة وضعف الأداء. وهذا يوضح إمكانية حدوث ضرر نفسي وجسدي واسع النطاق من التعرض الإعلامي لحدث صادم او دامي. هذا التأثير كان واضحًا في سنة 2001، عندما لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة كما هي الحال اليوم وكان المصدر الرئيسيّ لمعلوماتنا يأتي من منصّات إعلاميّة تقليديّة منظّمة. اليوم، نحن في وضع أكثر تعقيدًا وقد باتت التأثيرات أكثر قوة.
انتشار إعلامي لهجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة. اظهرت الابحاث انه حتى الأطفال في أماكن جغرافية بعيدة عن الحدث نفسه، مثل لندن، الذين شاهدوا الحدث عبر شاشات التلفاز فقط، عانوا من أفكار تدخلية واضطراب ما بعد الصدمة وضعف الأداء | شترستوك
في هذا السياق، أظهر الباحثون أن وسائل التواصل الاجتماعيّ تشكّل عامل خطر رئيسيًا لإصابة الشخص بأعراض الصدمة، أو حتى تشخيصه باضطراب ما بعد الصدمة. يرتبط تكرار التعرّض للمعلومات المؤلمة أو المزعجة من خلال وسائل الإعلام بتطوّر القلق والأعراض المرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة. في حين أن ردّ الفعل الأولي لمشاهدة وسائل الإعلام التقليدية قد يسبّب أعراض قلق حاد، إلا أنها تقل عمومًا بمرور الوقت. التعرّض المتكرّر للمعلومات أو الصور المؤلمة قد يؤدي إلى تطور أعراض تدوم لفترة أطول وتصنف تحت مظلة ال PTSD.
في إحدى الدراسات التي هدفت إلى استكشاف آثار التعرّض لوسائل الإعلام على انتشار اضطراب ما بعد الصدمة بعد حدث صادم جماعي. أجريت الدراسة في فلوريدا بعد إطلاق النار في مدرسة باركلاند عام 2018، واستخدم الباحثون محاكاة مجهريّة لـ 118،000 عميل لنمذجة مستويات التعرّض للتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعيّ. قام النموذج بمحاكاة أنماط استهلاك وسائل الإعلام المختلفة داخل المجتمع. وجدت الدراسة أن التعرّض العالي للتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي زاد من انتشار اضطراب ما بعد الصدمة، مع زيادة المشاركة في وسائل التواصل الاجتماعيّ - وخاصة مشاركة الفيديو - مقارنة بالمشاهدة العرضيّة لوسائل الإعلام التقليديّة.
إن للأحداث المؤلمة تأثير حسيّ أعمق على الأطفال. وقد يتحطّم شعورهم بالأمان بسبب المحفّزات البصريّة المخيفة، والضوضاء الصاخبة، والحركات العنيفة، وغير ذلك من الأحاسيس المرتبطة بحدث مخيف لا يمكن التنبؤ به. وتميل الصور الصادمة إلى التكرار في شكل كوابيس ومخاوف جديدة وأفعال أو مسرحيات ذهنيّة تعيد تمثيل الحدث. وفي غياب الفهم الدقيق للعلاقة بين السبب والنتيجة، يعتقد الأطفال الصغار أن أفكارهم ورغباتهم ومخاوفهم لديها القدرة على أن تصبح حقيقية ويمكنها أن تجعل الأشياء تحدث. والأطفال الصغار أقل قدرة على توقّع الخطر أو معرفة كيفيّة الحفاظ على سلامتهم، وبالتالي يكونون عرضة بشكل خاص لتأثيرات التعرّض للصدمة.
لذا في ضوء هذه الأبحاث، وضوء الحرب الجارية والمحتوى الجرافيكي الذي يتعرّض له الأطفال عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ غير الخاضعة للرقابة، من المهم حماية أدمغتهم الصغيرة والحفاظ على سلامتهم النفسيّة. ومن الأمور الأساسيّة التي يمكن أن تساعد بالوقاية هي الحدّ من التعرّض للمحتوى العنيف، ومراقبة علامات التوتّر، او الصدمة، او أي تغيير جسديّ أو نفسيّ نراه بأصدقائنا او أطفالنا، وطلب المساعدة المهنيّة إذا لزم الأمر.
وإذا كنت تشارك المحتوى، فافعل ذلك بحذر ووعي لتجنب مفاقمة الأذى.