ستُمنح نصف الجائزة للباحثَين اللذين طوّرا نماذجَ لتنبؤ تغيّرات المناخ، في حين سيمنح النصف الاخر لباحث في مجال النُظم المعقَّدة

ستُمنح جائزة نوبل في الفيزياء هذا العام لثلاثة باحثين في مجال النظم المعقدة. حيث تقرّر منح نصف الجائزة الأول لكل من الياباني شوكورو مانابي (Manabe) والألماني كلاوس هاسلمان (Hasselmann) لتطويرهما نماذجَ  لتنبؤ التغيّرات المناخيّة، أما النصف الآخر فهو من نصيب الإيطالي جورجيو باريزي (Parisi) لإسهامه في تطوير نماذجٍ لبحث الأنظمة الإرتجافية على نطاقٍ واسع. فاز باريزي هذا العام بجائزة "وولف" لأبحاثه في الفيزياء النظرية، التي تُمكِّن من توقع ظواهر عديدة بدقة متناهية، بدايةً من سلوك الجسيمات في نواة الذرة وحتى أنظمة الكواكب.


مستوى عالٍ من التعقيد. من اليمين: مانابي، هاسلمان وباريزي | صورة توضيحية: موقع جوائز نوبل 

الغازات والدفيئة 

العامل الرئيسي للتأثير على المناخ هو الشمس. بدون الإشعاع الشمسي كنا سنتجمد في درجة حرارة تصل إلى درجات قليلة فوق الصفر المطلق (حوالي 273 درجة مئوية تحت الصفر). ومع ذلك، بدون الغلاف الجوي والاحتباس الحراري، كان معدل درجة حرارة الأرض سيصل إلى حوالي 18 درجة مئوية تحت الصفر، كنا سنحترق في كل مرة تشرق الشمس، ونتجمد مجددُا عندما غروبها. على القمر، على سبيل المثال، مع انعدام الغلاف الجوي، فإنّ فرق درجات الحرارة بين الليل والنهار يصل لقرابة الـ 300 درجة مئوية. 

تعمل أشعة الشمس على تدفئة الغلاف الجوي وسطح الكرة الأرضية عندما تمتصها، تبعث جزءًا من الطاقة مجددًا على هيئة أشعة تحت حمراء، أو أشعة حرارية. تُمتص بعض من الأشعة في داخل الغلاف الجوي أو تعكس مجددًا الى سطح الكرة الأرضية، وينبعث بعضه الآخر إلى الفضاء. طالما كانت كمية الأشعة العائدة إلى سطح الأرض مماثلة لكمية الأشعة المنبعثة منها، فلنّ نشهد احترارًا أو تبريدًا كبيرًا في المناخ العالمي. تقوم غازات الاحتباس الحراري، مثل، بخار الماء وثاني أكسيد الكربون، بامتصاص الأشعة تحت الحمراء، فيما يُعرف بإسم "تأثير الاحتباس الحراريّ"، هكذا يتم تغيير توازن الطاقة بين الإشعاع الشمسيّ المُمتص والإشعاع المُنبعث. ومع ذلك، فإنَّ التفاصيل الدقيقة لتأثيرات الاحتباس الحراري، وكيفية تأثيره على المناخ ككل، معقدة للغاية.

 أظهر مانابي من خلال أبحاثه، أنه من أجل فهم تأثير تركيز ثاني أكسيد الكربون على مناخ الكرة الأرضي، لا يكفي تحليل توازن الإشعاع، إنما من المهم أنّ نفهم بعمق حركة الهواء في الغلاف الجوي، وكذلك الأخذ في الحسبان الحرارة الكامنة والمخزنة في بخار الماء. يرتفع الهواء الساخن في حركة الانتقال (الحمل الحراري - Convection) إلى مناطق أكثر برودة، حيث يتكثف بخار الماء الذي يحتويه الى قطرات ويُطلق الحرارة الكامنة فيه. كلما كان الهواء أكثر دفئًا، يرتفع بشكلٍ أكبر، ويمكن أن يحوي بداخله بخار ماء أكثر. في البداية أكتشف مانابي نموذجًا مبسطًا، يتحرك فيه الهواء فقط للأعلى أو للأسفل، على امتداد 40 كيلومترٍ. بعد حسابات مطولة، أظهر أنَّ التغييرات في مستويات الأكسجين والنيتروجين في الغلاف الجوي ليست مهمة للمناخ، لكن مضاعفة مستويات ثاني أكسيد الكربون ستؤدي الى ارتفاع درجة الحرارة بحوالي درجتين مئويتين على سطح الأرض. بالإضافة إلى ذلك، بخلاف الاحترار الناتج عن التغيرات في الإشعاع الشمسي، أظهر النموذج أنَّ الزيادة في تركيز ثاني أكسيد الكربون تؤدي في الواقع الى تبريد الطبقات العليا للغلاف الجوي، مما يمكننا من التفرقة بين مصادر التسخين. 

لاحقًا، قام مانابي بدمج النموذج الخاص به بنموذج ثلاثي الأبعاد وحتى أنه اضافَ التأثيرات المتبادلة بين الغلاف الجوي والمحيطات. حتى يومنا هذا، تُعد هذه النماذج مكونًا أساسيًا في فهم وتنبؤ المناخ وحالة الطقس في الكرة الأرضية. وفق مانابي، فإنه من المستحيل التنافس مع تعقيدات الطبيعة، لذلك لكي نستطيع فهمها علينا أولًا إيجاد فرضيات تبسيطية ومناسبة. ووفقًا لمانابي، فإنَّ كل قطرة مطر هي نتيجة فيزيائية معقدة للغاية، بحيث لا يمكننا أبدًا حساب كل التفاصيل التي تركب النظام المناخي.

من نموذج بسيط إلى نظام معقد يتأثر بالعديد من المتغيرات. نموذج مانابي الأساسي لتأثيرات الاحتباس الحراري ترجمة من موقع جائزة نوبل
من نموذج بسيط إلى نظام معقد يتأثر بالعديد من المتغيرات. نموذج مانابي الأساسي لتأثيرات الاحتباس الحراري| ترجمة من موقع جائزة نوبل

الزجاج السائل والطيور المهاجرة

 

تُعد أنظمة الطقس والمناخ، كما ذكرنا، من بين أكثر الأنظمة تعقيدًا من الناحية الفيزيائية. تم وضع الكثير من الأسس النظرية لدراسة هذه الأنظمة من قبل الفيزيائي الإيطالي جورجيو باريزي من جامعة سابينزا في مدينة روما، والذي مكنت دراساته من فهم الظواهر المعقدة في الأنظمة التي تبدو فوضوية بشكلٍ أفضل.  

في سلسلة مقالات رائدة في مجالٍ آخر، غيّرَ باريزي المفاهيم السائدة حول بنية الأنظمة الفوضوية. من ضمن إنجازاته العديدة، بحث باريزي الأنظمة الفيزيائية المسماة بزجاج اللف المغزلي: وهي بلورات فيها تنتظم الذرات في الفضاء كما في المواد الصلبة، أما اللف المغزلي (Spin) يمر بين الإلكترونات الموجودة حول أنوية الذرات. الإلكترونات التي تُغيّر اللف المغزلي، تتصرف مثل الجسيمات ذاتها، وهم أكثر حرية كما هو الحال في السائل.  في الشبكة المربعة، وهي مادة بلورية ذراتها مرتبة بزوايا على شكل مربع، يمكن إنشاء توازن بين اتجاهات اللف المغزلي (الدوران) للإلكترونات. أما في الشبكة المثلثية، والتي تشكل ذراتها مبنى شبيهًا بالمثلث، لا يمكن الموازنة بين اللفات المغزلية، ولذلك فهناك عدد لا نهائي من حالات الطاقة المعقدة، مما يؤدي إلى نشوء ظاهرة زجاج اللف المغزلي. صاغ باريزي وحل المعادلات التي تصف سلوكيات الذرات في الشبكة المثلثية، وهكذا نجح في وصف سلوك هذه المادة. من خلال الحل، نجح باريزي في وصف الظواهر النموذجية للأنظمة المعقدة رياضيًا، على سبيل المثال، تذبذبات مختلفة، دوامات وغيرها. اعتمادّا على هذا النموذج، طوَّرَ باريزي الأسس لاستنتاجات مهمة حول أنظمة معقدة أخرى، من مواد معقدة وحتى الشبكات العصبيّة. 

في عام 1986، نشر باريزي بالتعاون مع يي تشنج زانج (Zhang) ومهران كاردار (Kardar) معادلة KPZ، والتي تطرقت للفيزياء الإحصائية ومكنت من دراسة مجموعة واسعة من الظواهر، مثل، كيفية نشوء البلورات على الأسطح. مساهمات باريزي في مجال الفيزياء النظرية وصلت الى مجالات عديدة أخرى، بما فيها، التحول الطوري، الفيزياء الرياضية، نظرية الأوتار، الميكانيكا الإحصائية والمزيد. تطرقت أعماله أيضًا لمجموعة كبيرة من الأبحاث التطبيقية - من بناء الحواسيب، مرورًا بسلوك الجهاز المناعي ووصولًا إلى المبنى التنظيمي لأسراب الطيور المهاجرة.  


بايريزي (في المركز) يتسلم جائزة وولف في السفارة الإسرائيلية في روما. في الصورة أيضًا، من اليمين: الرئيس التنفيذي لصندوق وولف رعوت يانون بيرمن، القائم بأعمال رئيس الصندوق، بروفيسور دان شطيخمان، رئيس جامعة روما أناطوليا فوليميني وسفير إسرائيل في إيطاليا، درور إيدر | تصوير: صندوق وولف.
 
إيجاد النظام داخل الفوضى 
 

نعلم جميعًا أنه من الصعب التنبؤ بما سيكون عليه الطقس لأكثر من بضعة أيام قادمة. جزء من ذلك يعود لصعوبة القياس بدقة في كل إحداثية داخل الغلاف الجوي، لكل العوامل المؤثرة عليه والتي تشمل درجة الحرارة، الرطوبة، الضغط الجوي، كثافة الغلاف الجوي، الأشعة، وكذلك اتجاه الريح وشدتها. على سبيل المثال، أشعة الشمس المُمتصة، تختلف في أوقات مختلفة ومناطق مختلفة. حقيقة أنَّ الأرض كروية تجعل الإشعاع أضعف كلما أقتربنا من القطبين، وميل محور الكرة الأرض يؤدي الى تغييرات في الأشعة، والتي تُنشيء بالتالي فصول السنة المختلفة. تسبب الأشعة ودرجات الحرارة والفوارق في الكثافة والضغط، حركة هائلة للهواء والحرارة بين خطوط العرض بين المحيط واليابسة، وبين المرتفعات في الغلاف الجوي. هذه التحركات تقود نظام الطقس في الكرة الأرضية. 

قبل حوالي مائتي عام، ادّعى الفيزيائي والرياضي الفرنسي بيير سيمون دو لابلاس (Laplace) أنه فقط في حال عرفنا موقع وسرعة جميع جزيئات الهواء في الغلاف الجوي، فسيكون بإمكاننا معرفة حالة الطقس بالضبط في الماضي والمستقبل. على الرغم من أنه كان عالمًا كبيرًا، إلا أن لابلاس كان مخطئًا للغاية. بالإضافة إلى صعوبة قياس كل شيء بدقة، فإنَّ المعادلات التي تصف الطقس غير خطية، لذلك فإنَّ كل تغيير صغير بأي واحد من العوامل يمكن أن يتسبب في تغيير كبير بالطقس. يشار الى هذه الظاهرة احيانًا بإسم "تأثير الفراشة"، نظرًا للمثال الشهير القائل بأنَّ اذا حركة لأحد جناحي فراشة في أحد جانبي العالم يمكن أنّ يتسبب في عاصفة في الجانب الاخر. لقد فهم كلاوس هاسلمان ذلك، وأظهر كيف يمكن التعامل مع أنظمة الطقس الفوضوية على أنها ضوضاء تتغير بشكلٍ سريع، وحساب التأثير طويل المدى لهذه الضوضاء على المناخ. اضافة الى ذلك، احتوت نماذجه في داخلها الفوضى النموذجية للعالم الحقيقي، بينما تستلهم الفكرة من نموذج الحركة البروانية لألبرت أينشتاين.
 

قدم هاسلمان أيضًا مساهمة حاسمة بخصوص القناعة، بأنَّ النشاط البشري هو الذي يسبب اليوم الاحتباس الحراري، وليست الظواهر الطبيعية. وقد وجد أنَّ النماذج، إضافة الى المشاهدات والاعتبارات النظرية، تحوي معلومات مهمة حول الضوضاء وخصائص اخرى. على سبيل المثال، التغييرات في الإشعاع الشمسي، تركيز الجزيئات البركانية في الغلاف الجوي، أو كمية غازات الدفيئة، تؤدي بدورها إلى تغييرات ذات خصائص فريدة، كنوع من بصمة الأصبع، بحيث يمكن التمييز بين مسببات التغيير في المناخ. أتاح استخدام هذه الطريقة فهم أهمية انبعاثات غاز الدفيئة خلال النشاط البشري وتأثيره على التغيّرات المناخية. وهكذا، مهد هاسلمان الطريق لأبحاث كثيرة اضافية، تشمل نماذجَ وقياسات أفضل من أي وقتٍ مضى، التي أظهرت أنَّ النشاط البشري، الذي أدى في القرن الماضي الى زيادة في 40 في المائة من مستوى ثاني أكسيد الكربون في الغلاف ىالجوي، هو المسؤول عن التغيّرات المناخية التي نشهدها نحنُ اليوم. حددت اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) في تقريرها الأخير، الذي نُشر قبل حوالي شهرين، بأنه لم يعد مجالًا للشك في أنَّ ابعاثات غازات الدفيئة جراء النشاط البشري هي المصدر الرئيسي للإحتباس الحراري على الكرة الارضية.

 

دكتوراة في سن ال-22، وجائزة نوبل في سن ال90 

 

ولد شوكورو مانابي عام 1931 في اليابان، وتخرج عام 1957 بدرجة الدكتوراه من جامعة طوكيو. بعد ذلك، انتقل للولايات المتحدة الأمريكية، ودرس هناك نماذج الغلاف الجوي في مختبر مختص في دراسة ديناميكيات التدفق الجيوفيزيائية في الإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA). في عام 1997 عاد إلى اليابان كباحث أول في مجال تغيّر المناخ، وفي عام 2002 عاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وفي سن الـ-90 لا يزال يدير مختبر الظواهر الجوية في الجامعة. وهو عضو في الأكاديميات الوطنية للولايات المتحدة، اليابان والإتحاد الاوروبي. حاز مانابي على جوائز عديدة على أبحاثه، منها، جائزة "الكوكب السيار الأزرق" الممنوحة في اليابان (1992)، وميدالية بنجامين فرانكلين (2015). 

ولد كلاوس هاسلمان عام 1931 في مدينة هامبورج، وفي عام 1955 أنهى تعليمه بدرجة البكالوريوس في موضوعي الرياضيات والفيزياء من جامعة هامبورج. أكمل دراسته لنيل درجة الدكتوراه في جامعة غوتنغن، ثم أصبح أستاذًا (بروفيسور) في جامعة هامبورج. في عام 1975 أسس معهد ماكس بلانك للظواهر الجوية، وترأسه حتى عام 1999. وتقلدَ أيضًا مناصب عامة وفي عام 2001 كان أحد مؤسسي منتدى المناخ الأوروبي. حاز على العديد من الجوائز، منها، ميدالية الرابطة الأمريكية للظواهر الجوية (1971)، ميدالية الرابطة البريطانية للظواهر الجوية (1997) وميدالية الرابطة الأوروبية للظواهر الجوية (2002).

ولد جورجي باريزي في روما، عام 1948، وفي سن الـ-22 كان قد أنهى الدكتوراه في الفيزياء النظرية في جامعة سابينزا في المدينة. عمل في مختبر لبحث الجسيمات الإيطالية وفي سن ال-31 تم تعيينه أُستاذًا في الجامعة التي درس فيها. قائمة الجوائز التي حاز عليها كانت طويلة جدًا، وشملت جائزة بولتسمان (1992)، ميدالية ديراك (1999)، جائزة فيرمي (2002)، ميدالية ماكس بلانك (2011) وكما ذكرنا، جائزة وولف لهذا العام. كتب أكثر من 500 ورقة بحثية، والعديد من الكتب. ومنذ عام 2016 يترأس حركة لإنقاذ البحث في إيطاليا، التي تنادي الهيئات في البلاد وباقي أوروبا الى زيادة تمويل البحث العلوم الأساسية. قيمة جائزة نوبل في الفيزياء قد تساعده في تحقيق هذا الهدف.
 

 

0 تعليقات