النّجم الصّاعد لتخزين المعلومات المحوسبة

يمكن لأولئك، ونحن منهم، الّذين نشؤوا في الثّمانينيّات والتّسعينيّات من القرن العشرين، بما في ذلك كاتب هذه السّطور، أن يشهدوا على الوتيرة المذهلة للتّغيّرات في عالم أجهزة تخزين البيانات، وخاصّة الأجهزة المحمولة. اِستخدمنا في البداية الأقراص المرنة - والّتي استبدلت البطاقات المثقوبة - ولكن بعد سنوات قليلة، ظهرت الأقراص. ثمّ، في عام 2000، ظهرت السّوّاقة (Desk on Key)، وهو نتاج اختراع رجل الأعمال الإسرائيليّ دوف موران. ومنذ ذلك الحين اختفى، باستثناء ظهوره كضيف بين الحين والآخر.

إنّ مكان كلّ هذه الأجهزة المحمولة الصّلبة، وكذلك مكان القرص الصّلب للحاسوب، تشغله إلى حدّ كبير الخدمات السّحابيّة، وسيكون المستقبل لنا، ربّما في تخزين المعلومات في الحمض النّوويّ. بالطّبع، يجب في النّهاية تخزين جميع المعلومات على نوع ما من الأجهزة الصّلبة، في مكان ما في مزرعة خوادم بعيدة، وبالتّالي لا تقف عجلات البحث والتّكنولوجيا في طريق تحسين تخزين المعلومات بشكل أكبر. توجد الآن طريقة جديدة لتخزين المعلومات، تعتمد على طبقات عديدة من الموادّ الحسّاسة للضّوء الّتي يتمّ نقش المعلومات عليها باستخدام اللّيزر.


وتيرة التّغيّرات المذهلة في عالم أجهزة تخزين البيانات: من القرص المرن إلى بطاقة الذّاكرة الصّغيرة | Shutterstock, Kirin Phanithi

قفزة ضخمة في نطاق المعلومات المخزّنة

تعاني محرّكات الأقراص الثّابتة وكذلك الأجهزة السّوّاقة، وهي محرّكات أقراص ثابتة صغيرة الحجم مزوّدة بتكنولوجيا معيّنة، من التّآكل والتّلف. كما قلنا على صفحات هذا الموقع في الماضي، إنّ أشباه الموصلات، الّتي تعتمد عليها محرّكات الأقراص الثّابتة، من بين أشياء أخرى، هي تقنيّة تعود إلى الخمسينيّات. ما زلنا نستخدم هذه الأجهزة حتّى يومنا هذا، إلّا أنّها تستهلك كمّيّات كبيرة من الطّاقة، كما أنّ تكاليف تشغيلها مرتفعة ومدّة صلاحيّتها قصيرة. إذا أضفنا إلى هذه الأسباب الزّيادة السّريعة في استخدام أجهزة الحاسوب وكمّيّة المعلومات المخزّنة، فسوف نفهم أنّ الحاجة إلى التّطوير والتّفكير خارج الصّندوق في مجال تخزين المعلومات أصبحت أكبر من أيّ وقت مضى.

هل قلنا تفكير خارج الصّندوق؟ بتعبير أدقّ، التّفكير خارج المستوى. الأقراص القديمة الجيّدة هي عبارة عن أسطح ثنائيّة الأبعاد، ومساحتها محدودة وفقًا لذلك. ولكن ماذا سيحدث إذا تمكّنا من إنشاء قرص فائق ثلاثيّ الأبعاد من أيّ مجموعة من الأقراص؟ لحظة، كلّ قرص سيكون صغيرًا جدًّا، قرصًا نانويًّا. بالتّأكيد يمكننا تخزين كمّيّات أكبر بكثير من المعلومات بهذه الطّريقة.

بناءً عليه، قادت مجموعة من الباحثين من الصّين خطًّا فكريًّا مشابهًا إلى حدّ ما، الّذين نشروا في مجلة Nature المرموقة اقتراحهم الإبداعيّ حول كيفية تخزين كمّيّات هائلة وخياليّة من المعلومات، والّتي يتمّ قياسها على نطاق بيتا بت. كلّ بيتا بت هو في الواقع مليون مليار بت - مليون غيغا بايت أو ألف تيرا بايت. لأجل المقارنة، كانت الأقراص الّتي استخدمناها لتثبيت البرامج أو ألعاب الكمبيوتر في ذروتها - في منتصف العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين - بحجم غيغا بايت واحد (البايت هو 8 بتات). تتضمّن العديد من أجهزة الكمبيوتر المنزليّة والمكتبيّة المباعة اليوم قرصًا ثابتًا لا يتجاوز حجم ذاكرته بضعة تير ابايت. القفزة المقترحة خياليّة.


تخزين بيتا بت من المعلومات داخل جهاز لا يتجاوز حجمه حجم قرص DVD

كتابة وقراءة المعلومات باستخدام اللّيزر

يكمن جوهر عمل الباحثين في القدرة على إنتاج وحدات تخزين صغيرة - أقراص نانويّة - يمكن من خلالها كتابة المعلومات وقراءتها باستخدام اللّيزر، على غرار ما يحدث مع الأقراص الّتي نعرفها. التّقنيّة الأصليّة، الّتي تمّ تطويرها في السّتّينيّات، كانت تُسمّى ODS (تخزين البيانات الضّوئيّة - Optical Data Storage). تسمّى التّقنيّة الجديدة المقترحة AIE-DDPR (مقاوم الضّوء المحفّز بالانبعاث الصّبغيّ). تشير كلمة "مقاوم الضّوء" إلى مزيج من مادّة حسّاسة للضّوء، وهي في الواقع عبارة عن طبقة رقيقة يمكن نقش المعلومات عليها باستخدام اللّيزر.

تكسر هذه الطّريقة حاجزًا مادّيًّا مهمًّا يُسمّى "حدّ الحيود" (Diffraction limit). الحيود ظاهرة موجيّة تلتقي فيها الموجة، وهي الضّوء في هذه الحالة، بجسم صغير أو ثقب تكون أبعاده مماثلة لطول الموجة نفسها. ونتيجة لذلك، تنحني أشعّة الضّوء ويتمّ إنشاء موجة جديدة بالفعل. عندما ينكسر الضّوء، تصبح الصّورة الّتي ينشئها غير واضحة. ولذلك، فإنّ ظاهرة الحيود تحدّد حدًّا: ما هي أصغر التّفاصيل الّتي يمكن للنّظام البصريّ تمييزها. اِدُّعي مؤخّرًا في مجلة Nature أنّه على الرّغم من أنّ طريقة قراءة المعلومات الموصوفة هنا قد كسرت هذا الحدّ بالفعل، إلّا أنّ هناك تقنيّات وتكنولوجيّات مستقبليّة من شأنها كسر حدّ تجاوز الأصفار الأكبر حجمًا والأكثر تعقيدًا في مجالات فكّ رموز الهياكل البيولوجيّة مثل البروتينات والحمض النّوويّ وأكثر من ذلك.


عندما تلتقي موجة، الضّوء في هذه الحالة، بجسم صغير أو ثقب تكون أبعاده مماثلة لطول الموجة نفسها، تنحني أشعّة الضّوء وتتشكّل بالفعل موجة جديدة. رسم توضيحيّ لظاهرة الحيود  | Fouad A. Saad

وبالفعل، منذ عدّة عقود، نجح ستيفان هيل (Hell) وإريك بيتزيج  (Betzig) ووليام مورنر (Moerner) في تطوير تقنيّة مجهريّة فائقة الدّقّة كسرت حدّ الحيود، ولهذا حصلوا على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2014. يكسر البحث الجديد الحدّ الأقصى للفكرة القائمة بخصوص تخزين المعلومات عالي الكثافة والدّقّة.

يتضمّن "القرص" المطوّر حديثًا مائة طبقة من الفيلم بسماكة نانومتر، يتمّ نقش المعلومات على كلّ منها على حدة، ويتمّ تكديسها فوق بعضها البعض بشكل منظّم فتشكّل بنية ثلاثيّة الأبعاد. في كلّ طبقة فيلم، والّتي تتكوّن من مادّة حسّاسة للضّوء، يتمّ دمج صبغة فريدة من نوعها. يقوم اللّيزر بنقش الأنماط الّتي تشفّر المعلومات في كلّ طبقة عن طريق بدء وإيقاف عمليّة البلمرة الكيميائيّة (Polymerization)، أي ربط الجزيئات الصّغيرة في سلاسل طويلة، والّتي تتم أعلى الفيلم،  تخلق العمليّة نمطًا معيّنًا من النّقش يتكوّن من "نقاط" أبعادها أصغر من حدّ الانحراف. تتمّ قراءة المعلومات أيضًا باستخدام اللّيزر وبمساعدة صبغة التّلوين الفلورية الّتي ينبعث منها الضّوء نتيجة التّعرّض للضّوء.

سوف يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أنْ تصل الأجهزة من هذا النّوع إلى الرّفوف، ولكن من الواضح بالفعل أنّها توفّر العديد من المزايا، بما يتجاوز القدرة الواضحة على تخزين المزيد من المعلومات: يمكن استخدامها لبناء محرّكات أقراص ذات عمر طويل جدًّا وأجهزة حاسوب أقلّ سمكًا ممّا هو موجود اليوم. كما سيكون استهلاك الطّاقة في تشغيل الجهاز أقلّ بكثير مقارنة بالطّرق المستخدمة بشكل شائع اليوم، مثل الأجهزة القائمة على أشباه الموصلات. ولذلك، بالإضافة إلى الإنجاز في مجال تكنولوجيا نسخ البيانات، فهو حلّ مستدام بيئيًّا ورخيص الثّمن. قريبًا (نسبيًّا) في المتاجر القريبة إلى منزلك.

0 تعليقات